" جاء فى سورة النساء : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (1). ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل :
كلام الله لا يتبدل
كلام الله يتبدل
هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم ، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذى وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم .
الرد على الشبهة : الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس : ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية النحل ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا . فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة . فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد . ومحال أن يكون إنسان ما لا حى ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلى إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون . والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) معناه لا تبديل لقضاء الله الذى يقضيه فى شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية . ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصرالموجودات ، أو تغييرات تطرأ عليها . كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة . هذه هى كلمات الله عزّ وجلّ. وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى بـ . . السنن وهى القوانين التى تخضع لها جميع الكائنات ، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات . إن كل شىء فى الوجود ، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التى ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون . ذلك هو المقصود بـ " كلمات الله " ، التى لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً . ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) (8) . فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا ؟ فكلمات الله - إذن - هى عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات . ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية : ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية : ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) . لأن معنى هذه الآية : إذا رفعنا آية ، أى وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضون الأولى . قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتَرٍ (9). فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى . فالآية فى سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) والآية فى سورة النحل : ( وإذا بدلنا آية مكان آية . . ) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً . وهيهات هيهات لما يتوهمون .
* * *
أما الآيتان ( لا مبدل لكلماته ) و( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق . هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود : فآية الكهف ( لا مبدل لكلماته ) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات . وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس . وحتى لو كان المراد من " كلماتـه " آياته المنـزلة فى الكتاب العـزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهى باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10). أما آية البقرة : ( ما ننسخ من آية . . . ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التى يجريها الله على أيدى رسله . ونسخها رفعها بعد وقوعها . وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل . بدليل قوله تعالى فى نفس الآية : ( ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير ) . ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شىء قدير . فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض .
* * * أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وآية الرعد : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمنى ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها . والإنجيل الذى أنزله الله على عيسى عليه السلام . أما الآية الثانية : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فهى إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد . فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه ( لا يُسأل عما يفعل وهم يُسـألون ) (11) . فأين التناقـض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى . أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفى بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره . وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز : 1- إنهـم توهـموا تناقضـاً بين قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (12) . وبين قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (13) . وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التى تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفـارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض . ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد .
فالعارج فى آية السـجدة الأمر ، والعـروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة . اختلف العـارج والعـروج فى الآيتين . فاختلف الزمن فيهما قصـراً أو طولاً . وشرط التناقض ـ لو كانوا يعلمون ـ هو اتحاد المقام .
2- وقالوا أيضًا : إن بين قوله تعالى : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) (14) . وقـوله تعالى : ( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) (15) تناقضا . وشـاهد التنـاقض عندهم أن الله قال فى الآية (13) ( وقليل من الآخـرين ) وقال فى الآية (40) ( وثلة من الآخرين ) إذ كيف قال أولاً : ( ثلة من الأولين * وقـليل من الآخرين ) ثم قال ثانياً ( ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين ) ولو كان لديهم نية فى الإنصاف ، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق . ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم . هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام ؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سـورة الواقعة ، يوم القـيامة ثلاثة أقسام . فقال : ( وكنتم أزواجاً ثلاثة ) : * السابقون السابقون . * وأصحاب الميمنـة . *وأصحاب المشئمة. ثم بين مصير كل قسـم من هـذه الأقسام فالسابقون السابقـون لهم منزلة : " المقربون فى جنات النعيم " ثم بيَّن أن الذين يتبوأون هذه المنزلة فريقان : كـثيرون من السـابقين الأوليـن ، وقلــيلون من الأجيال المتأخـرين وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات . ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل . أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين . لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم ؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين ، متاحة فى كل زمان . ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحاب اليمين بالتابعين ، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - . واذا صح هذا التمثيل ، ولا أظنه إلا صحيحاً ، صح أن نقول : إن قليلاً منا ، بل وقليل جدِّا ، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضى الله عنهم . وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين : ( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ) . و ( ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين ) . 3- وقالوا أيضًا : إن فى القرآن آية تنهى عن النفـاق ، وآية أخـرى تُكره الناس على النفاق أما الآية التى تنهى عن النفاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى ( وبشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليما ) (16) . وأما الآية التى تُكره الناس على النفـاق ـ عندهم ـ فهى قوله تعالى : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفـروا من قـبل قاتلهـم الله أَنَّى يؤفكـون ) (17) . من المحال أن يفهم من له أدنى حظ من عقل أو تمييز أن فى الآية الأولى نهياً ، وأن فى الآية الثانية إكراهاً ويبدو بكل وضوح أن مثيرى هذه الشبهات فى أشد الحاجة إلى من يعلمهم القراءة والكتابة على منهج : وزن وخزن وزرع . ويبدو بكل وضوح أنهم أعجميو اللسان ، لا يجيدون إلا الرطانة والتهتهة ؛ لأنهم جهلة باللغة العربية ، لغة التنزيل المعجز . ومع هذه المخازى يُنَصِّبُون أنفسهم لنقد القرآن ، الذى أعجز الإنس والجن . لا نهى فى الآية الأولى ، لأن النهى فى لغة التنزيل له أسلوب لغوى معروف ، هو دخول " لا " الناهية على الفعل المضارع مثل : لا تفعل كذا . ويقـوم مقامه أسلوب آخر هو : إياك أن تفعل ، جامعًا بين التحذير والنهى ، ولا إكـراه فى الآية الثانيـة . وقد جهل هؤلاء الحقدة أن الإكراه من صفات الأفعال لا من صفات الأقـوال أما كان الحرى بهم أن يستحيوا من ارتكاب هذه الحماقات الفاضحة . إن الآية الأولى : ( وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) تحمل إنذاراً ووعيدا ً. أما النهـى فلا وجـود له فـيها والآية الثانية تسـجل عن طريق " الخبر " انحراف اليهود والنصارى فى العقيدة ، وكفرهم بعقيدة التوحيد ، وهى الأساس الذى قامت عليه رسالات الله عز وجل . وليس فى هذه الآية نفاق أصلاً ، ولكن فيها رمز إلى أن اليهود والنصارى حين نسبوا " الابنية " لله لم يكونوا على ثقة بما يقولون ، ومع هذا فإنهم ظلوا فى خداع أنفسهم . وكيف يكون الـقرآن قد أكرههـم على هذا النـفاق " المودرن " وهو فى الوقت نفسه يدعو عليهم بالهلاك بقبح إشراكهم بالله : ( قاتلهم الله) .
الهوامش: ------------------------------ (1) النساء: 82. (2) يونس: 64. (3) النحل: 101. (4) الكهف: 27. (5) البقرة: 106. (6) الحجر: 9. (7) الرعد: 39. (8) آل عمران: 185. (9) انظر تفسير فتح القدير (ج2/232) (10) تفسير فتح القدير (ج3 ـ ص 333). (11) الأنبياء: 23. (12) السجدة : 5 . (13) المعارج : 4 . (14) الواقعة : 13 - 14 . (15) الواقعة : 39 - 40 . (16) النساء : 138 . (17) التوبة : 30 .