أنظر إليهم فأفرح وأخاف.. سبب الفرحة معروف، فهم ثمار عمري كله.. ولذا ـ أيضاً ـ أخاف عليهم من الحسد، ومن التعرض لأي مكروه ـ لا قدر الله.. إنهم أبنائي الثلاثة.. فرحة عمري وسبب حبي للحياة، ورغبتي في الاستمرار فيها، حتى أطمئن عليهم جميعاً، وقد استقر كل واحد منهم في بيت الزوجية، وأنجب وعاش سعيداً مع رفيق حياته الجديد.. في هذا الوقت سأشعر باكتمال دوري في الحياة، وسأكون على استعداد تام لتركها في أي وقت، وقد ارتاح قلبي لقيامي برسالتي على أحسن وجه.. وعندئذ أشعر أنني سألقى ربي بضمير (مرتاح)، وكلي ثقة في عطاء ربي، الذي لا يضاهيه أي عطاء.. أما زوجي، أو الرجل الذي قاسمني أنا وأبنائي رحلة الحياة، فأدعو الله أن يسامحه على كل ما فعله بنا طوال سنوات طوال.. وأعود بالذاكرة إلى بداية تعارفنا.. كان يبدو سمح الوجه.. ينتقي كلماته بعناية ويحشدها بالمجاملة المهذبة.. وسرعان ما تقدم لخطبتي.. ووافقت فلم يكن هناك سبب قوي للرفض.. وتزوجنا.. وفي الأشهر الأولى للزواج اكتشفت طباع زوجي الحقيقية حيث يثور لأتفه الأسباب.. ولم تكن ثورته طبيعية، ولكنها كانت مصحوبة بهياج عصبي وألفاظ سوقية بشعة للغاية، وفي البداية كنت أحاول تهدئته وإقناعه بأنه لم يحدث ما يستوجب كل هذه الثورة، فما كان ذلك يزيده إلا مضاعفة الهياج وألوان السباب المختلفة، فلا أجد أمامي سوى البكاء لانعدام الحيلة.. ولم يوقفه بكائي بل ـ غالباً ـ ما كان يزيد من حدة ثورته.. فأظل أدعو بشكل متواصل أن يكرمني الله، ويسبغ عليه الهداية، ويرحمني من نيران ثورته، التي لا أعرف كيف تبدأ أو أسبابها حتى يمكنني العمل على تجنبها.. وأقسم بربي أني لا أتجنى عليه أو أدعي زوراً ما لم يحدث.. فإن زوجي صاحب شخصية مزاجية شديدة التقلب.. فأحياناً كنت أضع الطعام على المائدة، وأنا أرتجف لأن هناك خطأ ما في أحد الأصناف، وابتهل إلى الله حتى يمر الأمر بسلام.. وإذا بزوجي يلاحظ الخطأ ويعلق عليه بسخرية بسيطة، أو ـ بكل هدوء ـ يطلب مني مزيداً من الانتباه في المرة القادمة.. ولا أكاد أصدق أن الأمر قد انتهى ـ فعلاً ـ عند هذا الحد.. وفي أحيان أخرى.. والطعام أفضل ما يمكن أن يكون، والأبناء يذاكرون في جدية، وإذا بزوجي ينطلق في ثورة غضبه بلا أي مبرر.. وعبثاً أحاول أن أفهم السر وراء ذلك.. وبمرور الوقت اكتشف أنه يفعل ذلك، عندما يكون متضايقاً من أي شيء خارج المنزل، وبالطبع لم أحاول إقناعه بأن ذلك ليس من العدل، بل إنه من الظلم أن (يحاسبنا) على مشاكله خارج حدود البيت، أو أن أطلب منه بدلاً من ذلك أن يحكي لي مشاكله بهدوء؛ حتى أمتص غضبه، ونفكر سوياً في ايجاد مخرج مناسب لها، أو على الأقل أستطيع تهدئته.. ولم أفعل ذلك ليس لعدم حرصي عليه، فأنا أخاف عليه بالفعل، ولم لا.. فهو والد أبنائي، ورمز للأسرة كلها، ولا شك أن الحفاظ عليه وعلى صحته وتدعيمه في عمله ومساعدته في النجاح فيه، من أهم أدواري في الحياة، بالطبع بعد دوري كأم.. ولكنني لم أستطع إخباره بذلك في أوقات ثورته، وما أكثرها، حتى لا تزداد عصبيته وتتضاعف.. ثم تعلمت ـ فيما بعد ـ عندما تأتيه هذه النوبات الهادرة أن أكتفي بترديد أن كل شيء سيكون على ما يرام. وأننا لن نغضبه أبداً، وكلنا حريصون على راحته؛ لأنه رب العائلة، وما إلى ذلك من كلمات أرددها بصوت هادئ؛ حتى أقلل من الآثار