بهو المشفى يحاول عنوة أن يقبض على أضواء كريستالية لامعة بدأت تتلاشى أمام
خيوط الفجر الناهض عبر النوافذ الزجاجية التي تصل المشفى بالعالم الخارجي،.... وفي
بعض الزوايا لا زالت أضواء المربعات الكريستالية المنبعثة من سقف البهو تحتفظ ببريقها
كما لوكانت في أول الليل..
وعلى المناضد الموزعة في أرجاء مختلفة تبدو وجوه الممرضات المناوبات في آخر
حالات صحوها، وثمة أنين ينبعث بين الفينة والأخرى لمرضى أحسوا للتو بقدوم الفجر، أو
ايقظتهم جلبتنا ونحن ندخل الآن بهو المشفى، حيث غرفة المخاض التي غيّبت زوجتي خلف
باب خشبي عريض ظل يهتز لفترة من الزمن تمكنت خلالها أن ألحظ الحركة الدائبة لطاقم
الممرضات والاطباء الذين استيقظ بعضهم الآن، وخرجوا من غرفهم وهم لا يزالون يربطون
أزرة صداراتهم البيضاء التي بدت وقد تكسرت أطرافها أثر نوم مؤقت على أطراف الأسرة،
أو فوق المقاعد البلاستيكية البيضاء المتخاصرة داخل غرف الإطباء والممرضات، وقد بدا
على وجوه البعض آثار انزعاج واضحة ربما ترافقت في أعماقهم بسيل من الشتائم المضمرة
لهذه اللحظة التي دخلت فيها زوجتي غرفة المخاض.. أو ربما لعنوها ولعنوا زوجها وحتى
القادم الجديد الذي سيهبط بعد قليل إذا سارت الأمور على ما يرام...
وبذلك يكون قد أكل أول لعنة في حياته... أو حتى قبل خروجه للحياة.. وبالمقابل بدا
على وجوه المستخدمات شيء من الإطمئنان والفرح الذي حاولن انهاضه رغم علامات
التعب والبؤس الواضحين على ملامحهن، والسبب في ذلك كما علمتني التجربة.. حيث دخلت
هذا المكان أكثر من خمس مرات خلال الخمس سنوات الماضية هو رغبتهن في الحصول
على مبلغ من المال بشارة المولود الجديد، أو بيعهن بعض لوازم الولادة الموجودة بحوزتهن،
والمخبأة في بعض أدراج الخزن القديمة المتآكلة، وهن الوحيدات اللاتي حاولن مجاملتي في
هذه الساعة الحرجة من آخر الليل..
سيكون المولود صبياً إن شاء الله ...، توكل على الله وادع لها بالسلامة ..، الولد الذي
يوفقه الله ثروة لأهله... لا تضجر... اصبر قليلاً...
حتى اولئك اللاتي لم يتكلمن، كن يبادلنني نظرات لا تخرج في مغزاها عن كل
ماسمعت من عبارات المجاملة..
وبعد فترة وجيزة توقف باب غرفة المخاض عن الاهتزاز، وراح ينوس ببطء شديد
على نحو لم يعد يسمح لي بملاحظة مايجري في الداخل،... واستحالت الاصوات إلى
همهمات ترتفع حيناً وتتلاشى أحياناً، وبين هذا وذاك يرتفع صراخ زوجتي ... ياالله.. ثم
يغيب ليصبح أنيناً مقطعاً، أحاول التقاطه بصعوبة بالغة، وتنفجر في داخلي مشاعر متناقضة،
من الألم والفرح والترقب،... كل هذا وأنا أذرع المكان جيئة وذهاباً..
أقف أمام الباب، أصيخ السمع قليلاً، ثم اتابع خطواتي الواهنة فوق بلاط نيلي لامع،
لازال يحتفظ بأذيال النور المنبعث من المربعات الكريستالية المتخاصرة علىطول السقف..
وفي محاولة لتقطيع الوقت، وابتلاع حالة الترقب، تطير عيناي عبر النوافذ وفوق بعض
المصابيح الصغيرة المعطلة التي غاب التماعها عن بلاط المشفى،.....ثم أقف قليلاً لمراقبة
بعض القادمين الجدد، الذين تغيّبهم أقسام المشفى المتداخلة.. بين الاسعاف والجراحة والولادة
وغير ذلك..
يرتفع صراخ زوجتي ..آه... ياألله.. فأحث الخطى نحو باب غرفة المخاض.. أقف
متوتراً إلى أن يغيب الصوت، فأعاود المشي من جديد، وأنا أتمتم ببعض الدعاء واستسلم
لتخيلاتي وأفكاري..
كيف سيكون المولود الجديد...؟
أتصور شلكه وبكاءه وحركته، وشبابه، وطريقة مشيه ومصيره المجهول.. تتداخل في
ذهني أيام طفولتي وشبابي..، أتذكر أمي، .. أشعر الآن بالكثير من الندم على كل الآلام التي
سببتها لها منذ اللحظة الأولى لولادتي.. صوتها ينهض في أعماقي ..آه .. يا ألله ...، ثم
أتخيل كيف كان بكائي، وكيف كان شكلي..، أتمنى لو أراها الآن في هذه اللحظة تماماً لأقبل
يديها..، لأشتم رائحة صدرها، ..لأغرق في حنانها كما كنت أفعل حين تواجهني متاعب
الحياة..
أقرر زيارة المقبرة في يوم الغد..
يرتفع الصراخ مرة أخرى، يخرج بعضهم من غرفة المخاض، أركض نحوه..، لا
تخف...، توكل على الله، اصبر قليلاً ..، يقولون ذلك بوجوه محايدة، وكلمات مختصرة لا
تسمح لي بالمزيد من الكلام..
