يداي تستطيلان، تتعملقان، تحاولان لمس جدران الصحراء أو رفع مزلاج بابها، قدماي تتمددان لأستحيل كائناً أسطورياً فأمد يديَّ وأرفع قبة السماء من موضعها، وأقطف بضعة نجيمات من عناقيد الفضاء وأرصها فوق كفي. عنترة العبسي يمتلك قصراً منيفاً تضيئه الكهارب وتتدلى منه الثريات، ها هو ذا يسوق نياقه الحمر عائداً من بلاد الرافدين، قاصداً ديار عبله المرضعة لطفلين الآن وحبلى بالثالث، من يقبض مهرها: أبوها أم زوجها؟ يجف ريقي عطشاً، فأربو بحيرة الماء عند صرة الكثبان القصية، فمتى أدرك وهمي الكبير؟
يأمرك طفلك الصغير " أعقد رباط الحذاء" فتنفذ الأمر.
وتساعد الصغيرة على تمشيط شعرها وابدال ملابسها.
تسلق الأرز وتدمعك رائحة البصل القوية، ولا تمل من اعداد كوب الشاي الرابع حتى الظهيرة.
غداً سنعود إلى الوطن، سأصحبكم إلى الأهرام وأبو الهول، ونجوب أرجاء حديقة الحيوان لنشاهد عجائبها يا صغاري: أسودا وفيله ونمورا وطيوراً ملونة عجيبة من كل فج عميق.
سنزور جديكما وأريكما رسومي في المدرسة الابتدائية بألوانها المدهشة، تسهر في الصالة بمفردك، تتذمر امرأتك في فراشها محتجة:
- سيوقظ الضوء الطفلين.
تكتم ضيقك وتنسحب إلى جلدك على أوراقك، لا يؤنسك إلا ضجيج المكيف اللاهث، ونشرة الواحدة صباحاً من "صوت العرب"، تخز مشاعرك وتطلق ذرات حنينك إلى الوطن.
- اطفئ المذياع، صوته مقلق.
تغالب بركاناً يمور في صدرك وتلوذ بكهفك الآمن، تبتلعك الرمال الناعمة حتى كتفيك، ويبقى الرأس طافياً شاهداً على غفلتك يغلفك أمل بتحقق المعجزة وينتشلك أحدهم في اللحظة الأخيرة، رأيت ذلك يحدث في فيلم قديم لفريد شوقي مثل فيه دور عنتره.
حفظت شوارع البلدة الصغيرة. تقطعها في ربع ساعة، تتجاوزك سيارات مسرعة لا تميز راكبها وراء الزجاج الداكن، تشعر بمسام جلدك تغادره من وطأة الحر. همود يلم بك وتصر على أخذ نفس عميق ولكن الهواء الثقيل يعاكسك. هنا آخر بلدة على مشارف صحراء الربع الخالي الأسطورية الجهنمية، ما الذي قذف بك إلى هنا؟
تبدو القطط والكلاب وكأنها هجرت المكان، ترمق طيوراً غريبة تمرق في السماء المكفهرة فتسأل نفسك أتنتسب إلى جدود شهدت الهجرة الميمونة إلى يثرب واعلاء راية الدين الجديد؟
قسوة المناخ، وصلابة الملامح لا تخفي وداعة السكان الطيبين في هذه البلدة، وخلودهم إلى الصمت الموشى بالالفة.
تتحرك زوجتك في مسافة لا تتجاوز ثلثمائة متر قاصدة مدرسة البنات المتوسطة الوحيدة هنا، تعود عصبية منهكة فتحتملها، تحاول ارضاءها فتقابلك بجفائها، في الأيام الأولى كانت تسترضيك وتتودد إليك في نفاق ملحوظ، بدأ التغيير مع المرتب الثاني، والتململ مع المرتب الثالث، وفي الشهر الرابع كشرت عن أنيابها، وبدت لبؤة صحراوية هربت من مصايد الانسان واكتسبت عيناها لمعة السعار، وها هي ذي تقذف بالحقيقة في مشاجرة ساخنة كزلة لسان وشت بما في قاع البحيرة "لا تكن عبءً يا أخي.
تمقت في اللغة حروف كلمة "مرافق" بذلك عاهتك وتعطلك، ولكنك تتحمل من أجل الطفلين، وترد جميلها يوم وافقت على الاقتران بزوج أعرج.
