إنك ترى العالم من حولك من خلال منظارك الداخلي , فالخارج يخضع للداخل والواقع أنك لم تولد على هذا النحو , فالطفل الصغير يكون مستجيبا لما يصدر إليه من مؤثرات خارجية , إنه يكون محكوما بقانون اللذة والألم , فما يلذه ينجذب إليه , وما يؤلمه ينسحب وينفر منه , وهذا شئ طبيعي لأن الطفل الصغير لا يكون قد حاز جهازا داخليا متحكما فيه ومسير له , إنه يكون مجرد جهاز إستقبال لما يوجه إليه من مؤثرات خارجية , وشأن الطفل في هذا شأن معطم الكائنات الحية التي تخضع لقانون اللذة والألم في حياتها وفي علاقاتها بعضها مع بعض وفي علاقاتها بينها وبين سواها من كائنات حية , فالطفل الصغير لا يختلف كثيرا عن الكائنات الحية العليا . بيد أن هذا الحال لا يظل مستمرا بينما تستمر نشأة الطفل في أحضان الحضارة الإنسانية التي تتمثل بالدرجة الأولى في أسرته , إنه يبدأ في إحراز أجهزة نفسية تتباين كثيرا أو قليلا في وظائفها واتجاهاتها عما يحيط به من أجهزة وأحداث أو وقائع أو علاقات , إنه يصير كائنا مسيرا بذاته وقد حصل على محور داخلي يدير حياته حوله , فبعد أن يشب الطفل عن الطوق , لا يكون مجرد مستجيب لما يصدر إليه من الخارج من مؤثرات ملذة أو مؤلمة , بل إنه يصير كائنا أخلاقيا يميز بين الخير والشر , وفي هذه المرحلة يحدث التباين فيما بين الخير والشر , وفي هذه المرحلة يحدث التباين فيما بين اللذيذ والخير , وفيما بين المؤلم والشرير , فبعض اللذائذ تتواكب مع هو خير , بينما تعتبر بعض اللذائذ الأخرى من الشر , وكذا فإن بعض ما يؤلم يعتبر شرا , بينما نجد أن بعض ما يؤلم يعتبر خيرا , ومن أمثلة اللذة الشريرة اللذة الجنسية غير الشرعية , ومن أمثلة الألم الخير والأستشهاد في سبيل الحق وأداء الواجب . وبعد هذا المستوى الثاني الذي يرقى المرء , نجد المستوى الثالث وهو مستوى الحق والباطل فثمة إذن اللذة والخير والحق من جهة , وثمة من جهة أخرى الألم والشر والباطل , وهذه كلها دوائر متداخلة أحيانا ومتعارضة أحيانا أخرى في المواقف الكثيرة التي يتخذها المرء في حياته , فالحق أحيانا يجلب المرء خيرا ولكنه قد يصيبه بالألم ,وفي أحيان أخرى قد يجلب له خيرا ولذة في نفس الوقت , وقد يجلب الباطل للمرء خيرا كأن يصيرعظيما في اعين الناس بالكذب والخداع والنفاق, وقد يجلب عليه الشر وقد يتواكب مع الألم أو لا يتواكب في هاتين الحالتين . ويتضح مما سبق أن الحياة الإنسانية ليست حياة سهلة , بل هي حياة معقدة أشد التعقد , فأنت بأجهزتك الداخلية تختار طريق الحياة , والسعادة التي تتوخاها في حياتك , إنما تنبع من رضائك عن إختيارك, فما تختاره وترضى عنه وتؤمن به بشكل المقومات الأساسية في سعادتك , فثمة أشخاص إختاروا الموت وساروا إليه بأرجلهم وهم يحسون بالسعادة والنشوة و فثمة جنود يستشهدون وهم في غاية النشوة فيلاقون الموت بهتاف وسعادة , ومن البوذيين من قاموا بإشعال