ارتدى معطفه الثقيل وتدثر بالشال الصوفي اتقاء للسعات الهواء المؤلمة، تأكد من أحكام غلق المزاليج، واقفال نوافذ وأبواب الغرف.
لم ينس أن يتزود بمسدسه الثقيل وبطارية الضوء.. ترك أنوار الغرف مضاءة ومن وراء فصاصات الشيش راقب حركة الشارع ولم يجد ما يريبه أو يثير شكوكه.. إنهم غير موجودين.
مطر ديسمبر ينقر اسفلت الشوارع في دقات منتظمة رتيبةلا يقطعها إلا مرور السيارات الحذرة في سيرها خشية الانزالاق.. الشارع نفسه خلا من العابرين إلا نفراً منهم حاول الاحتياط في سيره فوق الأرض اللزجة.
أسدل الستار وأجال النظر حوله للمرة الأخيرة للتأكد من كافة الترتيبات قبل أن يغادر الشقة، أدار المفتاح في الثقب عدة مرات.
تردد لحظة قبل أن يهبط الدرج مخترقاً ببصره عتمة الظلام المطبق خوفاً من أن يكون أحدهم كامناً له في الظلام.. وأحس ببعض الاطمئنان رغم صعوبة التحديق.. أخذ يهبط درجات السلم مستعيناً بضوء البطارية الخافت حتى وصل الطابق الثالث، ولكن بين الطابقين الثالث والثاني لمح شيئاً يشق طريقه في الظلام نحو مكانه.. ارتبك ونفرت عروقه وحاول السيطرة على انفعالاته ولكن قبل أن يقبض بيده على المسدس كانت الكتلة المتحركة قد وصلت إليه وأوقفت الحركة.. اختل توازنه وتعثرت قدماه وسقط فوق السلم في ضجة كبيرة عندما تكور في ركن السلم ندت عنه صرخة مكتومة تردد صداها الغريب في صمت المساء الثقيل في المكان.. اذن لقد ظفروا به أخيراً، وسقط في فخهم! الوداع لعالم الأحياء، والعزاء للمظلومين والمضطهدين.
ولكن الثواني تمر مبشرة بالنجاة والهجوم الخاطف تبدد عن مفاجأة، ومواء القط التعيس الحظ كشف عن آلامه عندما فوجىء به يسقط فوق صدره فاستنجد بأنفاسه كأنها حبل نجاة والتقط مصباحه المضاء والملقى على مقربة، واعتدل واقفاً ولم ينس أن يركل القط ركلة قوية عكست غيظه وأطاحت بالقط إلى الحائط المقابل، فأخذ يموء مثل الأطفال الجوعى.
عندما هبط إلى الشارع كانت حدة المطر قد ازدادت، وتصاعدت معها حدة القلق والتشاؤم داخله بعد ظهور القط في ليلته.. اللعنة على كل قطط العالم، تلفت حوله قبل أن يتقدم على الأرض المبتلة، الطريق كان خالياً تماماً، مما بعث بالأمان إلى جوانحه بعض الشيء.. أسرع الخطى حتى دلف إلى سيارته المركونة في الشارع الجانبي القريب، ولم يحس بالراحة تماماً إلا بعد أن زمجر المحرك، فأخذ نفساً طويلاً عبر عن ارتياحه وأعاد له ثقته في نفسه.. تساءل في دهشة عن سر تأخرهم هذه الليلة، هل يلاعبونه لعبة القط والفأر؟ أم أنهم أجلوا تصفية الحساب ليوم آخر أكثر اعتدالاً في طقسه؟
الخواطر حاصرته فلم يدر كيف قاد العربة إلى وجهته، وساعد على شدة استغراقه دقات المطر الرتيبة على جوانب السيارة والايقاع المنتظم لمساحات المطر في تتابع دقيق يشبه حركة بندول ساعة الحائط في الغرفة التي اختبأ فيها سنينَ في المدينة الأوربية النائية، كانت ساعة قديمة تعود إلى أوائل القرن على ما يبدو، وكانت حركات بندولها الثقيلة سميره الدائم في أيام النفي الطويلة.. ظلت المساحات تجفف العرق فوق جبين الزجاج الأمامي للسيارة.. وظلت خيوط ضوء المصابيح الأمامية تطارد الضباب الجاثم فوق رئة الشارع دون يأس، ضغط على مزود السرعة ليلحق بموعده الذي تأخر عنه، وعلت وجهه تقطبية تعكس تصميمه على مقاومة الأوغاد، وأحس أنه في حالة معنوية طيبة تعده لمواجهتهم الحاسمة.. اشتاق الزناد الصدىء إلى الحركة، ودمهم النجس شاخ في العروق، وآن الأوان لأن تتطهر منه.. المكالمتان الغامضتان اللتان تلقاهما دون أن يسمع صوت المتحدث. زادتاه قلقاً، هل اهتدوا إلى مخبئه؟
توقف قبل المقهى المظلم بعدة شوارع، وهنأ رفيقه في نفسه على اختيار هذا المكان المثالي للموعد.. ولكن ما سمعه منه قلب تفاؤله وهز جوانحه.. حذره في حسم وخوف:
لا يغيب عنهم دبيب النمل في البلد، عيونهم تمسح كل الزوايا والأرجاء، وأجهزتهم المتقدمة ترصد الرغبات في الصدور وتترجم ايقاع النبض في العروق.. رجالهم منبثون في كل مكان، وقبضتهم تبطش بلا رحمة، ومعتقلاتهم تفيض بالمعارضين من كل الاتجاهات.. يحصون عدد مرات المضاجعة فوق الأسرة، ويميزون بين الزفرات الصيفية وزفرات التذمر من الأوضاع.. ويفسرون أوراد ما قبل النوم وتمتمة الأدعية على الألسن في لحظات التأهب للموت الأصفر.. وقوائمهم تحصي الطيور السارحة في السماء من كل نوع، والبهم القابعة في الحظائر والسارحة في الخلاء.. تحر اليقظة والحذر.. لقد علموا بعودتك السرية إلى البلاد من المنفى أثناء مرحلة التخطيط، ويبدو أنه بيننا خونة.. قد يقتصونك في غمضة عبين أو يسحقونك بلا رحمة.. أنت الذي اخترت العودة فلا تتراجع.. أرهقتهم سنوات طوال وانتظروا هذه اللحظة منذ زمن.. كما اقمسنا فلا تنس، نحن لا نموت إلا واقفين كالأشجار.. ستستمر القضية وستكون موجوداً معنا حياً أو ميتاً..