في اليوم المشهود بشرتك بصوت مزغرد وبوجه أبيض مضرج بدماء البهجة:
أصابتني الاعارة. جاء الفرج أخيراً.
تعتصر ذاكرتك مستعيداً مشاعر اللحظة وقتها: الفرح أم الضيق والمرارة.
- .......؟
- ولكننا واحد، مالي هو مالك؟
- وعملي؟
- وجودك أساسي، يشترطون محرماً..
- ودراسة الماجستير؟
- فلتضح من أجل الولدين، لا تكن وجه فقر.
بدأت لعبة المساومة والضغط والتهديد المبطن بالتوسل، يسيل لعاب الخلاص، ويحلق طائر حلم اليسر والسعة، فتهادن.
فلتعترف أن الجشع الصغير داخلك قد انتصر، فتتنازل.
تفاتح أباك فيضحك بصوت عميق عركته السنون ولكنه ممرور:
- وافق يا بني. سدت أبواب الخلاص إلا بابا.
ونصحك رئيسك في العمل عندما استشرته.
- كن فأراً. الفئران أول القافزين عندما تغرق السفينة، ونحن نغرق جميعاً الآن
ينفرج قاموس الحوار عن مقررات جديدة: الواقعية والطموح والفرج والفرصة. تنظر حولك فتجد الجميع فئراناً، كل على طريقته يبغي خلاصه فحسب وجاءت إعارتها لتكون الكلمة السحرية على شفاه الواقف بالكهف الصخري المغلق، فلتهتف بها لتفتح الصخرة لتدخل تغترف وتنعم، وفي صغرك رسمت سلماً طويلاً يصل إلى المريخ بلونه الأرجواني، ورسمت طفلاً صغيراً يتلسقه، كان يشبهك. أضحى الحلم حقيقة، "لا تكن وجه فقر". يتعرف في عبارتها على وجوه لم تستوقفه من قبل: وجه الفقر" ووجه السعد" ووجه الشؤم، ووجه العز. يضيف إلى هذه الوجوه، وجهاً جديداً اكتشفه في هذه البلدة المنفية: وجه الملل والانسحاق، في أيام مكررة متشابهة.
ينفرد إلى نفسه أغلب ساعات يقظته، يأتي النوم في النهاية خلاصاً مؤقتاً، يراقب الصغيرين في لعبهما، ويحاول التركيز في أوراقه ومراجعه. لا تخفي تبرمها من ركونه إلى الكتب فتبدي تذمرها بحجج مختلفة. بالتكرار عاف كتبه وافتقد شهية البحث العلمي.
يتذكر البرص الضخم المسترخي فوق سلك نافذة الحمام.
أدركه خوف وقشعريرة من حجمه الضخم، حاول أصابته بأصابع مرتعشه إلا أنه هوى في الخلف وعاود الصعود بعد دقائق.
بالتكرار ألف وجوده في نفس الموضع، وسكنه تعاطف حقيقي معه، وتجاهل مخاوفه الكبيرة والطفليه، الآن وجد صديقاً في هذه البلدة الصموت يقاسمه الوحدة والأسى، صديقاً في بيته الموحش.
حاول قراءة نظرات البرص الغامضة: أعداء أم شماتة أم اتهام!
وحيداً في غيابها، وحيداً في حضورها، في البداية كان مدفع الثرثرة ينطلق يقص وقائع اليوم الدراسي: شغب التلاميذ، ومشاعرهم المحايدة، ومكائد زميلاتها المصريات، وتحفظ غير المصريات معها، ولكن التكرار جدُّ الرتابة وأبوالضيق، فركنتَ إلى الصمت ومداعبة الطفلين وأحلام الاقتناء المتصاعدة.
ضبط نفسه أحياناً يفضفض إلى البرص بهمومه، الغريب أن الآخر تعود على وجوده، يقبع إلى الصمت محركاً ذيله وكأنه يرحب به.
تعودت امرأته الخلود إلى النوم مبكراً، ينشدها فتصده.
- متعبة.. ألا تفهم؟
- فلنتحدث قليلاً.
- للصبح أذنان وعينان.
- أجن من الوحدة، أفتقدك.
