الآيات المذكورة ليس فيها ما يؤيد الدعوى: هذه الآيات المذكورة لا تدل -من قريب ولا بعيد- على نبذ أولاد إسماعيل عليه السلام و لا على نفي النبوة عن سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم فقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [الجاثية :16] يخبر عن عظيم منـته تعالى على قوم من خَلقه-وهم بني إسرائيل-؛ حيث آتاهم الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وفضّلهم على العالمين في عصرهم، ثم لم يحفظوا شكر النعمة الربانية، وهذه الآية الكريمة ليس فيها إطلاقًا ما يفيد حصر النبوة فيهم كما يُدَّعى، بل إن الآية التي بعدها تشير إلى اختلافهم في أمر الدين وأن قضاء ذلك مرده إلى الله يوم القيامة فيحاسبهم ولا يظلم ربك أحدًا؛ قال تعالى: {وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الجاثية: 16]. ثم يقول تعالى بعد الآية السابقة: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ}[الجاثية 18، 19]، يعني فإنه عليك أيها النبي أن تلزم ما أوحاه الله لك من الشريعة الحق دون أن تلتفت لمن لا يعلمون. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت :27] فإنها تدل على أنه لا مانع من وقوع النبوة في نسل إبراهيم عمومًا -وإسماعيل منهم-؛ لأن الآية بعد أن تحدثت عن هبة الله -عز وجل- لإبراهيم عليه السلام إسحاق ويعقوب جعلت النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم عليه السلام مطلقًا، يستوي في ذلك ذريته من أولاد إسحاق أو ذريته من أولاد إسماعيل. إسماعيل عليه السلام في القرآن الكريم: وما سبق من التنويه بإسماعيل-عليه السلام- والإعلام بنبوته هو شأن القرآن في غير آية؛ قال تعالى في شأن إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ} [الأنعام84 :86] ثم قال بعد ذلك {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ }[الأنعام :89]، وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة 130:133].
كذب الشبهة على التوراة والإنجيل: ليس في الكتاب المقدس دليل واحد على اختصاص بني إسرائيل بالنبوة ولا على رفض نبوة أن تكون النبوة في أولاد إسماعيل خاصة، فما ادعي في الشبهة من أن التوراة والإنجيل قد ذكر فيهما حصر النبوة في بني إسرائيل فقط،وأن التوراة قد حذرت من قبول من يدعي أنه نبي من ذرية إسماعيل، مجرد دعوى فارغة لا دليل عليها، وليس في التوراة أو الإنجيل ما يفيد ذلك. ثم لماذا هذا التمييز بين ذريتي إسحاق وإسماعيل؟ هل جنى إسماعيل –عليه السلام- ما يستحق بسببه أن يعاقب ولا يعاقب وحده بل ونسله من ورائه؟ وأين العدل الإلهي في أن يؤخذ الأولاد بجريرةٍ – إن سلمنا أن لإسماعيل خطيئة وهو ما لم يحدث - ليس لهم فيها دخل؟ أم أن هذا امتداد لمبدأ توارث الخطيئة الذي لا يقره عقل يوقن بالعدل والرحمة الإلهيين فضلا عن أن يقره دين سماوي؟ ثم إنه سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته فإن اختار -وهو المتفضل- بأن يختم النبوة بنبي من ولد إسماعيل-عليه السلام- فما يحول دون اختياره وإرادته. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ} [البقرة :89]، وقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة :101].
المراد بتفضيل بني إسرائيل على العالمين: أما تفضيل بني إسرائيل على العالمين فذلك بأن آتاهُم الله ما لم يؤتِ من عَداهُم من فلقِ البحرِ وإظلالِ الغمامِ ونظائرِهما، وقيل: المراد بالعالمين: عالمو زمانهم(1).