الشبهة : هو قوله تعالى : ( ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين ) (1). وموضع الشاهد - عند المعترضين - فى الآية الكريمة هو كلمة " قريب " وهى " خبر " اسم " إن " " رحمة ". وحين نظروا فى نظم هذه الآية توهموا - كذلك - أن فيها خطأً نحويًّا منشؤه عدم التطابق بين المبتدأ " رحمة " والخبر " قريب " فى التأنيث ، لأن المبتدأ " رحمت " مؤنث . أما الخبر " قريب " فهو فى الآية مذكر قالوا : وكان يجب أن يتبع خبر " إن " اسمها فى التأنيث فيقال : قريبة .
كر علماؤنا فى توجيه هذا " التذكير " الحاصل بحذف علامة التأنيث من الخبر ، عدة وجوه ، لا نريد أن نطيل بذكرها كلها ، لذلك نكتفى بما يرد كيد هؤلاء الطاعنين فى نحورهم . بعضهم يجعل " رحمة الله " فى معنى الغفران [ أو الرضوان ] فلذلك جاء الخبر " قريب " مذكراً . وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج (2) . * ومنهم من جعل " قريب " صفة لخبر محذوف مذكر تقديره : شىء أو أمر قريب ، ودليل هذا الحذف هو تذكير " قريب " . * ومنهم من جعله من باب النسب ، أى ذات قرب ، كقولهم فى حائض : ذات حيض . * ومنهم من جعل " قريب " مصدراً مستعملاً استعمال الأسماء مثل النقيق ، وهو صوت الضفادع . والضغيب وهو صوت الأرنب . والمصدر يُلتزم فيه الإفراد وإن جرى على جمع ، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما فى هذه الآية الكريمة . * ويرى آخرون أن تأنيث " رحمة " لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز فى الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته ، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء . سواء كان فى ضرورة الشعر ، أو فى النثر . وقال الحلبى تلميذ أبى حيان ، وهما من الأئمة الأعلام فى النحو : " وهذا يجىء على مذهب ابن كيسان ، فإنه لا يقصر ذلك على ضرورة الشعر ، بل يجيزه فى السعة " (3) . وقال الفراء : " قريبة وبعيدة إما أن يراد بهما قرابة النسب أو عدمها فيؤنثها العرب ليس إلا ، كقولهم : فلانة قريبة منى أى فى النسب وبعيدة منى أى فى النسب . أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان ، فتقول : فلانة قريبة وقريب ، وبعيدة وبعيد ، والتقدير هى فى مكان قريب وبعيد . قال الشاعر : عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيد " (4) يعنى أن الشاعر جمع بين الوجهين التأنيث والتذكير والموصوف مؤنث ؛ لأن " قريب " و " بعيد " أريد بهما القرب فى المكان والبعد فيه . والآية الكريمة ليس القرب المذكور فيها مراداً به قرب النسب فيلزم تأنيثه ، وإنما المراد قرب الزمان ، والعرب تجيز فيه الوجهين : التأنيث والتذكير . ولامرئ القيس ، وهو من شعراء الجاهلية ، وشعرهم حُجة فى إثبات اللغة ، بيت نحا فيه هذا المنحى ؛ فقال : له الويل إن أمسى ولا أم سالم قريب ، ولا البسباسة ابنته يُشكرا (5) والشاهد فى البيت تذكير " قريب " مع جريانه على مؤنث " أم سالم " وهو نظير " قريب " فى الآية الكريمة . والخلاصة : رأينا فى الرد على هذه الشبهة أن القرآن الكريم لم يخرج عن سنن البيان العربى حين ذكَّر " قريب " فى الآية ، وهى مجراة على مؤنث مجازى غير حقيقى " رحمة الله " . وكان أصح وأثبت ما ذكرناه فى الرد على خصوم القرآن ، هو ما قاله الفراء رحمه الله ، من أن العرب كانوا يفرقون بين القرب والبعد من النسب وبين القرب والبعد فى المكان والزمان : فالأول : يلتزم فيه تأنيث ما جرى خبراً أو صفة لمؤنث . أما الثانى : وهو القرب والبعد فى المكان والزمان فإنهم يجيزون فيه الوجهين : التأنيث والتذكير ، وقد ذكر - رحمه الله - بعض الشواهد الشعرية لشعراء هم حُجة فى إثبات اللغة ، وطرائق استعمالاتها . وبهذا تظهر براءة القرآن الناصعة مما حاول خصومه إلصاقه به من خطأ .
الهوامش: --------------------- (1) الأعراف : 56 . (2) وعلى هذا يكون التذكير قرينة على صحة حمل " رحمة الله " على غفران الله ، أو رضوانه . انظر : معانى القرآن للزجاح (2 / 380 ) . (3) يعنى فى النثر دون اشتراط ضرورة تدعو إليه. انظر : الدر المصون (5 / 345 ) . (4) معانى القرآن (2 / 382 ) والبيت لعروة بن حزام . وقد أورده للغرض نفسه أبو حيان فى البحر ( 4 / 313 ) . (5) الدر المصون . الشاهد رقم ( 562 ) .