دعا مرة رجل فريد في زمانه يدعى الدكتور هايديغر أربعة من أصدقائه المحترمين ليجتمعوا إليه في مكتبه. كان ثلاثة منهم رجالاً ذوي لحىً بيضاء، هم السيد مدبورن، والكولونيل كيليغرو، والسيد غاسكوين، والرابعة سيدة مسنة ذاوية تدعى الأرملة ويشرلي. كانوا جميعهم مسنين ذوي مزاج سوداوي، تعساء في حياتهم، مصيبتهم الكبرى في الحياة انهم لم يواروا في قبورهم منذ زمن طويل. كان السيد مدبورن إبان شبابه تاجراً ناجحاً، ولكنه أضاع كل ما يملكه في مضاربة جنونية بحيث أصبح الآن لا يفضل المتسولين إلا القليل. أما الكولونيل كيليغرو فقد أتلف أحسن سنيه وصحته وكل ما يعيش عليه في مطاردة ملذات الخطيئة حتى سببت له سلسلة من الآلام كداء النقرس وما غليه من أوجاع تعذب الجسد والروح معاً. ولكن السيد غاسكوين كان سياسياً فاشلاً مقضياً عليه، ورجلاً ذا شهرة سيئة، أو على الأقل كان ذلك حتى طمره الزمان من معرفة الجيل الحاضر وجعله مغموراً عوضاً عن أن يكون سيئ السمعة. أما الأرملة ويشرلي فقد أثر عنها أنها كانت ذات جمال فتان في شبابها، ولكنها لزمن طويل مضى عاشت في عزلة بسبب حكايات ملأى بالفضائح، مما جعل الطبقة النبيلة في البلدة تتحامل عليها. ومما هو جدير بالذكر أن كلاً من هؤلاء الثلاثة: السيد مدبورن، والكولونيل كيليغرو، والسيد داسكوين كان عاشقاً قديماً للأرملة ويشرلي، وإن كلاً منهم كان مرة على وشك أن يفتك بالآخر بسببها. وقبل أن أتابع قصتي أود أن ألمح أن الدكتور هايديغر وضيوفه الأربعة قد قيل عنهم جميعاً أن عقولهم ليست على مستواها الطبيعي تماماً، وهذا ليس نادراً مع أناس مسنين مثقلين إ ما بمنغصات الحاضر أو بذكريات تعاسة ماضية. قال الدكتور هايديغر وهو يشير إليهم بالجلوس: (إني أرغب يا أصدقائي القدامى أن تساعدوني في تجربة من تلك التجارب التي أمتع نفسي بها هنا في مكتبي). إذا صدقت كل الروايات، فإن مكتب الدكتو هايديغر يجب أن يدعو إلى الاستغراب جداً. فهو غرفة معتمة على الطراز القديم، موشاة بأنسجة العنكبوت ومنثورة بأغبرة أثرية. وحول الجدران قامت عدة مكتبات من خشب البلوك، اكتظت رفوفها السفلى بصفوف من مجلدات ضخمة بأحرف سوداء. وفوق المكتبة الوسطى وقف تمثال نصفي من البرونز لأبي الطب أبقراط الذي، بموجب مصادر يوثق بها، كان من دأب الدكتور هايديغر أن يأخذ بمشورته في جميع القضايا الصعبة من تجاربه. وفي أظلم زاوية من الغرفة انتصبت خزانة عالية ضيقة من السنديان، بابها مفتوح نصف فتحة يطل من خلالها هيكل عظمي. وبين المكتبتين علقت مرآة صفحتها الصقيلة مغبرة، وهي في إطار مذهب متسخ. ومن بين الحكايات العجيبة العديدة التي راجعت حول هذه المرآة خرافة تقول ان أرواح جميع المرضى الذين ماتوا على يد الدكتور، سكنت في نطاقها لتحملق في وجهه كلما ألقى نظره عليها. وفي الجهة المقابلة من الغرفة انتصبت صورة مزخرفة في الحجم