مشروع رجل

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ابراهيم خرّيط | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

لايدري كيف جاؤوا به الى هنا..‏

 

فتح عينيه فرأى نفسه شبه عار الا من قميص ابيض، على سرير فوقه أغطية بيضاء،في غرفة جدرانها بيضاء وسقفها أبيض، والى جانبه وقفت ممرضة بيضاء ترتدي معطفا أبيض.‏

 

همّ أن يتكلم..أحسى بثقل في لسانه رافقه ألم شديد..شعر بالدوار، داهمه شعور بالخوف والاستغراب، هاله أن يرى نفسه في غرفة بدت له واحدة من غرف المشفى، حاول مرة أخرى.. بصعوبة ندّت عنه كلمات ومقاطع: أين أنا؟ من أتى بي الى هنا ؟ ماذا فعلتم بي؟‏

 

ابتسمت الممرضة وقالت وهي تشير اليه بالسكوت:‏

 

-صحوت أخيرا.. لاتقلق،الأمر عادي، بسيط غاية البساطة.‏

 

كرر السؤال بالرغم من الصعوبة والألم:‏

 

-ماذا حدث؟ما به لساني؟ماذا فعلتم به؟‏

 

أجابت: لاتتكلم..الكلام يؤذيك. سوف يشرح لك الطبيب كل شيء عندما يحضر.‏

 

وضعت يدها على فمه وأضافت:‏

 

-أصدقاؤك الذين حملوك الى المشفى،في مكتبه . ينتظرون أن تستعيد وعيك بعد التخدير والعملية، سأبلغهم بالأمر.‏

 

قالت ذلك وغادرت الغرفة مسرعة.‏

 

حاول أن يلملم أفكاره المشتتة..أن يتذكر أين كان وماذا حدث قبل أن يغيب عن الوعي.‏

 

لمعت في ذاكرته بعض معالم الصورة التي غابت عنها.. كانت باهتة مشوشة،حاول بجهد أن يمسك أطرافها ويجمعها ويربط بينها..‏

 

تذكر أنه قد دعي الى اجتماع عاجل هذا المساء، حيث تلقى نبأ ترشيحه الى منصب أعلى.الا ان المهمة الجديدة مشروطة باخضاعه لاختبارات عديدة.وخيّروه بين الرفض والقبول.وبعد تردد أعلن موافقته وأبدى استعداده لاجراء هذه الاختبارات.‏

 

بعد لحظات دخل الطبيب ورؤساؤه في المؤسسة، وآخرون لم يرهم من قبل.. أحاطوا به من كل جانب..‏

 

حاصروه بنظرات فاحصة.. ابتسموا له، شدوا على يده، هنأوه بالسلامة.. نظر اليهم بعينين ذاهلتين وسأل:‏

 

-ماذا جرى؟ ماذا فعلتم؟ ما به لساني ؟‏

 

دار حوار بينهم.. بالنظرة والاشارة.. اقترب منه أحدهم،قرّب فمه وهمس في أذنه:كان في لسانك ورم صغير..لاتخف،انه ليس ورما خبيثا..قد أكون أخطأت التعبير.في لسانك قطعة صغيرة زائدة .. أقصد كان طويلاً بعض الشيء ، في بعض المرّات، وقد اقتطع الأطباء هذا الجزء الزائد ،بناء على تعليماتنا وبعد موافقتك طبعا.‏

 

صرخ بغيظ والم:لماذا؟كيف؟‏

 

رد آخر وهو يبتسم:حتى يتناسب مع المنصب الجديد..هذا كل ما في الأمر..لاتقلق.‏

 

....................‏

 

في مكتبه الجديد الذى انتقل اليه بعد خروجه من المشفى كانت باقات الورد وبطاقات التهنئة قد شغلت مساحة كبيرة منه، فلم يسمح سوى لفئة قليلة من المهنئين بالدخول اليه.وقد شمل المنع كافة المستخدمين والعمال وصغار الموظفين.‏

 

ومما يذكره المقرّبون منه وأصحاب العلاقة انه قد تغير كثيرا، فهو عابس متجهم مقطب الجبين دائما.. يختصر من الكلام كثيرا ، وقد تغيرت لهجته وخلت لغته من بعض المفردات التي كان يكررها قبل اجراء العملية،وصار يستخدم عبارات ومفردات جديدة لم يسمعوها منه من قبل.‏

 

......................‏

 

بعد عام استدعاه رئيسه في العمل..‏

 

كان وجهه ممتقعا ونظرته حادة قاسية.قال له بنبرة جافة صارمة:‏

 

-رؤسائي غير راضين عنك.‏

 

فتح فمه دهشة .. حاول أن ينطق إلا أن المفاجأة أفقدته القدرة على الكلام.‏

 

استطرد قائلا:‏

 

-يقولون..قلبك مازال ضعيفا..باختصار..يبدو انك لاتصلح لهذه المهمة.‏

 

سأل مستغربا: أنا . كيف. لماذا.هل قصرت في شيء؟!‏

 

قال رئيسه بنبرة لوم وعتب:‏

 

