روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(1). وروى ابن ماجه أن الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري قد جاءا فوجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا، قال فدعا بصحيفة ودعا عليًّا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ}(2). وواضح من الروايات أنه لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم طرد للفقراء كما تدعي الشبهة، وكون اللفظ القرآني قد جاء بالنهي عن طردهم فإن ذلك لا يلزم منه أنه طردهم بالفعل؛ ومعلوم أن النهي عن الشيء لا يستدعي أن يكون المرء مُتَلَبسًا بهذا الشيء؛ فإن الرجل يقول لابنه: لا تلعب، يريد أن تُحَذِّره من اللعب في مستقبل أمره، لا أنه واقف يلعب أمامه. ومن ذلك قوله تعالى: {ولا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}[يونس: 106]، ومعلوم أنه لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دون الله أحدًا. هذا وقد روى هذه القصة ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، فقال: "إن ناساً من الأشراف قالوا: نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معك فيصلوا خلفنا"، فعلى رواية ابن عباس هذه فيكون الذي طُلب من النبي صلى الله عليه وسلم ليس طرد أصحابه بمعنى تنحيتهم عن مجلسه وإبعادهم عنه بل يكون الطرد بمعنى تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس(3). وعلى أي تقدير فلا قدح بذلك في عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن همه بذلك كان الترجيح بين المصالح بقصد ابتغاء مرضاة الله تعالى وإرادة الخير للناس، وعزمًا على أن تعم هداية الله كل أصناف البشر، وحرصًا على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم، ولعلمه بأن أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش؛ لأنهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة، وهم حريصون على نشر الدين وهداية الخلق، يبذلون في سبيل ذلك أرواحهم، لا مجرد تركهم لمجلس أو تأخرهم عن صدارة الصفوف(4). فإذا سأل سائل: لماذا نهاه الله عن ذلك؟ قلنا: إن لذلك حكمة، وهي أرجح من الطمع في إيمان أولئك؛ فلعل الله اطلع على سرائرهم فعلم أنهم لا يؤمنون، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وليظهر لهم أن أولئك الضعفاء خير منهم، وأن الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين، وأن الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17](5). ثم لا يفوتنا أن إثبات مثل هذه الآيات في القرآن الكريم حُجَّة على انفصال القرآن الكريم عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن رجلاً يُؤَلِّف كتابًا لا يليق به أن يثبت فيه كلامًا قد يفهم منه تخطئته أو عتابه.