الطبيعي لفتاة في ريعان الشباب في حلة من الحرير والأطلس والقماش المشجر، ذهب بهاؤها كما ذهب بهاء محياها. قبل أكثر من نصف قرنك ان الدكتور هايديغر على وشك الزواج من هذه الفتاة الشابة، ولكنها ابتلعت مرة، بسبب اضطراب بسيط اعتراها، حبة واحدة مما وصفه لها حبيبها، فماتت عشية زفافها. والآن، بقي هناك شيء واحد مما يثير أشد الاستغراب، مجلد ضخم ثقيل مغلف بجلد أسود مكسو بشبكة فضية ضخمة. لم تكن هناك أية كتابة على ظهره، ولا أحد استطاع أن يتكهن بعنوان الكتاب. ولكن الذي يعرف عنه جيداً انه كتاب من كتب السحر. وذات مرة، عندما حاولت الخادمة أن ترفعه لكي تمسح الغبار عنه فقط، قعقع الهيكل العظمي في الخزانة، وخطت صورة الفتاة خطوة واحدة على الأرض، واشرأبت عدة وجوه شاحبة من المرآة، بينما تقطب جبين أبقراط البرونزي وقال: (إياك!). هكذا كان مكتب الدكتور هايديغر. وفي عصر ذلك اليوم الصيفي من قصتنا هذه، انتصبت مائدة صغيرة مستديرة، سوداء كالأبنوس، في منتصف الغرفة، عليها إناء زجاج صخري بديع الشكل والصنع. ودخلت أشعة الشمس من الشباك من فرجة ستار من الدمقس حائل اللون مزركش الحواشي، ونفذت مباشرة خلال هذا الإناء، فانعكس منه بهاء لطيف على محيا الأشخاص الخمسة الرمادية الجالسين حوله. وكانت هناك أربع كؤوس للشمبانيا وضعت أيضاً على المائدة. وكرر الدكتور هايديغر قائلاً: (يا أصدقائي المسنين هل لي أن أعتمد على مساعدتكم في إنجاز تجربة في غاية الغرابة؟). كان الدكتور هايديغر متقدماً في العمر غريب الأطوار جداً، حتى أصبح شذوذه نواة لألف حكاية عجيبة. وبعض هذه الأساطير، أقصها وكلي خجل، ترجع إلى طبيعتي الصدوقة، وإذا كان في القصة الحالية ما يزعزع إيمان القارئ، فحسبي أن أوصم بأنني مروج خرافات! عندما سمع ضيوف الدكتور الأربعة عن التجربة المرتقبة، لم يتوقعوا شيئاً عجيباً أكثر من قتل فأر بمضخة هوائية، أو فحص نسيج عنكبوت بالمجهر، أو عبث مشابه كان دوماً معتاداً أن يقدمه إلى أصدقائه المقربين. ولكن دون أن ينتظر منهم جواباً هرول الدكتور في مشيته المقلقة عبر الغرفة ثم رجع بذلك المجلد الثقيل الضخم المغلف بجلد أسود، الذي أكدت التقارير الرائجة انه كتاب سحر. وبعد أن فك المشابك الفضية فتح المجلد وأخذ من بين ثنايا صفحاته ذات الأحرف السوداء وردة، أو ما كان من قبل يدعى وردة، اتخذت أوراقها الخضراء ووريقاتها القرمزية لوناً بنياً، وبدت الوردة القديمة وكأنها تتفتت بين يدي الدكتور. قال الدكتور هايديغر وهو يتنهد: (هذه الوردة، هذه الزهرة الذابلة المتداعية أينعت قبل خمس وخمسين سنة. كانت قد أهديت لي من سلفيا التي ترون صورتها معلقة هناك، وكنت قد نويت أن أزين بها صدري يوم زواجنا. ولقد احتفظت بها لخمس وخمسين سنة بين أوراق هذا المجلد العتيق. والآن، هل تعتقدون أن هذه الوردة، بعد مرور نصف قرن عليها، من الممكن أن