- الصباح رباح.
ويجيء الصبح والظهر والعصر ولكنه لا يربح شيئاً في حين تستأثربالربح كله لنفسها، ينسحق إلى حبة رمل من بين حبات ربع مليون ميل مربع حجم صحراء الربع الخالي، قطرة في أكبر بحر رملي في العالم كله.
يتذكر عبارة ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، قرأها في مرجع في سنوات الدراسة بكلية العلوم " رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة".
تقعي وراء مرتفعات السراة في الغرب، تواجهك مرتفعات عمان من الشرق، وتحاصرك مرتفعات حضرموت من الجنوب.
يصل خيالك إلى " الوبر " البلدة الأسطورية، مدينة عاد وثمود كما يزعمون، وأحفاد لوذ بن نوح، ولكنك لن تلقى مصيرهم، ولن تدفن مثلهم تحت طوفان الرمال التي ابتلعتهم منذ آلاف السنين، وستطير بأجنحتك حتى موضع قبر هود، لتسأل بلهفة عن مصير قومه.
يناديك أصحابك وخصومك في مدرسة الحسينية الاعدادية بالعباسية "يا أعرج" وعندما تشاركهم لعب الكرة الشراب في "أرض النمسا" خلف مدرستك يتهرب الفريقان من اختيارك، فتقترح في أسى أن تقف حارس مرمى، فيوافقون على مضض،
تخصك أمك بعطف مفرط، ويقدر أبوك محنتك فلا يقسو عليك، وان عجزا عن مواجهة نظرة الادانة في عينيك: من أورثني تلك العاهة منكما؟
في سنوات الجامعة تراجع احساسك بالعجز، وازددت ثقة في نفسك، وان عرفت حدودك، ستحب "انتصار" زميلتك بالكلية طوال سنوات أربع بلا أمل حقيقي، حري بالقلب أن يسلم زمامه لأمل كوني، ولكنه يعرف حدوده أمام صرامة العقل، سيبقى سرّك فضيلتك الكبرى، وصمتك مزيه تقل في زماننا، تلتقط " انتصار" الرسالة من عينيك، تفضها ولا ترفضها وأن انتظرت البوح بك، فأي حكم كنت!
عانيت الأمرين يا فتى: خلاص البوح وسعير الكتمان، وستصفر بأغنية حليم "خايف مرة أحب" مئات المرات بشفتيك دون أن تغنيها.
تتبع أخبارها بعد التخرج، تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة، وارتحلت معه بعيداً عن القاهرة أكنت عاشقاً من نوع خاص، أم أورثتك عاهتك الجبن والواقعية معاً؟ تسهر حتى الفجر، وعندما تستيقظ على جلبة الطفلين الوحيدين، تكون هي في الحصة الثالثة تقريباً، تقرأ ورقة التعليمات التي تكتبها كل صباح وتتركها فوق الكومدينو قبل ذهابها. للوساوس عفتها أحياناً، أصابك وسواس حديث العهد بشأن مالها، فأصبحت ترتاب فيه وتعافه..
تسأل نفسك أحياناً: هل هذا الطعام حلال أم حرام؟
تترك الطفلين وحدهما وتقصد السوق لتبتاع ما كتبته لك، تحدق إلى أوراق النقود وتشعر بتثاقل في يديك وأنت تلتقطها من الدرج، تحسد البرص الذي يروح ويجيء بلا رقيب، تتبادلان أسراركما، فتبوح بهمومك المختزنة وتطلب المعونة منه، ويقص عليك شجرة حياته ورأي بني جنسه في قضايا التوتر السياسية ويقدم حلولاً لأزمة السكان والفساد والبطالة.
تعتذر له عن ترفعك وقرفك عندما أمسكت بالمشرط في المعمل لتشرح برصاً صغيراً في أول سنوات الجامعة، كنت غرا وقتها، فلتصفح عني يا صديق، أي قاتل كنت!
تبحث سراً عن عمل، ولكن البلدة تضيق بك يا خريج العلوم.