-يا أخي.. أنت لين جدا، طيب أكثر مما يجب، ولأنك طيب القلب فأنت تغض البصر وتصفح وتسامح.‏

 

-أنا لا أتساهل مع أحد.‏

 

-يارجل..أنت تفهم ما أعني..الكلام كثير..‏

 

غمز ولمز وتجريح .أمن المعقول انك لاتعرف أم انك..؟‏

 

رد وقد انتابه الخوف:لا.. أبدا.‏

 

-أنت تدرك قصدي اذا.‏

 

رد بانكسار: نعم.‏

 

مرّت دقيقة صمت، ساد المكتب سكون.. دق قلبه بقوة..طغت دقاته على دقات الساعة الجدارية الرتيبة.‏

 

خيّل اليه ان رئيسه يسمع نبض قلبه، اذ رفع راسه اليه وقال:‏

 

-ألم أقل لك.قلبك قلب طفل،وهذا لايناسبنا، نريد قلبا من حديد.‏

 

هدأ روعه وقال مبتسما:‏

 

-ومن أين آتي بقلب من حديد.‏

 

هب رئيسه واقفا..مشى عدة خطوات،دار حوله،نظر اليه بعينين ثاقبتين، وضع يده على كتفه... هزّه برفق وقال بهدوء:يبدو اننا متفاهمان..‏

 

ثم أضاف مشدا على مخارج الحروف:‏

 

-هذا أمر سهل..‏

 

-سيدي..‏

 

-أنا أعني ما أقول..قلب من حديد...دع الأمر لنا.‏

 

-سيدي..‏

 

قال رئيسه بلهجة تنطوي على التهديد:‏

 

-اذا كنت تريد الاحتفاظ بمنصبك.‏

 

أطرق براسه الى الأرض.. عيناه غائمتان، نظرته حائرة، وقلبه ينتفض بين أضلاعه كطائر مذبوح.‏

 

استطرد رئيسه بنبرة آمرة:‏

 

-قل انك تريد.‏

 

غرق في صمته..دارت به الدنيا..تذكر كيف قطعوا في المرة السابقة جزءا من لسانه.واليوم يريدون أن ينتزعوا قلبه ويستبدلوه بقلب من حديد..انهم لايلعبون.يكاد يفقد عقله..هاهو يقف على حافة الجنون.. شك في نفسه وملكاته.. كيف له أن يعرف الحقيقة من الباطل والصواب من الخطأ ؟!‏

 

فكر..‏

 

وماذا في ذلك؟ أنا ضعيف القلب كما يبدو..‏

 

يرقّ قلبي أحيانا، يغفر ويسامح في بعض المواقف.لايحمل حقدا أو كراهية.. وهذا هو عيبي.‏

 

هزّ رأسه وقال بتخاذل:‏

 

-نعم، أريد.‏

 

..............‏

 

بعد عودته الى المكتب من المشفى، لم يلتفت الى موظفيه ومستقبليه، ولم يرد على تحيتهم.أغلق بابه وأمر الآذان أن يمنعهم من الدخول.‏

 

ويذكر المقربون وأصحاب العلاقة انه قد تبدل كثيرا،فهو جلف مع المراجعين،خشن مع المرؤوسين،وقد أقام بينه وبين الناس سدودا وحواجز.‏

 

..............‏

 

عندما استدعاه رئيسه مرّة أخرى،ابتسم له وقال:‏

 

-لقد تقدمت كثيرا.نحن راضون عنك... ولكن..بقيت مسألة أخرى..‏

 

لم تبدر منه أية ردة فعل،لم يستغرب أو يتردد أو يتساءل بل قال متلهفا:‏

 

-ماذا تريدون؟.أنا جاهز.‏

 

-أعرف ذلك..أنت تتقدم بسرعة..شيء واحد لابد منه حتى تنال كل الرضى وتصبح أهلا للثقة..‏

 

-ماهو..؟‏

 

قام رئيسه من مقعده..نظر اليه مليا، مدّ اصبعه ، قرّبه من رأسه ، نقر به على جبهته وقال بصوت هادئ متقطّع:‏

 

-عقلك.‏

 

ثم استطرد:‏

 

-ما دمنا نعرف أكثر منك،وما دمت منا وتعمل معنا ولا تخالفنا في شيء،فما حاجتك اليه؟! نحن نزودك بما يجب أن تعرف وما لا تعرف، ما تفعل وما لا تفعل، ما تقول وما لا تقول..من تحب ومن تكره ، كيف تفكر وماذا تقرر..‏

 

سكت لحظة ثم أردف:‏

 

-نحن نخشى أن يتمرّد عليك يوما ويأخذك هنا أو هنا ويهدم ما بنيته،فتخسر كل شيء.عملية بسيطة وينتهي الأمر..هل أنت موافق؟‏

 

............................‏

عندما عاد الى بيته بعد العملية الأخيرة والتقى بزوجته وجمعتهما غرفة واحدة وسرير واحد، صدّته عنها، لم تسمح له أن يقترب منها أو يلمسها..قفزت مذعورة ووقفت بعيدة عنه..تصورت انها ترتكب اثما..تمارس الزنا، فما من عضو في جسده بات ينتمي اليه