الضارة لهياجه العصبي.. ويعلم الله كم تعبت كثيراً وأنا أقسر نفسي على قول هذه العبارات وما شابهها.. وأنني كنت أود لو أصرخ فيه بدلاً من ذلك، وأخبره كم أعاني من الحياة معه، وبافتقادي للأمان النفسي.. ولكنني كنت أتماسك من أجل أبنائي، فإنني أعلم جيداً مدى الخسائر الفادحة التي يمكن أن تصيب الأبناء، فإنني أعلم جيداً مدى الخسائر الفادحة التي يمكن أن تصيب الأبناء ـ لا قدر الله ـ عندما يرون الوالدين وقد تشابكا بالمشاجرات المتواصلة.. كما أن زوجي من النوع الذي لا يتعب من الصراخ.. أما أنا فسريعة التأثر بأي انفعالات.. لذا قررت منذ سنوات عديدة أن أعيش في حدود واقعي، الذي لا أملك بالفعل تغييره، وهذا ليس ناتجاً عن سلبية والعياذ بالله، ولكنه حصيلة قراءة واعية للواقع، كما هو، وليس كما أتمنى وجوده.. وتعلمت ـ بمرور الشهور والأعوام ـ كيف أتعايش مع ثورات زوجي، ولم أعد (أفزع) منها، ولكني لا أزعم أيضاً أنها لم تعد تضايقني على الاطلاق. واستفدت من نصيحة أمي ـ رحمها الله ـ التي أوصتني باقامة علاقة قوية مع أبنائي، وأن أكون بمثابة الصديقة لهم التي لا يخافون من سرد أسرارهم لها.. لأن زوجي لن يستطيع أن يكون الصديق لهم، لعصبيته الدائمة، وعدم قدرته على التحكم في لسانه السليط، أو بمعنى أدق عدم رغبته في ذلك، فلا شك أنه لا يتعامل مع رؤسائه كما يتعامل معنا، وأيضاً مع أصدقائه، فإنه يستطيع السيطرة على عصبيته معهم، أما مع أسرته فإنه كما يقول يكون بطبيعته (وعلى راحته)، ولا شك أن هذا شيء غبي ورديء، وضد المنطق أيضاً، إذ أرى أن من الذكاء أن أمنح أهلي وأسرتي والمقربين إليّ أفضل ما عندي من مشاعر؛ لأنهم الأحق بذلك من الغرباء.. وأشعر بالضيق الآن من ترديد هذا الكلام الذي أجهدني طويلاً، ولذا أفضل الحديث عن أبنائي.. فهم ـ ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ قد نجحوا ثلاثتهم في حياتهم الدراسية، وكانوا من الأوائل دائماً في جميع المراحل، وتم تعيين الابن الأكبر معيداً في كلية الطب، أما الابن الأوسط فقد تخرج من كلية الهندسة بتقدير جيد جداً، والتحق بالعمل في أفضل المكاتب الاستشارية الهندسية، وما زال الأصغر طالباً في كلية الطب أيضاً.. ولا أزهو بأبنائي بسبب تفوقهم العلمي فقط، ولكن أيضاً بسبب أخلاقهم الرائعة، وسلوكياتهم الراقية، فقد حرصت منذ صغرهم على أن يتعلموا مني أصول التعامل اللطيف مع الناس، وكيف يكون اللسان حلواً والابتسامة لا تفارق الشفاه، ولا يخاطب أحداً إلا مسبوقاً بكلمة (حضرتك)، وما إلى ذلك من أبجديات حسن التعامل مع الناس.. كما كان بيننا اتفاق معلن.. أن مَن يخطئ منهم، ويأتي ليخبرني بنفسه بما فعل فإنني سأسامحه على الفور، أما مَن يكذب فليستحق العقاب والخصام أيضاً.. وأستطيع أن أقول والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله أنني نجحت بدرجة امتياز في تربيتي لأبنائي، وأن الله سبحانه وتعالى قد عوضني خيراً عن صبري الطويل مع والدهم؛ فمنحني خير الأبناء وأفضلهم، وكيف لا أقول ذلك وأنا أرى تدينهم وبرهم بي.. مما يثير غضب والدهم كثيراً الذي يردد أمامهم.. أنتم أبناؤها ولستم أبنائي.. أخذتم مني الاسم فقط وبعض الملامح، أما هي ـ ويشير إليّ ـ فقد أخذتم كل طباعها وتشبعتم بها.. فيضحك الابن الأصغر ويقول هذا من رحمة الله