في حديقة منفردة بين المروج الخضراء كانت تعيش شجرة المعرفة بين الازهار والرياحين .. مخترقة بجذورها أعماق الأديم كما تريد أن تكشف أسرار الهاوية ... ممتدة بفروعها الى السماء كيفما تريد أن تعانق الأبدية . كأن صوت خرير الجداول يأتي من بعيد متألقا مع حفيف الاوراق مكونا نغمة روحانية توحي بالسكينة .. كل شئ يوحي بأن الطبيعة حافلة بالطهر وتبشر بالمحبة , وفي وسط كل هذا وقف عصفور ( الصدق ) وغراب ( الكذب ) على شجرة ( المعرفة ) يتناحران : بدد السكينة صياح الغراب قائلا : أيها العصفور .. إنني حقا لأرثي لك .. فما أتعسك .. أنك الى الفناء سائر .. فالناس لم يعودوا بحاجة اليك , فقد صرت الآن عقبة امام طموحهم , وحجرا في طريق مستقبلهم , فكم تسبب لهم من الالآم بأمانتك , ومن الاوجاع بوداعتك , فأن كل من يتتبعك تدمى قدميه , وتنوء بالأحمال كتفاه , اما انا فكل من يتبعني يصير عظيما , له من الجاه والسلطان بقدر ما لأتباعك من الضعف والهوان !! فنظر اليه العصفور نظرة ملؤها الاشفاق قائلا .. ما أوضعك أيها الغراب .... أتقارن مصيرك بمصيري ؟ .. أتقارن عبيدك بأبنائي ؟ ..عجبا ! أتصف ترفعي بالهوان وتنعت قوتي بالضعف ؟ .. قوتي هذه التي تمخضت بالتجارب وولدت بالمتاعب إن صراخك لا يسمعه سوى الاجساد الهاجعة والنفوس الراكدة .. أما صوت ترنمي فلا يسمعه سوى من تطهرت نفسه بالمحبة وروحه بالقداسة .. فالأذن التي اعتادت سماع نعيق البوم لاتستطيع أن تميز صوت شدو البلابل . ضحكت الشجرة ( المادية ) وتمايلت بأغصانها قائلة : ما اغباكما ! علام تتشاجران ؟ إن ضمير الناس أقوى منك ايها الصدق فاتركا الناس وحالهم فهم يستعينون بكما عند الحاجة . فاهتزت شجرة ( المعرفة ) بعنف قائلة : هكذا انت أيتها الشجرة المادية تهتمين بما للجسد وتهملين ما للروح ... تفرحين لو كان الجسد متسربلا بالحرير وأن كانت الروح متدثرة بالمسوح , تسرين لو كان الجسد نظيفا ولامعا وإن كانت النفس تفيض برائحة الموت ..! تبتهجين لو كان الجسد نظيفا ولامعا وإن كان القلب يطفح بالأقذار .. حقا ما اجهلك .. وهبت عاصفة هوجاء فطوحت بالازهار وقصفت بالأعواد النامية في غفلة من عيون الطبيعة , فسقط احدها على الغراب فهوى مضرجا بدمائه . ونظر الى العصفور شامخا عيناه تنظران الى اللانهاية يملؤها مزيج غريب من الطهر والقناعة .