تحدق في الطفلين خلسة. يشبه الطفلان أمهما، كأن المؤامرة اكتملت إلا أنهما حملاً روحك. تقلقه تلك المسافة بينه وبينهما، وقذفته صغيرته بالسؤال يوماً ما: لماذا لا تسير مثلنا يا أبي؟
أيهما أقدم في الوجود: البرص أم فريق الأهلي؟
تحدق في امرأتك في الفراش فتكتشف كائناً غريباً عنك، أصبحت تنطوي على عالمها الخاص، يقلقك هذا البريق المخيف في عينيها عندما تجلس لتعد النقود وتسجل حساباتها في الورق، تضيف وتطرح وتضرب وأنت لا تفهم.
أحياناً تحدثك بلهجة ثلجيةونظرة برقية سنتملك ونشتري ونقتني،تشعر بأن نغمة التملك في حديثها حبل مشنقة يلتف حول أعناقكم جميعاً، تبوح بضجرك فتلبسك وجه الفقر حتى لا تنساه. تكف عن سؤالها عن دخلها وعن مدخراتها، وتتعامى عن حليها الذهبية الجديدة التي تثقل يدها ورقبتها بلا توقف.
- طلبت منك مراراً التخلص من هذا البرص.
تناورها وتنتحل الأعذار، لا تسكن هذه المخلوقات أنانيتك ونظراتك الجشعة وأحلام التملك المستفز، في حديثك. لا تتذوق الأبراص المياه المعدنية ولا تضع "الكاتشاب" على الطعام ولا تعرف الزواج العرفي أوالخيانة الزوجية، فخليق بنا أن ننحني لها احتراماً.
هل تحدثه عن قيس الذي أبصر قبر امرأة غريبة ماتت ودفنت في الصحراء، فشهق من الحسرة مواسياً: أيا رفيقتي ونحن غرباء، وكل غريب للغريب نسيب؟
وفي الزمن القديم تصادق الديناصور والخنافس وكوناً شركة للاستيراد والتصدير، وكانت الكهوف فنادق خمسة نجوم، فهل عرفوا الدولار الأخضر في الزمن الميوزي، وهل بنى عثمان أحمد عثمان منشآت في قارة اطلانطيس الغارقة؟ وأول قبعة في التاريخ صنعت من درقة سلحفاة، وأول قرط ارتدته امرأة كان سحلية حية، وإذا كان حي العباسية موجوداً في زمن انسان الغاب، فهل كان يقع وقتها في ولاية كاليفورنيا أم في الريف الهندي؟
يذكر المرة الأولى التي خرجا فيها سوياً بعد الخطبة، شاقته نظرات المارة التي تتابع خطواته الملتوية المهتزة وشعرها الأحمر الداكن قبل أن تضع الحجاب، تكسرت نصالهم فوق نصاله القديمة وحاول أن يشاغلها بحديث مدهش ليجنبها حرج النظرات الفضولية.
يشغله اجتياز صحراء الربع الخالي الغامضة، يتوحد مع الرحالة المغامرين الذين عبروها من قبل: تشيزمان وتوماس فيلبي ويتسيفر يقطع معهم فيا في الأرض التي خاصمها المطر عشرات السنين.
يصير فيلبي يسكنه ذلك المغامر ويتوحد فيه، يصطحب مثله 20رجلاً و32 ناقة وثلاث اناث ماشية وحلم مكسور، يصيد 400 نوع من الطيور العربية، ويقطع مع رجاله مسافة 400 ميل من الصحراء المقفرة وراء مصايد الرمال التي تغني.
ستغني الرمال كما غنت لفيلبي، وتستطيل قدماك حتى تقفز ككنغر أو تمرق كغزال وستسرح أربع سنوات في هذه البلاد، ولكن سيحتضنك الحلم المدهش، وتخترق صحراء الربع الخالي الجهنمية في النهاية.
تشهد امرأتك على بطولتك، تنصب خيامك في حماريرآل زيوير، وتجتاز حصن داهيو ايبان المهجور، وتعثر على شظايا الفخار وأساور ذهبية، وترعبك هياكل عظمية لذئاب وضباع وبوم، هل سكن حلم اختراق الربع الخالي هذه الكائنات مثلك؟.. سأقفز دون وجل إلى قاع البركان الخامد في "وابر"، وأفتش عن قوم هود في قاعه، وأجول في حصون عاد بن الينعاد الأثرية، وأتوقف عند سليل في أقصى طرف الربع الغربي، ومنها إلى طريق الفيلة باتجاه قرية وصايل لأصل إلى مكة.
