في العودة وجع.. ووجع هادئ وعميق يرافق نشوة اللقاء، وفيها بعض التراجع، ولادة قرار يقوض ما سبق.. وفيها إقناع لذات تمردت وأفلتت من مدارها.. فيها حنين لمدار مهما تكاثرت نيازكه وشهبه يبقى يحافظ على أهمية المدار. وعاد، بعد رحيل كان قد قرر نهائياً.. وبعد صراع ومناقشات وحجج طرحت على طاولة أفكاره، ورغم تنبيهات الأهل، إلا أن الحنين أضحى هاجساً، فما كان من كرم إلا أن جمع أغراضاً حاول اقتلاعها من جذورها وزرعها في تربة جديدة وحزم إرادته وعاد. قدماه بدأت تتلمس أرض الزقاق، تلثم غباره، وعيناه تربت على منابع الذكريات باندفاع طفولي تبحث عن وجوه ما فارقت ذاكرته رغم السنين. ووجد بعضها، دكان الحي العتيق وأبا حسن. الدكان لا يزال على حاله مع شيخوخة واجهته، وفوضى ما تعود من أبي حسن تحملها، واقترب أكثر، توقع أن يركض إليه العجوز، أن تتناثر ومضات فرح من عينيه، أن يعيش العودة والاستقبال. لا شيء!! كم شاخ هذا الرجل! ليست خمسة عشر مدة الفراق، ربما وصلت دون أن ينتبه إلى مئات الأجيال، وليس هذا التعب النظرات صاحب دكان طفولة حوت كل حلوى وألعاب الدنيا. ـ أبو حسن.. هزة في يده. ـ ماذا تريد؟ ـ أبو حسن كيف حالك؟ ارتفعت نظراته تتسلق بأعياء نبرات الصوت (كأنه يسمع للمرة الأولى مَن يسأله عن حاله). ـ كرم، صرخ ليكتم بعد ذلك أنفاسه. كاد كرم أن يبكي، أن كان استقبال أبو حسن مبتوراً وهزيلاً، ماذا تبقى له؟ باس الحنين. ـ كأنك لا تريد أن تعرفني. ـ أخاف منك لا تتقبل المعرفة. ـ أبو حسن لا يخاف لا قطط سوداء ولا جرذان ولا هدير الرعد. ـ ما أبعد عما لدينا، لكنك لا تزال كرم، تعال لأعانقك. واشتم أخيراً طيب أبي حسن الذي لا يخاف القطط السوداء ولا الجرذان ولا هدير الرعد. وتحدثا تحدثاً طويلاً: عن كل ما كان يغني الحي ويميزه عن أيام كانت حلوة، ووصل بهم الحديث إلى الحاضر، فخرس أبو حسن وخاف… تركه حائراً، أحس بعودة الضيق الذي حسب أنه كان وهماً، ولم يفهم، لذا عاد يبحث بين ذكريات الزقاق عما يضمد له خيبته الأولى. شباك الجارة، وابتسم بحنان، من منا لم يخف في زاوية قلبه شباك جارة، ربما تزوجت وبعدت، كانت قصيرة بعض الشيء لكنها تميزت بإطلالة جذابة، نسي اسمها من؟ هدى؟ شيء من هذا القبيل، لكن شباك الجارة كان مقفلاً بصورة، وسأل أبا حسن عنها، هل هجرت البيت؟ أين أهلها؟ ـ في الداخل أجاب العجوز رغماً عنه. ـ وهذه الصورة لم وضعوها هنا؟ ـ اسكت يا كرم. ـ عندك بطاريات؟ صوت فيه نشاز وقح، غريب عن الحي ويكلم أبا حسن بهذه البداحة. ناوله أبو حسن البطاريات بصمت،ولم يأخذ منه نقوداً، كذلك لم يسجل في دفتره مشتريات لم يقبض ثمنها. وما أن ابتعد ذو الصوت الوقح حتى تمتم أبو حسن من جديد. ـ اسكت يا كرم. ـ مَن كان هذا؟ ولم تطلب إلي السكوت، طول عمرك تستدرجني إلى الكلام. ولا يجيب أبو حسن، يتركه حانقاً ولا يلتفت لشباك الحارة الذي دفن وراء صورة. سيعود إلى المنزل وسيجد كل الأجوبة لدى أمه، حتى بدون سؤال، تبقى الوالدة مستعدة في كل حين لتقديم تقرير موسع عن أدق الخفايا في الزقاق. ـ عدت.. الحمد لله. لم ينقض على نزوله إلى الزقاق ساعة، وهذا القلق في عينيها. ـ ماذا يجري؟ صاح بها، لا قصف عشوائي على ما أعتقد ولا اشتباكات داخلية، يا أم ماذا يجري؟ ـ اسكت يا كرم وتعال للغذاء. حتى هي، سيجن حتماً، نادى أخاه الصغير: ـ تعال أنت وأخبرني ماذا يجري؟ ـ الشباك مفتوح والشباب تحت، لذا يجب أن تسكت. ـ أي شباب؟ ـ لا تعرف؟ ونظر إليه شقيقه بازدراء ودهشة، كيف لم يسمع بالشباب، وتركض الأم إلى النافذة، تقفلها دون أن تحاول النظر إلى الخارج. ويحرقه الغضب، كلهم تغيروا، ومفاجآت اليوم الأول ليست سارة على أي حال. لجأ إلى غرفته، على الأقل هي لا تزال أليفة. حاول الرمي بكل مسامه، بكل خلاياه إلى سكونها، وأغمض عينيه. نهشه ضوء ساطع وصرخة وقحة، ربما نفس الوقاحة التي تفشت في دكان أبي حسن قبل الظهر. ـ أعطني مسدسك. الصوت والضوء ينبعان من الباحة، ما عرفها يوماً إلا خالية، كانت فيما مضى مهبط الوحي. تقدم إلى النافذة ليكشف ماذا حل بمهبط الوحي.. سيارات بدون هوية مميزة جيبات كانت لشركة الكهرباء أو لشركة الهاتف، أو لمؤسسات الإسعاف وأشياء كثيرة مكدسة هنا وهناك.. ثم قطة سوداء مربوطة إلى جذع شجرة وسيد الصوت الوقح يحاول تحديدها هدفاً بمسدس رفيقه. كأنه أحس به على النافذة، رفع المسدس قليلاً: صوب.. ثم أطلق رصاصته في الهواء مع الضحكة الوقحة إياها.. (خفيف الظل)، همس كرم وجسده ملتصق ببلاط الغرفة. بدا له أن الوقت حان ليفهم، نزل إلى الشارع ووقف عند الشباك والصورة، دهش لكثرة الأصوات الوقحة، والوجوه الممسوخة، شعر بعيونهم المعروفة النظرات تحدق به، أشاح بنظره يتأمل ظله المرتسم على الأرض وحاول أن يسلي نفسه بملاحقة ظلالهم عجبا رغم وجوده معهم في نفس حقل الإضاءة، إلا أن قامات جماعة الوجوه الممسوخة تتفرس في الأرض بلا ظل، عاد إلى وجوههم وقاماتهم وظله، وتساءل لو أن أحداً من العلماء وجد في هذا الزقاق وفي هذه اللحظة بالذات لصعق.. قوم بلا ظلال، أكيد ما حل بالحي ليس بالأمر العادي.. رجع إلى دكان أبي حسن، ووجده مقفلاً، عجيب الساعة لم تتجاوز الخامسة إلا بقليل، أكيد ما حل بالحي لم يكن بالحسبان. مَن يسأل؟ لا أمه تجيب ولا أخاه، وباب الدكان أقفل، حاول الاقتراب من جماعة الأصوات الوقحة، لكنه تذكر القطة السوداء والمسدس، رجع إلى باب البناية ليصعد هو أيضاً إلى غرفته ويقفل النوافذ رغم الحر وقبل وصوله إلى الطابق الثاني، كانوا حوله.. بكل أسلحتهم الخفيفة حاول الاعتراض والتخلص منهم، حاول الصراخ، حتى أمه في الطابق الرابع لم يثر فضولها وتفتح الباب. واقتادوه إلى الباحة (مهبط الوحي) ربطوه إلى نفس الجذع حيث جثة القطة السوداء لم تبعد إلا بضع أقدام. ـ مَن أنت؟ ـ ابن الحي كرم، بيتي في الطابق الرابع. ـ لم نلحظك سابقاً، أين كنت؟ ـ وأنا أيضاً لم ألحظكم مَن أنتم؟ ـ نحن نسأل، ورافقت الملاحظة ضربة بكعب المسدس. أين كنت؟ ـ مسافر؟ ـ أين؟ ـ في بلاد الله الواسعة. نظر أحد المسلحين إلى رفيقه وسأله أين تقع بلاد الله الواسعة! نكزه سراً وهمس (يا جاهل تظاهر بأنك تعرف). ـ متى عدت؟ ـ مس مساء. ـ لم؟ ـ هو الحنين. ـ ماذا قلت؟ ورفسه أحدهم (هو يسخر منا). وتركوه برفقة حارس، بعد قليل سمع جلبتهم، ثم لمحهم في غرفته يعبثون ويحملون ما طاب لهم، ثم يعطون إشارة لرفيقهم، فيطلق سراحه بعد ركلة ويبعده مع بضعة شتائم عن الباحة قبل وصولهم. تستقبله أمه بسيل من اللوم والعنف والحنان. ـ ماذا قالوا لك؟ ألم أحذرك من العودة، أخبرني ماذا فعلوا لم جبينك مدمى؟ جاء دوره الآن. ـ أسكتي يا أم؟ بعد تطهير جرح جبينه عاد إلى غرفته، وأقفل الشباك، ثم جلس يحاول تحليل ما حدث، أو على الأقل استيعابه. ـ ماذا أخذوا؟ سأل أمه. ـ الكاميرا التي أحضرتها لأخيك، بعض القمصان، والعلاقة الذهبية، لكنهم تركوا المفاتيح، المهم أنهم رحلوا وأعادوك، غيرك لم يعاد بهذه البساطة. وقبل أن تسترسل دق الجرس، نظرت إليه بوجل (الساعة أصبحت الثامنة والنصف، ترى مَن القادم؟) الساعة الثامنة والنصف وليس منتصف الليل. ـ كرم تعال بسرعة. نادت الوالدة. في الصالة رجلان، تقدم أحدهم وصافحه قائلاً: ـ أني مسؤول المنطقة، أعتذر عن الحادثة التي جرت منذ قليل، لكنها من الضرورات الأمنية، تعرف الوضع الحالي، والمخاطر الانعزاليين والعملاء.. كان الرجل يتابع الحديث فيما كرم يفكر بأهل زقاقه، مَن منهم العميل والانعزالي، أبو حسن أم جمعة، سكينة أو أبو فاروق أم جماعة الوجوه الممسوخة فاقدو الظل، لكن أمامه مسؤولهم. يتناول القهوة مع ضيوفه الإلزاميين يحاول فهم ما يقولانه، تشكرهما الوالدة على حمايتهما المنطقة وتودعهما وهي تبتلع نظراتها المرعوبة.. لا لزوم للأسئلة فكر كرم، ولا لزوم لفتح الحقائب، ربما أمه تستطيع إقفال الأبواب والشبابيك وابتلاع نظراتها الوجلة ربما أبو حسن يتحمل نشاز الأصوات الوقحة ولا يسجل في دفاتره حسابات لن يمحوها التاريخ، ربما جارته الحلوة تقبل بشباكها مدفوناً وراء صورة، ربما الزقاق كله يسكت عند استباحة ليله بأضوائهم الساطعة ربما الشمس في هذا الزقاق لا تعكس ظلال أصحاب الوجوه الممسوخة، لكن كرم لن يفتح حقائبه، سيبصق حنينه، ولن ينام مخافة أن يضيع منه النهار القادم الذي سيحمله من جديد إلى بلاد الله الواسعة.