في هذه اللحظة..، ساورني بعض القلق، تذكرت أطفالي الذين تركتهم في الفراش وهم
ينامون على أحلامهم...، شعرت بشيء من الخوف لم أشعر به من قبل..، صارت لدي رغبة
عارمة بابتلاع سيجارتي التي ترافقني عادة في الملمات..، تلّفتُ حولي، يدي فوق جيبي
وبالأخرى ولاعتي،.. بدأت أبحث عن نافذة ما، عن مكان ما، لا يراني فيه أحد، سيما وأن
جدران المشفى تمسك بالكثير من اللوحات التي تحذر من التدخين وتشرح أضراره على
المرضى والأصحاء..
تراجعت رغبتي قليلاً، ثم ما لبثت أن ثارت من جديد وأنا أتجه نحو نافذة صغيرة في
زاوية ميتة لا زالت تنتظر خيوط الفجر التي أصبحت أكثر وضوحاً الآن..
تناهضت قليلاً حتى صار وجهي في قلب النافذة التي يغطيها شبك ناعم مهترئ في
بعض جوانبه.. تسربت إلي رائحة الفجر ونداه..، أشعلت سيجارتي وأطلقت دخانها الذي بدأ
يتسرب عبر عيون الشبك المهترئ، ثم يرتفع رويداً رويداً إلى أن يغيب بعد أن تمسك بأذياله
حلقات جديدة من الدخان المحترق ، والانفاس المحترقة أيضاً ... ولا اكتمكم أن بعض حلقات
الدخان تسربت إلى داخل المشفى وأنا أحاول التراجع قليلاً نحو الخلف لأرمق باب غرفة
المخاض حيث صراخ زوجتي..
لكن الصراخ هذه المرة جاء مختلفاً تماماً..، صراخ رجل له صوت خشن أجش مسربل
بالألم، والدموع، وندى الفجر.. أذهلني الصراخ، أصخت السمع، تراجعت قليلاً، نظرت في
أرجاء المشفى، لاشيء جديد، .. جاء الصراخ مرة أخرى..، ركضت سريعاً نحو النافذة،
أدركت الآن أن الصراخ يأتي من الخارج وباتجاه معاكس لحلقات الدخان المنبعث من
سيجارتي..
تناهضت من جديد، التصق وجهي بفراغ النافذة، وأنا ألاحق مصدر الصوت...آخ ..
يارب .. دعني وشأني، ويتصل الأنين والبكاء المخنوق، .. ويرتفع صوت آخر: أخرس يا
ابن الكلب..؟ والله سأعيدك إلى بطن أمك إن لم تعترف! ومن الخلف يتجدد صراخ
زوجتي..آخ.. يا ألله.. أترك النافذة ، أركض إلىحيث غرفة المخاض، ألتصق بالباب، أحلل
الأصوات والأنين والأنفاس، ووقع الخطا، ثم أعود مجدداً لأقف أمام النافذة، أشعل سيجارة
أخرى، ويقلقني الصمت لبرهة من الزمن أخالها دهراً..، حتى يرتفع الصراخ مرة أخرى ..
خشناً أجشاً مؤلماً مخنوقاً..
دخيلك يا سيدي..
آخ..
نعم أنا .. أنا يا سيدي..
وينهض الصوت الآخر خشناً أجشاً غاضباً..
إذاً : أنت الذي سرقت يابن...
آخ...
أجلت النظر في المكان....، أتسع فراغ النافذة أمامي، كلما ارتفع الصراخ.. أبنية كثيرة
متداخلة، ومداخن مرتفعة لازالت تحتفظ بسواد الأيام الخالية، وعصافير على زوايا الأبنية،
وفوق أغصان الأشجار الناهضة من خلف أسوار البيوت تنفش ريشها المبلل بندى الفجر،
وترسل صوتها في الفراغ وصراخ جاف حزين:
سرقت من أجل العيال يا سيدي
أنا لست سارقاً... آخ..
دققت النظر ..، ابتلعت عيناي كل النوافذ والجدران والأزقة، وارتكزت أخيراً على
نافذة حديدية سوداء تفضي إلى فراغ باهت هو نفسه مصدر الصوت، ضاقت حدقتاي وأنا
أحاول عنوة التقاط موجودات الفراغ، حتى بدت لي طاقية تنهض على رأس أطل سريعاً ثم
اختفى، وثمة سيارة في المكان جعلت الأمر واضحاً تماماً..
مصادفة غريبة أن تكون المشفى إلى جوار المخفر، هناك من يحاول إعادة الرجل إلى
بطن أمه، وهنا من يحاول إخراج المولود من بطن أمه!؟..
تسللت إلى شفتي ابتسامة، وأنا أحاول التقاط الأصوات والحركات... آخ دخيلك يا
سيدي..
ويأتي صراخ زوجتي .. آه .. يا ألله...
ثم تناوب الصراخ بين غرفة المخاض وفراغ النافذة، وتناوبت أذناي بين الداخل
والخارج...
وفي اللحظة التي ارتفع فيها صراخ طفلي الصغير تلاشى صراخ الرجل. لا أدري لماذا
لم أشعر بالفرح الذي كان يغمرني في المرات السابقة..؟! ..
ولا أدري لماذا شعرت أن الصراخ الأجش الحزين المسربل بالألم وندى الفجر ... هو
صراخي أنا، والد الطفل الذي أحمله الآن.. والذي بدأ يصرخ ويلوب بشفتيه بحثاًعن طعام..!؟