ستعبر الصحراء القاحلة هناك، وتعبرها هنا في صدرك، تعبرها مثل فيلبي وتتخلق انساناً جديداً خارقاً.
يحمل عبء يومي العطلة الأسبوعية: الخميس والجمعة، يشعر بغربتها، وتقضي وقتها مع الطفلين لعلها تلقنهما نهمها الجشع أو تحفر فوق وجهيهما وجوه العز، تنفرد بنفسها وأحلامها المخيفة، أو تصطحب الطفلين معها لتزور زميلاتها في المدرسة مخلفة وحدته.
تثقله اللحظة الخاصة، يمر موقف الاكتمال في آلية وسرعان ما يستردان الأنفاس ليتشرنق كل منهما في ذاته ويلفظان الشهوة المقدسة بعد الارتواء.
أتموج القاهرة بضوضائها الأثير إلى القلب؟ وهل لا يزال جرس مدرسة الحسينية الاعدادية الصدىء يقرع في جلبته العظيمة ليفزع المارين بشارع الجيش بالعباسية؟ وسراديب القصر القديم الذي تشغله المدرسة أكان غرفاً لتعذيب المعارضين أم موضعاً لممارسة النزوات الفاسقة؟
ومبنى العزبة الأصفر الكئيب في نهاية المدرسة، والمقصف والمكتبة ومخازن الكتب في سرداب القصر اتغيرت أم قاومت شيخوختها تقلبات الزمان، والقبة الزجاجية المعشقة بالخشب الملون التي تغطي سطح القصر أقاومت زلزال الأكاذيب أم تهاوت مع الأيام؟ ماذا فعل الزمان بالأستاذ محفوظ معلم الرياضيات؟ تتسلل إلى سطح المدرسة لتنفرد بنفسك وتتأمل القبة الأثرية، وتصغر قامات التلاميذ في الفناء وتسكنك قوة الكشف والسمو إلى أن يلمحك الشيخ دسوقي معلم اللغة العربية فيأمر الفراش الضخم أمين باحضارك وتقييدك لتنال جزاء مروقك وتمردك، يتدخل الأستاذ طلعت معلم التربية الرياضية ليخفف عنك العقاب، ويشيد بأخلاقك فتنال العفو.
تعاود التسلل إلى السطح مجدداً وتتمتع بالقبة الساحرة الملونة وتراقب أعشاش اليمام في تجاويفها وتمكث هناك تحت خيمة السماء.
يقترب العام الدراسي من نهايته، وتبدأ امرأتك في تكديس الهدايا ورشق البطاقات فوق كل هدية باسم صاحبها، تملأ أنفك رائحة الوطن، ويستعيد لعابك طعم النهر المقدس، ويحتويك حضن الأبوين العزيزين بالرغم من وهنهما. تنبت أجنحتكم في فصول العودة إلى الوطن، ويكبر قرار صعب في رأسك، ستقفز من البحر إلى السفينة الموشكة على الغرق رغم دهشة الركاب. لنغرق معاً أو ننجو معاً، ويهنئك فيلبي على اجتيازك الربع الخالي، عبر بنو وطنك القناة في حرب رمضان وعبرت أنت بحر رمالك العظيم بساقيك العملاقين.
ستتحرر من زوجتك وكل نساء العالم، وستعلن الوحدة الاندماجية مع فصيلة البرص، وتسترد حريتك مع عبيد سبارتكوس، وتعلن انتسابك إلى سادة روما، وستجوب شوارع العباسية بقدمين مسحورتين جديدتين، وتذعن امرأتك لمشيئتك وتقنع بلحم الوطن، وتبتلع مرارة العيش في الوطن الذي تعوّد لفظ أبنائه ونفيهم.. وستظل تفتقد في هذه البلدة الصموت صديقك البرص، فهل ستراسله بعد عودتك على عنوانه أم تحصل له على تأشيرة لدخول القاهرة والاقامة معك.
عند اقتراب العودة تغير امرأتك لهجتها إلى لهجة التودد، تخاف عذرك، ولكن تظل أصابعك متشبثة بحواف السفينة الموشكة على الغرق وتصمم أن تنضم إلى ركابها في كبرياء يليق بالرجال.