ويكاد القنديل لينطفئ والفتيلة تجف عصارتها وتترنح شعلتها مجاهدة لئلا تسقط في العتمة والسامرون في الليل يخالون أنفسهم كأشباح ثلاثة وخيالات ومجللة بصمت ويسرعون لإمداد الشعلة بالزيت وانقاذها من الموت المحقق علهم يستطيعون. وأخذ البرد تتفاقم شدته والرطوبة في تلك الأقبية المنخفضة المدلهمة تجلد الأبدان وألحت العاصفة بالعواء والعويل والصراخ كأنها مراث ونياح وخيل إلى الأشباح الجاثمة وسط الظلمة المشرئبة الرابضة القابضة كأن أعصاراً هائلاً مدمراً ابتدأ يأتي على كل شيء ويبتلع في جوفه الدوار المريع المهلك كل قائم وحصيد وإذا الريح تصفر وتصرصر وتعتو وتزمجر وتحطم السدود والأبواب فيصل إلى تلك الأمكنة المهجورة الواطئة تحت الأرض منها نذير وتخويف وإرعاب. وفجأة اهتزت الأبنية ومادت بالجلوس وزلزلت الأرض زلزالها وكاد القنديل أن يقع فينكسر لولا أن أسرع الجبل والحياة والشاب فأعادوه إلى نصابه بعد تخبط واهتزاز. قال الجبل مبتسماً مخاطباً الشاب: أراك خائفاً مرتعباً. قال الشاب: نشأت تواقاً للمعرفة فاعتصرتني محدلة رحى الأيام في أتونها الصخري ودرستني أنيابها الرخصة الخالية الخواء سحقاً وتعصيراً. يولد الناس أعفاء أتقياء مختومون للجنة مخترمون للفهم وولدت باغياً طاغياً كافراً مسحوراً مبهوراً مضاماً مقهوراً. وتطلعت إلى السماء فلم تجب بوعد وتطلعت إلى الأرض فوجدتها غضبى غادرة. ونفسي المعذبة تقول ظللت صامتة وظللت عطشى. أنا قصبة جوفاء في مهب الريح القاتم المريع نشأت في أهوال الزمن ذرة تتقاذفها الريح فما لنت لبنياته القتيمة. قال الجبل: هوِّن عليك. لعل هذا خير لك فإني أخبرك أن عين الأقدار قد اختارتك منذ الصغر لتكون معارضاً محارباً عبادة هؤلاء البشر للبشر والأصنام وهم يدعون حاسبين أنفسهم عابدي الله الحي القيوم. وان الأقدار الإلهية قد عركت عيدانها وعجنت سهامها فوجدتك أشدها صلابة وثباتاً وتمرساً في سبيل الحق فأعدتك لحرب ذلك الطاغية الذئب وأمثاله والنضال والكفاح من أجل النهضة والمبدأ وتقويض الأنظمة الفاسدة المسيطرة المستعمرة سياسية ودينية وفكرية. وأنت تعلم لابد من مرورك بهذه التجارب والآلام لتصفو وتختار للهدف الحق كما الذهب يتألق بعد امتحانه في النار وأنت تعلم حقاً الآية (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنت لا تعلمون). ان ما تصادفه من شرور وظلم وآلام ومآسي واضطهادات في كفاحك اليوم الذي تراه هباء بلا نتيجة ستراه بعد وقت الأساس الحق الصالح لبناء مستقبلك ومستقبل أمتك فالجهاد والألم والأتعاب ضرورية لصهر معدن النفس وبناء المبادئ والأوطان. قال الشاب: شكراً لك أيها الجبل العزيز الحبيب هذا التشجيع ولكن متى. قال الجبل: لا تعجل كل شيء بوقته يكون في تقدير الله العلي الحكيم وسيكون قريباً إن شاء الله. وعاد الجبل يقرأ. وفي زاوية من