تينع مرة أخرى؟). قالت الأرملة ويشرلي وهي تحرك برأسها حركة مشاكسة: (هراء! إن باستطاعتك أن تسأل أيضاً هل من الممكن أن يرجع وجه امرأة غضين إلى شبابه مرة أخرى؟). فأجاب الدكتور هايديغر: (انظروا!). وكشف الإناء ورمى بالوردة المتيبسة في الماء الذي يحتويه. طفت الوردة في البداية على وجه السائل وبدت كأنها تمتص شيئاً من رطوبته،ولكن لم تمض برهة حتى بدا عليها تغير عجيب. لقد تحركت الوريقات الجافة المضغوطة وبدأت تتخذ لوناً قرمزياً يعمق بالتدريج، كأنما الوردة تنتعش من سبات أشبه بالموت. الساق الرشيق وعروق الأوراق أصبحت خضراء. وهناك بدت وردة نصف القرن يانعة أعطتها سلفيا إلى عشيقها لأول مرة .. ولكنها لم تكن في كمال التفتح، لأن بعض وريقاتها الحمراء الغضة إلتوت باحتشام حول صدرها الندي الذي أخذت تتلألأ فيه ثلاث قطرات من الندى .. فقال أصدقاء الدكتور بعدم اكتراث: (حقاً أن هذا لخداع لطيف جداً.) وذلك لأنهم سبق وأن شاهدوا أعاجيب عظم من هذه في حفلات الحواة ولكنهم أردفوا قائلين: (ولكن بحقك أخبرنا كيف أنجزت هذا؟). فسألهم الدكتور هايديغر: (ألم تسمعوا مطلقاً بينبوع الشباب الذي بحث عنه بونس دي ليون المغامر الإسباني لقرنين أو ثلاثة قرون خلت؟). فقالت الأرملة ويشرلي: (ولكن هل وجده بونس دي ليون؟). قال الدكتور: (كلا لأنه لم يبحث عنه مطلقاً في المكان الحقيقي. وإذا كنت على صواب، فإني أعتقد أن ينبوع الشباب يقع في القسم الجنوبي من شبه جزيرة فلوريدا، ليس بعيداً من بحيرة ماكاكو، يكتنف منبعه ظلال بضع أشجار هائلة من المغنوليا، وهذه الأشجار رغم أن عمرها قرون لا تحصى فإنها قد احتفظت بنضارة كنضارة البنفسج، وذلك بما لهذا الماء العجيب من مزايا. والماء الذي ترونه في الغناء أمامكم أرسله إلي أحد أصدقائي الذين يعلمون شغفي بأمور كهذه). فقال الكولونيل كيليغرو الذي لم يصدق كلمة واحدة من حكاية الدكتور: (إحم! ولكن ما هو تأثير هذا السائل على الجسم البشري؟). فأجاب الدكتور: (ستحكمون على هذا بأنفسكم. وإني أرحب بجميعكم يا أصدقائي المبجلين لتنهلوا من هذا السائل قدراً كافياً يعيد إليكم ريعان الشباب. غير أنني، نظراً لما تجشمته من مشاق عديدة حتى بلغت هذا العمر، لست على عجل في رجوعي إلى الشباب ثانية. ولذا استمحيكم عذراً، فإنني سأرقب سير عملية التجربة فقط). وبينما كان الدكتور هايديغر يتكلم كان يملأ كؤوس الشمبانيا الأربع بماء ينبوع الشباب. ويبدو أن الماء كان مليئاً بغاز فوار،إذ كانت فقاقيع صغيرة تصعد باستمرار من أعماق الكؤوس وتنفجر برشاش فضي على سطحه. ونتيجة للرائحة الطيبة التي فاح بها لم يشك الأشخاص المسنون في أن له خواص مريحة تنعش القلب. ورغم أنهم كانوا في منتهى الشك من ناحية قوته إرجاع الشباب، فقد تشوقوا إلى عبه مرة واحدة. ولكن الدكتور هايديغر رجاهم أن ينتظروا لحظة. وقال: (يا أصدقائي