!! آه ... لو أعود !! في ليلة لا تسمع فيها إلا صوت الرعد القاصف ، وهيجان الريح المرعب . في ليلة انطفأت فيها الأنوار وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء . في ليلة ممطرة باردة . في ليلة اسودُ ليلها وغابت نجومها . في ليلة حرُك رعبها قلبي ، وهزُ بردها جسمي ، لا أرى مد يدي ، ظلام حالك وجو مرعب ، أغلقت شباك غرفتي لأقلل وحشتي ، انفاسي تتقطع في صدري ، لا أحد حولي ، ولا أمي ولا أبي ، ولا أختي ولا أخي وحيدا فريدا ً مرعوبا خائفا ً، لا استطيع فتح عيني خوفا ً من مصير لا أعلمه ينتظرني. وفجأة و إ ذا بخفقات قلبي تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي ، صحت بأعلى صوتي ، ضاق نفسي ، وبردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت يا إخوتي أصدقائي أغيثوني ما هذا الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل صديقي وأخي وحبيبي ،لكن واحسرتاه .....واحسرتاه..... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي المظلمة . قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني اتنفس من خرم إبرة . ايقنت عندها أنه جاء يطلبني ، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار ، لكن دون جدوى ، كان شديدا ً غاضبا ً مني ، عيناه تحكي حقده عليُ رفض توسلي إليه ، قال باعلى صوته : ألم تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ..... أنت من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني ، بل ويبعدني عن اهلي واحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي ، ويدمر تسليتي بألعابي . ردُ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي. انتهرني قائلاًَ .... لم تنساني ، لم تنساني ...... ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوما ً أنك تطلبني ،ما فكرت يوما ً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي بشبابي. عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلا ً إلى مطار غير مرصوف ، وسادته من التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ، برده يفتك العظام ، يقطع الاوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه العينان على الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يسمع ، وتوسله لا يجاب ، إذا ً قد اصبح بينه وبين الدنيا حجاب ....... صحت' بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود سحبت جسمي واسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا اشعر بالوهن والمرض يدبُ إلي . هل هو الموت ؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت ... بكيت ... رفعت صوتي ، أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام ناظري ، تدحرجت دموعي على خدي ، خوفا ً وهلعا ً أن أفارق الحياه وأنا في ريعان الشباب . آهات وآلام تحفز دموع الندم ، لتقول لي : كم من متعة استمتعتها ، وشريط غناء سمعته ، وصلاة تكاسلت عنها ، ارتعش لساني وخرجت كلماتي : بأي وجه أقابل ربي ؟ كيف أعتذر له وقد خنته ؟ هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبال ٍ إلى النار ؟ الأسئلة الملحة تطاردني ، والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟ الدنيا كلها لن تخفيني ممن يطاردني ، لساني يلهث يردد رحماك ربي ٌ....إلهى اتوسل إليك أمهلني لا زلت في ريعان شبابي ، سفينة حياتي تتحطم على صخرة النهاية . الموت يدكها ..... يحطمها ... يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة.... رحماك يا ربي وما هى إلا لحظات و إذا بباب البيت يفتح مبشرا ً بوصول أهلي ، فرحت فرحا ً لا يوصف ، استجمعت أنفاسي ودبت الحياة لأعضائي ، تحرك لساني ، ناديتهم بأعلى صوتي ، وهو يطاردني جاثم على صدري ، أمي الحبيبة أدركيني ..... حبيبك يغادر الدنيا ، تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك أنفاسه محجوزة ، ومن الموت مفزوعة . أمي الحنون أين أنتِ عني ؟ أين حنانك مني ؟ بل أين حبك لي ؟ اماه امنعيني ومن الموت أجيريني ... حبيبك يموت أماه مدي لي يدك أقبلها ... وأودعها . أشم فيها رائحة المحبة . امي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوما ً عليكِ . أماه إنها .... لحظات الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني . نادتني حبيبي حياتي ، أفديك بنفسي وضعت راسي على حجرها ، وأمسكت يدي بيدها ، بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألما ً فوق ألمي . صحت : آه آه يا أماه من شيء يقطع قلبي ، يمزق أعضائي ، يجري مع دمي ، بل أماه يكسر عظامي ...