أجير الخباز هذه صورة وصفية صادقة لحاطث حدث من يومين ، وكان النهار مصحيا دافئا ، وآلاف الشباب يتبخترون على طرفي شارع فؤاد ، مرجلة شعورهم ، مصقولة وجوههم ، محبوكة ثيابهم يختالون زهوا وإعجابا ، كسرب من الطواييس ، أو كجماعة من ديكة الحبشة ، منفوشا ريشها ، ومئات البنات من كل جميلة صنعتها يد الله ، وذات جمال من عمل الحلاق والخياط وبائع الأصباغ وصانع العطور ، يخطرن ، ينثرن حولهن الفتنة وينشرن الإغراء. وشمس الأصيل تطل من خلال منافذ الشارع الغربية ، كما يطل الأمل من فرج اليأس، فتنقل هؤلاء الناس من أرض الحقيقة، إلى سماء الأحلام ، فيذهبون جمعيا إلى أعماق حلم ذهبي تضيع فيه هذه الرؤوس المتعانقة ، التي غرقت في نشوة الحب ، وغابت في هذا الهمس الناغم، الذي تنسى معه الدنيا وما فيها ، وهذه الرؤوس المفردة التي تتعلل بذكريات لذة ماضية ، وخيالات لذة لم تأت ، أو تغوص في رؤى شيطانية فاجرة من عمل الحرمان. ورأيت في وسط هذا العالم البهيج ، السابح في غمرة النعيم صورة من صور البؤس ، ومظهرا من مظاهر هذا الظلم الاجتماعي ، رأيت صبيا لا أظنه قد أكمل العاشرة ، ضامر الوجنات من الهزال ، بادي العظام ، يمشي حافيا ، بخطى واهنة متقاربة على ساقين كأنهما قصبتان من القنب ، يلبس معطفا واسعا ممزق الظهر يتعثر فيه تعثرا ، فوق قميص رقيق مخرق ، يحمل على عنق دقيق مثل عنق الدجاجة (فرشا) كبيرا عليه ركام من الخبز ، يكاد الغلام ينسحق تحته. وكان هؤلاء المنعمون الذين أثقلتهم التخمة ، وأبطرهم الترف يتحامونه ويبتعدون عنه ، ويضمون أثوابهم أن تلامس ثيابه كأنما هو مجذوم أو مجرم ، أو كأنه وحش كاسر ... ولم يلتفت إليه واحد منهم ، ولم يرحم هذه الطفولة المعذبة ، ولم يقع عليه نظر ، وإنما كانت الأنظار كلها منصبة على تلك العيون التي يتدفق منها الفتون ، وتلك القدود ، التي تميس برقة ، وتخطر بدلال... وكانت السيارة تتسابق تحمل المدللين من أبناء الأمة : الموظفين الكبار الذين تهبط عليهم الخيرات بلا حساب ، والمجدودين من الوارثين وأغنياء الحرب ، واللصوص المختبئين في ثياب الأشراف. ...ومرت سيارة أنيقة فخمة من سيارات الدولة ، فيها سيدة ملفوفة بالفرو ، تكاد تنفزر مما نفخها البطر ، وولد واقف على شباك السيارة ، قد مد رأسه ينظر ويتلهى ، وكأنه يسخر من هذا الشعب ، الذي دفع ثمن السيارة من عرق عامله ، ودم فقيره ليركب فيها هو وأمه ، إلى الاستقبالات ، والمخازن والسينمات. ووقفت السيارة فجأة إلى جنب الغلام الذي يحمل (الفرش) ودفعه أحد السادة حتى لا يدنسه ، فمال على السيارة ، فمس طرف رغيف مما في الفرش ، وجه الولد مسا رفيقا ، وقامت القيامة ، ووقف القسم الظالم من هذا الشعب ، أمام القسم المظلوم ، يمثل الأول ولد السيارة بقسوته وكبريائه ، وأخذه ما ليس له ، واستطالته على من دونه ، ويمثل الثاني غلام الخباز ، بضعفه وبؤسه ، وكدحه وذلته ، وصرخ الولد وأعول ، وهاجت الأم ، ونزل السائق بقوته وبطشه على هذا الغلام ، فضربه حتى كاد يحطمه ، ورمى خبزه ودعسه بقدميه ، وتم ذلك في لحظات ، فما وصلت حتى كان كل شيء قد انتهى ، والسيارة قد مرت كالعاصفة ، لم تخلف ورائها إلا الغلام يبكي صامتا ، لا يرفع صوته ، ولا يستنصر أحدا ، لانه يئس من أن يجد في هؤلاء المترفين إنسانا يصغي إليه. وأسدل الستارة على المأساة ، وعاد الموكب الحالم يتابع طريقه ، يستمرئ حلمه الذهبي المترع بالنشة والشهوة والفتون... وكأن شيئا لم يقع ، لم نقتل العدل ، ولم نظلم الطفل ، ولم تملأ هذا القلب الصغير حقدا على الحياة ، حتى إذا كبر استحال هذا الحقا إجراما فاتكا مدمرا... بقلم الشيخ والأديب علي الطنطاوي رحمه الله رحمك الله ايها الشيخ الجليل . كم عطرت رمضاننا بحديثك الشيق ساعة الافطار . والان لانرى الا مايغيض . لاحول ولا قوة الا بالله . رحمك الله رحمه واسعه تقبل الله صيامكم وقيامكم