المحترمين، انه لمن المستحسن قبل أن تشربوا، ولكم خبرة حياة كاملة ترشدكم، أن تأخذوا ببضع قواعد عامة تقودكم في السير مرة ثانية عبر مخاطر الشباب. ففكروا في الخطيئة والعار اللذين سيلحقان بكم وقد حزتم على الامتيازات الفريدة التي ستكتسبونها، إذا لم تصبحوا نماذج للفضيلة والحكمة لجميع شباب العصر). لم يفه أصدقاء الدكتور الأربعة بأي جواب، اللهم سوى ضحكة مرتعشة ضعيفة. لقد كانت الفكرة سخيفة جداً. انهم سيشطون مرة أخرى وهم يعرفون ما أقرب خطوات الندامة إثر خطوات الزلل. قال الدكتور وهو ينحني: (اشربوا إذن، وكم يسرني إنني وفقت بانتقاء الأشخاص لتجربتي هذه). وبأيد مشلولة رفع الأربعة الكؤوس إلى شفاههم. فإذا كان الشراب يمتلك حقاً تلك المزايا التي اسبغها عليه الدكتور هايديغر، لم تكن هناك مخلوقات أربعة بحاجة إليه أكر منهم. وكان مظهرهم يدل كأنهم لم يعرفوا الشباب واللذة مطلقاً، كأنهم نتاج الطبيعة الخرفة، أناس شيب أبداً تعسون دائماً، عاجزون، جفت عصارة الحياة في عروقهم، يجلسون الآن منحنين حول مائدة الدكتور بدون حياة كافية في أرواحهم أو أجسادهم تنتعش حتى بفكرة رجوعهم إلى الشباب. كرعوا الماء وارجعوا كؤوسهم إلى المائدة. لقد بان تحسن فوري لا شك فيه على سيماء الجماعة، أشبه بما تحدثه كأس من خمرة سخينة، مصحوباً بتوهج فجائي كالذي تحدثه أشعة الشمس. فتألقت وجوههم مرة واحدة وسرى في وجناتهم إحمرار الصحة والعافية عوضاً عن ذلك اللون الرمادي الذي كان يظهرهم كالأموات. ونظر كل منهم في وجه صاحبه وتخيل أن هناك قوة سحرية قد بدأت فعلاً في صقل الأخاديد العميقة التي حفرها الزمان من أمد بعيد على جباههم. فأخذت الأرملة ويشرلي في إعادة وضع قبعتها من جديد، لأنها كادت تشعر أنها امرأة ثانية .. وأخذوا يهتفون بلهفة: (زدنا من هذا الماء العجيب! نحن أصغر الآن ـ ولكننا ما زلنا هرمين! اسرع وزدنا!). فقال الدكتور هايديغر وهو جالس يرقب التجربة ببرود فلسفي: (صبراً، صبراً! لقد طال الزمان بكم حتى هرمتم، فمن الإنصاف أن تقنعوا بأن ترجعوا إلى الشباب في نصف ساعة فقط! ولكن الماء تحت تصرفكم). فملأ كؤوسهم مرة أخرى بشراب الشباب، وقد بقي منه في الإناء ما يكفي لإرجاع نصف شيب المدينة إلى عمر أحفادهم. اختطف ضيوف الدكتور الأربعة كؤوسهم من على المائدة وعبوا محتوياتها عبة واحدة، والفقاقيع تتلألأ على حفافيها. أكان ذاك وهجاً؟ لقد بدا والغبة ما تزال تجري في حلوقهم إنها فعلت تغييراً في كامل أبدانهم. غدت عيونهم صافية براقة، وأخذ ظل قاتم في الاسوداد بين خصل شعرهم الفضي. وبدا حول المائدة ثلاثة رجال في منتصف العمر، وسيدة لم تكد تتجاوز عنفوان شبابها. وصاح الكولونيل كيليغرو: (يا أرملتي العزيزة، إنك لفاتنة!) وبينما كانت عيناه مثبتتين على وجهها، كانت ظلال الشيخوخة تهرب منه كما تهرب الظلمة من إحمرار الفجر. وكانت الأرملة