آه لو تعلمين ... إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد ... زاد بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي ، ليتوب ، ليعود . إلهي لا تخيب رجائي فيك . مددت يدي لأختي .. لأخي .. لأبي .. تعلقت بهم ... وداعا ً أحبتي ... علا بكاؤهم ، وزاد أساهم ، يرون آلامي لا توصف ، تعجز عن وصفها الأ قلام ، ويقف عنها عاجزا ً الكلام ... جبال على صدري ، وهموم تثقلني إلهي من يفرج همي و ينفس كربتي ... اشتد نزعي ، ضاق والله بها صدري .... ينادونني قل : لا إله إلا الله . وذاك يقول : احملوه للمستشفى لا زال فيه حياة . حملت للمستشفى ، استقبلت بحفاوة ، ووضعت بين الأ جهزة في غرفة الإنعاش ............... هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه ، وآخر ينعش ضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا انتشالي من بين فكي الموت ، لقد شد علي ٌ بأسنانه وشد ٌ علي ٌ بأضراسه. وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه ، وانثنى منكسا ً رأسه معلنا ً أمام الموت فشله . خرج لأهلي ، دموعه على خده قابضا ً يده . تعالوا لتحضروا وفاته . دخلوا الغرفة كلهم ، ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي ، بشريط مسجل على لساني ، كنت' مظهرا التزامي وأمامهم مبتعدا ً عن الملهيات والأ غاني ، وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرة . انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء . حقيقة مرة وكذبة كبيرة ، عشت فيها سنين . تذكرت عندها كلام لسفيان الثوري : أكبر خيانة أن يخونك لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف ماهى ؟ إنها الشهادة . وفجأءة تجمع الأ طباء حولي واشتد نزعي ، وصحت‘ بأعلى صوتي : آه آه لو أعود من منكم يزيدني من عمره ساعة .... دقيقة ....ثانية ؟ لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ، كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضا ً من الحزن يديه . وفجأءة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة ، هوت كلها إلى مؤشر الصفر معلنة النهاية ، فدقت أجراسها خطرا ً وعلا صوتها منذرا ً وانطفأت كلها وفاضت معها روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي ، خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيدا ً فريدا ً في غرفة باردة ، تركوني مع أيد ٍ غريبة تقلبني وتلفني بأثواب ، ربطوا بها يدي ، وشدوا بها رأسي ، واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيدا ً لا مرافق لي ، تركني أهلي كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا يجرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت الثلاجة وفتحت لي أبوابها ، حملني اثنان وعن العربة أنزلوني ، وفي الدرج الأول تركوني ، مكان ضيق كأنه لحد . أغلقوا عليُ إغلاقا ً محكما ً ، ثم أقفلوها خارجين و إلى أعمالهم عائدين ، أطفئوا الأنوار ، زاد برد الثلاجة ، كل ما فيها أناس صامتون ، جيران لا يتكلمون ، لا نفس فيسمع ، ولا داعي فيجاب ، تجمدت أطرافي ، كنت أمر بقرب هذا المكان لا أستطيع النظرإليه خوفا ً منه وها أنا اليوم أودع فيها ، يا لها من نهاية ، وما هى إلا لحظات وإذا الأبواب تفتح ، ضجيج وأصوات عالية ، ومن بينهم صوت يقول : أنا أغسله ، وآخر يقول أنا أكفنه . أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي ، كأنهم خائفون مني ، خلعوا ملابسي وستروا عورتي ، صبوا الماء فوق رأسي وغسلوني ، قربوا الأ كـفان ونشروها ثم طيبوها ، حملت بين أيديهم ألقوني بينها ، بدأوا بتغطية وجهي ، أوثقوني بالأربطة ، ما أشده وأظلمه من غطاء ، قبلني أخي و أبي ، واستدعيت أمي فلم تتمالك نفسها ، حنت رأسها علي وقبلتني . تركوني في ناحية المسجد وحيدا ً ، انتهت صلاة الظهر وتداعى أحبتي : إلينا بعبد الله فاحملوه وللصلاة قربوه ، حملت بين الأيدي ، ورفعت على الأعناق صلى الناس وخرجوا . حملت على الأ كـتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبته عند السؤال . أين يا أحبابي ، دعوني معكم ولو ليلة ، أترمون بي ؟ قد كنت خادما أخا ً صادقا ً ، أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ، كم ليلة سامرتكم أضحكتكم . صدق في حديث المصطفى [صلى الله عليه وسلم ] ، حديث قد طرق سمعي لكني لم أعره بالا ً ، تذكرت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا وضعت جنازة واحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها ، يسمع صوتها كل شيء إلا الإ نسان ولو سمعها لصعق .(رواه البخاري والنسائــي و البـيـهـقي و احمد. تنادي جنازتي : دعوني ....أعرف ما أمامي ، إنها أشرطتي و أفلامي ، أنزلوني ....أنزلوني أما تسمعون ندائي .... لا أحد يبالي .... وضعوني على شفير القبر وحافته ، أرى قبري يحفر أمامي يا أبي أتحفر لي لتواريني ، أنظر كأني أعرفه موحش ، مظلم ، مقفر . آه ..... يا إلهي ما أوحشه ، طين وتراب ، صخور كبيرة تكتم الأ نفاس ، هاهم انتهوا وللطين قربوا ، نادوا إلينا بالجنازة مسرعين ينتحبون ، بكاؤهم يزيد يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد ، أنزلوني ، استقبلني أبي و أخي الأ كبر ، وسدوا لي التراب ، وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودعت الدنيا ، وداعا ً أيتها الشمس ، آه .....أيها الظلام ، حلوا رباط أكفاني ، قبلني أبي ودعا لي . نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا بها جسدي ، أصيح فلا مجيب ، أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء ، فإذا بالنداء إلا آذانا ً صماء . زادوا علي التراب ، تراب فوق تراب ، الكل يحثو حتى ردموا الحفرة و أغلقوا معها آخر أنفاس الحياة ، تهيأ للرحيل ...... ذهبوا وأبقوني وحيدا ، ذهبوا وتركوني أسامر الدود ، استقبلني القبر بضمته ، واللحد بغمته ، أخذ التراب ينهال على وجهي ، كفى أيها المستقبلون ، أهكذا تستقبلون ضيفكم : ردُ القبر بصوت مرعب : أما سمعت في الدنيا ندائي : (ما من يوم يطلع فيه الفجر إلا وينادي القبر : أنا بيت الظلمة ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود ، اسمع إلى ترحيبي : إذا وضع العبد الفاجر في جوفي قلت له :لا أهلا ولا مرحبا ً ، أما والله قد كنت أبغض من يمشي على ظهري إلي فقد وليتك اليوم فسترى صنيعي بك . فأضمه ضمة حتى تختلف أضلاعه ، ثم يوكل به سبعون تنينا ً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به إلى الحساب ) (كما في سنن الترمذي ) هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني ، ولكني تباعدت اللقاء بل نسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلا تعود! ، كلا قد فات الأوان . عندها دب ُ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني ، صحت بأعلى صوتي : آه ... آه ... لو أعود آه ... آه ... لو أعود استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بني ُ ما بك ؟ أبي ........أمي .....آه لوأعود . بنيُ من أين تعود ؟ أنت في البيت ، تعلقت به يا أبي أنقذني ، أبعد الدود عن وجهي بني ُ لا تخف أنت في بيتك ، تجمع إخوتي وأنا في صيحة واحدة : آه لو أعود . أضاءوا الأنوار و إذا بي بينهم ... تلمست أيديهم ، عندها أدركت أنني لا زلت على قيد الحياة . آه يا الله ! من حلم ... ما أبشعه ، بل وأوحشه ، قد هز كياني أرعبني ومن الآخر أدناني ، جلست على فراشي ، ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً فاعمل تذكرت الربيع ابن خثيم وقبره : ( حفر له قبرا ً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه للدنيا نزل في قبره ، وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح [رب ارجعون ] فيسمعه أهله فيفتحون له ، وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه . فلما استوحش داخله نادى [ رب ارجعون ] فلم يسمع له أحد . وبعد زمن طويل سمعته زوجته ، فأسرعت إليه و أخرجته . فقال عند خروجه :(اعمل يا ربيع قبل أن تقول رب أرجعوني فلا يجيبك أحد ) صلاح الأمة في علو الهمة ( ::: عرفت انه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة::: كسرت أشرطتي ، أحرقت مجلاتي ، جددت استقامتي البالية ، قطعت حبل كل ودٍّ بزملائي القدامى ، واتجهت إلى ربي : إليك ربي ، إليك ربي فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها ، فوالله بعدها ما هممت بمعصية [تم بحمد الله] مؤلفات الفقير لله :خالد بن عبدالله الشهري