الحريق في أجسادهم وظلوا ثابتين في مكانهم وقد صاروا شعلة محترقة من غير أن يصرخوا من الألم , إنهم يقدمون على الموت عن إيمان واختيار كاملين , فهم سعداء برغم ما يلاقونه ألم مبرح , ولكن الألم يصير في أنظارهم مدعاة للنشوة والإبتهاج الروحي والأمر في تلك الحالات مرهون بما يتدرب عليه المرء, وبما يأخذ به نفسه من مبادئ روحية . وسعادة المرء لا ترتبط بالخامات النفسية التي جبل عليها , بل ترتبط بما يتم تصنيعه من تلك الخامات النفسية , وتصنيع الخامات النفسية يمكن أن يسير في مرتحل كثيرة ومعقدة , فثمة تصنيع لتلك الخامات يكون بسيطا نسبيا , بينما هناك تصنيع لها يكون معقد أشد التعقد , وعلى أكبر جانب من الدقة , وكلما كان تصنيع الخامات على جانب أكبر من التعقد والدقة , كان المرء بالتالي أكثر قدرة على تسيير دفة سلوكه في وجهات مباينة لما جبل عليه من خامات نفسية بسيطة . فالتدريبات النفسية التي يمارسها أصحاب اليوجا إنما تكون بمثابة تصنيع للخامات النفسية الفطرية التي جبلوعليها وفهم يتحملون ما لا يتحمله الأشخاص العاديون الذين لم يتمرنوا على تمرينات اليوغا , وقل نفس الشئ بالنسبة لجميع التمرينات النفسية المتباينة التي يمكن أن يتمرس بها الناس , وهي التمرينات النفسية التي تخلق فيهم طبيعة أو طبائع أخرى لم يجبلوا عليها أصلا . ولعلنا نقول إن هناك مبادئ يرتكز عليها المرء في حياته ويسير في هديها , ولسنا نجد استثناء في هذا بإزاء بعض الأشخاص , فجميع الناس في جميع العصور يستهدون بمبادئ أخلاقية ونفسية يوجهون دفة حياتهم وفقها. وقد تكون تلك المبادئ مدركة من جانب المرء , أو قد تكن لا شعورية لا يعيها المرء ولا يتبينها بعقله الواعي . ومن جهة ثانية فقد تكون تلك المبادئ الأخلاقية النفسية مبادئ خيرة كما إنها قد تكون مبادئ شريرة ومن جهة ومن جهة ثالثة فإن تلك المبادئ قد تكون مناسبة للواقع الإجتماعي بحيث تسمح للمرء بتحقيق التوافق مع بيئته الإجتماعية وبحيث يكون الشخص إبن عصره , كما إنها قد تكون غير مناسبة لذلك الواقع الإجتماعي فلا يستطيع المرء أن ينجح في تحقيق التوافق الإجتماعي , ويكون الفشل في التوافق الإجتماعي راجعا إلى كون تلك المبادئ مختلفة عن مقتضيات العصر وإنها قد تكون سابقة لما يشيع بالعصر أو بالبيئة من قيم . والسعادة التي يمكن أن يحرزها المرء إنما ترجع إلى المعيار الداخلي الذي يأخذ به نفسه , فهو يتخذ من نبض وجدانه ومن وحي ضميره ومن محور حياته الداخلية معيارا يقيس به سعادته , ذلك إن السعادة هي حالة شخصصية ذاتية لا تتعلق بالمجتمع إلا بطريق غير مباشر , فأنت الذي تحس بالسعادة وأنت الذي تحس بالشقاء , والسعادة لا تترادف مع الفرح والضحك , أو حتى الإبتسام , فلقد تجد شخصا يبكي وهو في قمة السعادة , ألست تحضر مسرحية أو الفيلم المفجع وتبكي بشدة أثناء مشاهدتك البطل الذي يأخذ بلبك وهو يقتل فتبكي عليه وأنت تحس بالسعادة لمشاهدتك تلك المسرحية أوالفيلم ؟ وعلى العكس من هذا فإنك قد تضحك بينما يكون قلبك غير سعيد, فشر الأمور ما يضحك , وكثير من الضاحكين غير سعداء , وكثير من الضحك يتبعه حزن حقيقي أو يتواكب معه غم واكتئاب شديدان . والواقع أن السعادة هي حالة نفسية تنتج عن الشعور بالإنسجام الداخلي , إنها تتأتى لنا عندما يكون الداخل مسيطرا على الخارج , أو قل عندما يكون الداخل فرض شروطه على الخارج , ولعل أن شقاء المرء يبدأ في اللحظة التي تتزعزع فيها تلك السلطة التي يفرضها الداخل على الخارج , فالجندي في ميدان القتال يكون سعيدا إذا كان مؤمنا في دخيلته بالقضية التي يحارب من أجلها , فإنه عندئذ يحس بالشقاء يضرب بأطنابه في أعماقه , وكذا الحال بإزاء الأم التي تضحي بالعرق والجهد والسهر من أجل أبنائها , إنها تستشعر السعادة في تلك التضحية , ولكنها تبدأ في الشعور بالشقاء عندما تحس بعوق أولئك الأبناء وبنكران ما تحملته وتتحمله من أجلهم من تعب وتضحية , فما يجعل الجندي والأم يحسان بالسعدة هو رضاؤهما الداخلي عما يعملان ويضحيان من أجله , وعلى العكس فإن ما يجعلهما يحسان بالشقاء هو فقدان ذلك الرضاء وكفرهما بما كانا يؤمنان به . ولعل السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو : هل من الممكن أن يظل المرء سعيدا بصفة مستمرة ؟ الأجابة بالنفي و ذلك أن سيطرة المرء على خارجيته لا تقيض له دائما . فثمة اوقات تمر بالإنسان تكون سيطرته خلاله على الخارج ضعيفة, فنحن لسنا دائما بقادرين على السيطرة على ما بخارجنا , وقد تهاجمنا أو قد تضعف قبضتنا على حياتنا , أو قد نغفل أو ننسى مبادئنا في بعض اللحظات , ولقد تقع لنا احداث مفاجئى تجعلنا نفقد قبضتنا على مقاليد الأمور , فموت عزيز لدينا أو إصابته بحادثة مفاجئة مفجعة قد يعمل على الإطاحة بما في أيدينا من مبادئ , ولقد نظل على هذه الحال وقتا يقصر أو يطول إلى أن يتسنى لنا الإمساك من جديد بمبادئنا التي نسيطر بها على الخارج . وعندئذ تعود سيطرتنا على حياتنا من جديد , ولقد يصيبنا المرض فيؤثر في إرادتنا ويضربنا بالوهن النفسي , فتضعف قدراتنا على الإمساك بأول خيط في حياتنا, وهو الخيط الذي نسيطر بواسطته من دخيلتنا على ما يدور بخارج حياتنا من أحداث وعلاقات إجتماعية , ناهيك عن الشيخوخة التي كثير ما تتواكب مع الوهن النفسي , ولكن الكثير من الشيوخ قد استطاعوا أن يعدوا أنفسهم منذ الشباب لمرحلة الشيخوخة , فظلوا ممسكين بمبادئهم النفسية والأجتماعية التي عملت منهم شخصيات متماسكة قوية مؤمنة بالقدرة على الهيمنة من دخائل أنفسهم على العالم المحيط بهمم بالخارج , فثمة طاقات نفسية هائلة يمكن بواسطتها تسيير دفة حياة المرء حتى في الشيخوخة والمرض وبعد الحداث الخطيرة والنوائب, ولكن المهم هو مداومة المرء على تدريب نفسه على إستثمار ما جبل عليه من إمكانيات نفسية وروحية غزيرة وخصبة .