ميناء تلك البلدة في إحدى منعطفات الحياة حدثت حادثة مؤثرة أمسك لها التاريخ قلمه باهتمام ليسجلها وهذا ما كتب. ثار الشعب وتعكر وفار وصفر وجعر وجهر وشخر ونخر وتعرى وتعرر وتسمر وسعر وسدر وسكر واستقشر واستكبر وقال: ان هذا إلا عدو البشر وخائن متباه مستنفر اقتلوه أو اصلبوه وانصروا الزعيم. وبين الجموع كان يقف شاب صامتاً هادئاً مبتسماً رافعاً نظره إلى السماء غير مبال بالغوغاء. وازدحموا عليه وأحاطوا به وأرادوا به كيداً وقتلاً وسحلاً وتشهيراً وصاحوا بأصوات متقطعة متنافرة كأنها هدير موج بحر صاخب. الخائن عدو الشعب عدو الوالي كيف يجرؤ على خيانته كيف يتحدى الوالي اقتلوه وأمثاله من الخونة العملاء في كل البلاد. وأحبوا أن يطبقوا نظام الديموقراطية لأنهم عادلون فأعطوه الحق بالكلام ليدمغوه بعصيان الزعيم وعندئذ يمزقونه ارباً ويقطعونه تشفياً وطرباً. الشاب يتكلم. أيها الشعب الطيب أيها الأخوة الأوفياء. وصاحوا لا لا انه يخدعنا ويستميلنا ويسترضينا بكلامه احذروه احذروا خداعه كلا لسنا إخوته لسنا ولا نقبل أن نكون أخوة الخونة الشعب عدو الخونة يقتل العملاء انتظروا انتظروا ليكمل اعطوه فرصة أخيرة. ـ ان الله أعطاكم العقول لتفكروا. ـ نعم نعم اسمعوه ليكمل. ـ وإنني معكم أؤيد الزعيم المحبوب كلنا يد واحدة. ـ ولماذا إذاً. ـ اسمعوا لي لأكمل أيها الأخوة الأحباء المخلصون. ـ لا لا لا تتركوه يكمل لا تدعوه يكمل بلى اتركوه ليكمل لنرى ماذا يقول لنثبت خيانته. ـ ان الوالي أدامه الله وأعزه زعيم عظيم وحنون طيب القلب. ـ نعم نعم ولماذا إذاً عميل ها ها قد بان كذبه أنه يخدعنا. وأمسكوه من تلابيبه. لا لا اتركوه ليكمل لعله يريد أن يقول شيئاً أيضاً أعطوه فرصة ثم بعدها نقتله عدلاً وحقاً وقصاصاً ووطنية ووفاء. ـ انه في كل قوانين دول العالم الراقية يطلب تخفيف حكم الحكام. ـ كلا كلا أنت خائن لماذا تعطف أنت عدو الشعب تعطف على الخونة العلماء أنت عدو. وهاجوا وماجوا. أي انسانية هذه للخونة الذين يريدون قتل الشعب كله لا انسانية لأعداء الشعب العربي. لقد ثبتت إدانته نعم انه يتحدى انه يعارضه يعترض على أحكامه وأقواله وأفكاره وقراراته النزيهة ونواياه الشريفة ووصاياه الحرة التي لا ريب ولا شك فيها هل أنت تعرف أحسن. فلماذا إذاً تعترض وتشق كلمة الشعب وتعمل التفرقة. اقتلوه اذبحوه مزقوه. آه يا أعداء الشعب لنسحقنكم ولنقتلنكم ولا يبقى إلا الشعب. وكان أول مؤججي ومحرضي الشعب ضد الشاب. حركات كثيرة تدعي الوطنية وهي سم في دسم. لا بأس فإن الوساخة هي الوطنية في هذه الأيام. ووقف الشاب بين تلك الأصناف الحيوانية وهي محيطة به وابتسم ساخراً لقد أصبح الوطني خائناً والخونة والأحزاب المارقة والجماهير التافهة الغوغائية والحيوانات البدائية وطنيين صالحين بنائين أوفياء. كان هذا في تلك المدينة