الجميلة تعرف من قديم أن إطراء الكولونيل لم يكن دائماً يقاس بالحقيقة. ولهذا نهضت وركضت إلى المرآة وهي لا تزال ترتعب لئلا يلتقي نظرها بوجه دميم. وفي هذه الأثناء تصرف الرجال الثلاثة تصرفاً برهن على أن ماء ينبوع الشباب فيه بعض الخواص المسكرة. وما خلا الابتهاج الذي ملأ نفوسهم هناك دوار بسيط سببه زوال وقر السنين الفجائي. وبدا السيد غاسكوين أن عقله انصرف إلى مواضيع سياسية، ولكن أبالماضي كانت تتعلق أم بالحاضر، أم بالمستقبل؟ لم يستطع أن يعرف بسهولة، لأن الأفكار والعبارات هي نفسها دائماً خلال هذه السنين الخمسين. فأخذ يجمجم بملء فيه جملاً عن البطولة، والمجد الوطني، وحق الشعب، وآناً آخر راح يتفوه بأشياء خطيرة بهمس ماكر ملؤه الشك والحذر، حتى كاد ضميره لا يستطيع معرفة ما في سره. ثم انقلب ليتكلم بنبرات موزونة ونغمة مليئة بالاحترام، كأنما كانت هناك أذن ملكية تصغي إلى تقلبات أحواله الحسنة. وفي كل هذه الأثناء كان الكولونيل كيليغرو يثرثر، مغنياً بمرح على إيقاع رنين كأسه، وعيناه ترمقان قوام الأرملة الغض الرشيق. وفي الناحية الأخرى من المائدة كان السيد مدبورن منهمكاً في حساب الدولارات والسنتان، وخلط فيها بشكل غريب مشروعاً لتزويد جزائر الهند الشرقية بالثلج، وذلك بسرج عدد من الحيتان إلى كتل الجليد القطبية .. أما الأرملة ويشرلي فأنها وقفت أمام المرآة تجامل منحنية وتتكلف الابتسام لصورتها وتحييها كصديقة أحبتها أكثر من أي شخص آخر في الدنيا. واقتربت بوجهها من صفحة المرآة لترى ما إذا كانت الأخاديد وغضون ما حول عينيها قد تلاشت بالفعل. وتفحصت إذا كان الثلج قد ذاب كله عن شعرها كي يستطيع أن تلقي بقبعتها المحترمة جانباً. وأخيراً التفتت برشاقة وراحت تمشي بخطوات راقصة نحو المائدة. وهتفت: (بحقك يا عزيزي الدكتور، مُنَّ عليّ بكأس أخرى!). فأجاب الدكتور المضياف: (بكل تأكيد يا سيدتي العزيزة، بكل تأكيد! انظري لقد ملأت الكؤوس سلفاً). وايم الحق لقد انتصبت هناك الكؤوس الأربعة مترعة من هذا الماء العجيب، ورشاشه الذي كان يتطاير عند فورانه يشبه بريق ألماس. وكان قد اقترب غروب الشمس وأمست الغرفة معتمة أكثر من أي وقت مضى، ولكن بهاءً رقيقاً أشبه بضوء القمر شع من داخل الإناء واستقر على الضيوف الأربعة وعلى قوام الدكتور المحترم، وقد جلس على كرسي عالي الظهر متقن الصنع والحفر: جليل الهيئة أشيب الرأس، يليق شكله بابينا الزمان الذي لم يستطع أحد أن يناقش سطوته سوى هذه الجماعة المحظوظة. وبينما هم يكرعون ثالث جرعة من ماء ينبوع الشباب كاد يرهبهم تعبير محياه الغامض. ولكن في اللحظة التالية انبثقت في عروقهم طفرة لذيذة من الحياة الجديدة. لقد أصبحوا الآن في أوج شبابهم السعيد، أما الشيخوخة، وبطانتها التعسة من هموم وأحزان وأمراض، فقد تذكروها كحلم مزعج استيقظوا منه بفرح. وأضفى بريق الروح المشع