بنا.. وقبل أن يثور زوجي، أسارع بلوم ابني، وأنا أقاوم أن أنهض لاحتضنه؛ لأنه نجح في التعبير عما يدور بداخلنا حقيقة.. وعندما أتأمل حياتي مع زوجي، أجدها عبارة عن مشاكل كثيرة للغاية، تتخللها بعض أوقات صغيرة من (الهدنة)، والتقاط الأنفاس، والاستمتاع ببعض من الراحة، ولا أنكر أن زوجي رجل طيب القلب، وإن كانت تقلباته العصبية قد أنهكتني طويلاً، لكنني كنت أتذكر دائماً أنه صاحب أخلاق محترمة، فلم يحدث مرة أن خانني، أو حتى جرح مشاعري بالنظر إلى أي امرأة أخرى أو انشغل بها.. كما أنني كنت أتحايل بكل الطرق حتى لا أشعر أبنائي بحرص أبيهم (الزائد) على عدم إنفاق النقود، وهو ما يقترب من البخل، وحرصت ألا يعرفوا ذلك؛ حتى لا تسوء صورة الأب في أذهانهم بأكثر مما هي عليه.. ولكنهم عرفوا بالطبع.. وحاولت تفسير ذلك بأنه قد مر بظروف قاسية في بداية حياته، جعلته يعرف أهمية (القرش) ويجاهد حتى لا ينفقه في غير موضعه.. وعلى الرغم من ذلك فإنهم اعتادوا اللجوء إليّ لطلب المال لشراء الكماليات، التي يحتاجون إليها، ولم أكن أتردد في تلبية رغباتهم ما دامت في الحدود المعقولة، وحتى لا يشعرون بأحاسيس النقص، عندما يقارنون بين حياتهم وحياة أقرانهم من العمر نفسه والمستوى الاجتماعي أيضاً.. وقد ساعدني على ذلك بعض من ميراثي عن أبي، فضلاً عن دخلي من عملي.. وهنا لابد من التوقف.. إذ أشعر ببعض من الأسى، عندما أتذكر عملي، فيبدو أنني قد أضعت حقوقي فيه أيضاً، كما ضاعت مني كثير من الحقوق مع زوجي ـ سامحه الله ـ وأعترف أنني برغبتي الشديدة في العيش بسلام ـ سواء في البيت أو خارجه، ومنع التصادم لأقصى درجة ممكنة ـ قد أعطيت للآخرين انطباعاً أنني محصنة ضد القتال ـ إن جاز هذا التعبير ـ أو إنني لست على استعداد للدخول في أية معارك لاسترداد حق مسلوب.. ولذا فقد تجاوزوني في الترقية مرات في العمل، وبرروا ذلك بأنني لست بصاحبة شخصية قيادية في العمل.. ولست أدري من الذي قال أن الانسان الودود الذي يحترم انسانية كل مَن يتعامل معهم، لا يصلح لمنصب الرئيس. وإن كنت أعترف أيضاً أنني ينقصني بعض الحزم.. وهذا ليس ناتجاً عن ضعف، بل ربما لأنني أشعر جيداً بمشاكل الآخرين، وأتعاطف معها بقوة، وأبحث لهم عن مخرج منها، حتى (لا أضطر) لعقاب أحد المرؤوسين.. وأشعر الآن بأنني قد تضايقت عندما تكلمت عن عملي كثيراً.. لذا سأنتقل إلى نقطة أخرى تسعدني كثيراً، وهي احتفاظي بدرجة عالية من الشباب والجمال، وأنني أبدو أصغر كثيراً من سني، وكل مَن يعرف بأن لي أبناء قد تخرجوا من الجامعة يندهشون بشدة، والسر في ذلك يرجع إلى عدم السماح للبدانة بأن تقترب من جسدي، وأيضاً إلى قيامي بوضع رتوش خفيفة من الماكياج.. فأنا أعرف أنه كلما تقدم سن المرأة يجب الإقلال من الماكياج، وليس الإكثار منه؛ لإضفاء مظهر أكثر شباباً فضلاً عن حرصي على ارتداء الألوان الفاتحة والمشرقة.. والأهم من ذلك كله أنني صاحبة نفس راضية بكل ما رزقني الله به من نعم وأهمها أبنائي.. حتى زوجي فإنني (أرحب) بوجوده في حياتي، على الرغم من كل الزوابع والأعاصير التي يصوبها نحونا لأنه والد أبنائي.. الذين أدعو لهم الله دائماً بأن يحميهم من كل أذى، ولا أسمح لأحدهم بمغادرة المنزل، قبل أن يرددوا الأدعية، ودائماً أقوم برقية كل منهم على حدة؛ حتى يحفظهم الله من كل الشرور