الذي فقدوه باكراً، والذي بدونه تغدو مشاهد الحياة المتتابعة مجرد معرض صور باهتة، أضفى بسحره على جميع مشاريعهم المقبلة. لقد شعروا وكأنهم خلقوا من جديد في عالم جديد. وراحوا يهتفون بنشوة: (نحن شباب! نحن شباب!). والشباب كالشيخوخة يمحو جميع خصائص الكهولة المنطبعة بقوة ويستوعبها بتفاهم مشترك مع الشيخوخة. لقد أضحوا الآن حلقة من الشباب اليافعين المرحين، وكادوا يجنون بخصب سنيهم الماجنة. ولكن أكثر ما أحدثه مرحهم من تأثير فريد هو انهم أخذوا يهزأون من عجزهم وعاهاتهم التي كانوا ضحاياها لأمد قريب. ضجوا من الضحك على لباسهم ذي الطراز القديم، وعلى معاطفهم الواسعة الجوانب وصداريهم المهدلة، وعلى قبعة وفستان الفتاة الغضة. وراح أحدهم يعرج ماشياً في الغرفة كجد هرم مصاب بالنقرس، ووضع آخر نظارات على أنفه وتظاهر بامعان النظر في الأحرف السوداء على صفحات كتاب السحر، وجلس ثالث على كرسي ذي مساند وحاول جاهداً تقليد الدكتور هايديغر بجلسته المبجلة. ثم راحوا يزعقون بحبور ويقفزون حول الغرفة. ومشت الأرملة ـ هذا إذا صح لنا تسمية فتاة غضة كهذه أرملة ـ بخفة ورشاقة إلى كرسي الدكتور ووجهها الوردي ينم عن مرح ماكر. وهتفت: (يا دكتور، يا عزيزي الغالي، تعال ارقص معي!) وضج الضيوف الأربعة بالضحك لمجرد تصورهم قوام الدكتور العجوز المسكين وهو يرقص. فأجاب الدكتور بهدوء: (أرجو أن تعفيني من هذا. إني كبير السن ومصاب بالروماتيزم، وأيام رقصي قد ولت منذ زمن بعيد، ولكن أياً من هؤلاء الشبان المرحين سيسر ولا شك بشريكة لها هذا الجمال الباهر). وصاح الكولونيل كيليغرو: (ارقصي معي يا كلارا!). وصرخ السيد غاسكوين: (لا، لا، بل أنا الذي سأشاركها الرقص!). وهتف السيد مربورن: (بل أنا الذي وعدتني بيدها قبل خمسين سنة!). وراحوا يتزاحمون حولها فأمسك واحد منهم براحتيها في قبضته الجامحة، وألقى آخر بذراعه حول خصرها، وغرس الثالث أصابعه في خصل شعرها اللامعة المنعقدة تحت قبعتها. فأخذت بدورها تعمل جاهدة في تخليص نفسها وهي موردة الوجنتين تلهث، وتكافح، وتوبخ، وتضحك، ونفسها الدافئ يمر على وجه كل منهم بدوره، ولكنها، مع كل ذلك، بقيت في طوقهم الثلاثي. لم يكن هناك من قبل مطلقاً مشهد أكثر حيوية من هذا التنافس الفتي، جائزته جمال ساحر آخاذ! ولكن خداعاً غريباً وقع، يعود سببه إلى العتمة السائدة في الغرفة وإلى ألبستهم الأثرية القديمة التي كانوا ما زالوا يلبسونها: فقد قيل بأن المرآة الطويلة عكست قوام ثلاثة رجال شيب متهدمين يتشاحنون بسخف على بشاعة امرأة عجوز شمطاء. ولكنهم كانوا فتيين، وعواطفهم الملتهبة أثبتتهم كذلك. لقد بلغ بهم الهياج حد الجنون بسبب غنج الفتاة الأرملة التي لم تتكرم عليهم بمفاتنها، ولم تحجبها عنهم تماماً. فراح المتنافسون الثلاثة يتبادلون نظرات التهديد، والجائزة (القنيصة) الجميلة ما تزال في حوزتهم، ثم اشتبكوا في عراك، ومد كل منهم يده إلى حنجرة الآخر بشراسة. وفيما هم يتأرجحون في صراعهم انقلبت المائدة وسقط الغناء وتحطم إلى ألف شظية، وانساب ماء الشباب الثمين يترقرق على أرض الغرفة، وقد أصاب جناحي فراشة طعنت في السن في أواخر الصيف، وكانت قد حطت هناك لكي تموت، فطارت الحشرة ترفرف بخفة في أجواء الغرفة واستقرت على رأس الدكتور هايديغر الأشيب. وهتف الدكتور: (يا سادة، يا سادة! وأنت يا سيدتي، يجب أن أحتج، وايم الحق، على هذا الشغب). فتوقفوا دون حراك وهم يرتعدون، وخيل إليهم أن (الزمان الأشيب) كان يناديهم ليرجعوا من شبابهم المشرق إلى وادي السنين السحيق القرير المظلم. ورمقوا الدكتور الجالس على كرسيه المنقوش وهو ممسك بالوردة ذات الخمسين من العمر التي أنقذها من بين شظايا الإناء المحطم. وباشارة من يده أخذ المشاغبون كل منهم مقعده باستعداد زائد، لأن جهدهم العنيف أنهكهم رغماً عن فتوتهم التي كانوا عليها. وصاح الدكتور هايديغر وهو ممسك بالوردة في ضوء شمس الغروب التي حجبتها الغيوم: (يا لوردة سلفيا المسكينة! يظهر أنها أخذت تذبل ثانية). وهكذا كان. أخذت الوردة تذوي وتقلص وهم يرمقونها إلى أن جفت وغدت قابلة للتفتت مثلما كانت عندما ألقى بها الدكتور في الإناء. ثم نفض عنها القطرات القليلة من الندى التي تعلقت بوريقاتها وأردف: (إني أعشقها هكذا، كأنها نضرة غضة). وضغط بالوردة الذابلة على شفتيه الذابلتين. وبينما هو يتكلم رفرفت الفراشة على رأس الدكتور الأشيب وسقطت على الأرض. ارتجف الضيوف ثانية، وسرت فيهم شيئاً فشيئاً قشعريرة غريبة لم يعرفوا كنهها، أمن الروح هي أم الجسد؟ ورمق كل منهم الآخر وتخيل أن كل لحظة هاربة اختطفت منهم فتنة وتركت موضعها أخدوداً عميقاً لم يكن له وجود من قبل. أكان هذا وهماً؟ أم أن تغيرات حياة برمتها ازدحمت في فسحة وجيزة كهذه، وانهم الآن أربعة أشخاص مسنين جالسين مع صديقهم القديم الدكتور هايديغر؟ وهتفوا بنغمة حزينة: (هل شخنا ثانية بسرعة كهذه؟). حقاً لقد غدوا هكذا. لأن ماء الشباب امتلك ميزة عابرة أكثر مما للخمر. والهذيان الذي خلقه تبخر وتلاشى. أجل! لقد شاخوا ثانية. أما الأرملة، بدافع مشحون بالقشعريرة أظهرها أنها ما زالت امرأة، فغطت وجهها بيديها المعروقتين وتمنت لو أن غطاء التابوت فوقه، لأنه لن يعود جميلاً أبداً. قال الدكتور هايديغر: (نعم يا أصدقائي، إنكم شيوخ مرة ثانية وها إن ماء الشباب مهروق بسخاء على الأرض. ولن أحزن عليه، وحتى لو انبجس ينبوعه أمام عتبة بيتي، فإنني لن أنحني لأغمس شفتي فيه ـ لا، حتى ولو دام هذيانه المحموم سنوات بدلاً من لحظات. هذا هو الدرس الذي علمتموني إياه!). ولكن أصدقاء الدكتور الأربعة لم يعلموا أنفسهم درساً كهذا. وصمموا على أن يحجوا في القريب العاجل إلى فلوريدا صباحاً، وظهراً، ومساءً، لعلهم يشربون من ماء ينبوع الشباب