رددا معاً في صوت خافت ورؤوسهما المتقاربة تحجبه عن الأسماع: نموت.. ونموت. ويحيا الوطن..
أثناء عودته، غرق في خواطره من جديد، ضغط على أسنانه بعصبية وتعجب من سرعتهم في الاهتداء إلى مكانه في هذه المدينة المزدحمة البعيدة.. صمم على ابادتهم قبل أن ينالوه، لن يصلوا إليه إلا فوق جثته.. شعر بعظم الرسالة، وبأن نداء الوطن يحتويه ويزيده صلابة.. لم يندم على شيء إلا ندمه على سنوات المطاردة والنفي في البلد الأجنبي لينفد بحياته منهم، ولكن الحنين إلى كل حجر وحبة رمل ووجوه العجائز وضحكات أطفال وطنه عجلا بعودته، سيضرب ضربته الكبيرة المؤلمة وليسقط في أيديهم بعد ذلك، لن يهم، فالقضية العادلة قبل الجميع، وفوق الفك المستطيل سرت ابتسامة تعكس ثقته في نفسه وأخذ يصفر لحناً لأغنية "إنا قادمون" المعروفة.
القمر كان غائباً هذه الليلة وثوب السواد يغطى الشوارع والخيالات المتحركة: الهواء والقطط وثياب شرطي الدورية. وطمي الأرض، وتكفلت موجة البرودة بحجز الناس في بيوتهم، مختبين تحت الأغطية الثقيلة. مضت ساعتان على خروجه وعودته، وأوقف سيارته في شارع خلفي مواز ثم عبر إلى شارعه من طريق آخر، وقبل أن يصل إلى باب المنزل قبض على مسدسه الضخم في حركة متصلبة بينما أمسك بيسراه مصباحه ذا الأشعة القوية النافذة، لا صوت لأي حي كأن السكان اتفقوا على تجاهله، حاذى الحائط وأخذ يصعد السلم درجة درجة محاذراً أن يصدر عنه صوت، بدا الطريق آمناً بلا ارتياب.. واستطاع أن يشق طريقه وسط الظلام الدامس بمساعدة الأشعة الرفيعة، وقوة ابصاره النافذة رغم بلوغه الأربعين.
وفجأة شقت صرخته سكون اليلل عندما أحس بكتلة ثقيلة ترتمي فوق صدره قبل أن يبلغ باب شقته بعدة درجات، فقد توازنه وتعثر فوق درجات السلم وارتطمت رأسه بأسفل الحائط المواجه في قوة فجرت غيظه، ومن وسط الظلام حدقت العينان الحمراوان، فعرف هوية مهاجمه، إنه القط اللعين مرة أخرى، استعاد توازنه وجمع شجاعته وفشل في السيطرة على غيظه ولم يهدأ إلا بعد أن ركل القط المسكين ركلة سببت صياحه المتألم الشاكي.. صعد الدرجات الباقية حتى الباب، وقبل أن يعالجه بالمفتاح مسح السلالم فلم يجد ما يريبه، ووضع أذنيه على الباب فلم يسمع صوتاً غير عادي.. وعندما خطا إلى الداخل زاد اطمئناناً.. تأكد من سلامة النوافذ وأحكم غلق المزلاج، وفتش في المكان والزوايا.. إذن لم يحضروا هذه الليلة، تخلى عن حذره، وأخذ يتصرف بشكل طبيعي، وبدل ثيابه وقبل أن يتوجه لفراشه التقطت أذناه صوتاً غامضاً، كان الصوت صادراً من وراء باب الشقة، التقط مسدسه وتقدم بخطوات هادئة حتى جمد وراء الباب، حاول أن يكتم أنفاسه حتى لا تفضحه ولكنه لم يفلح فقد تصاعدت بشكل حاد.. توترت أعصابه وانقبضت عضلاته وتأهب للمفاجآت .
وراء هذا الباب يقف أعداؤه. جلادو الشعب.. مصاصو الدماء المستبدون.. جاؤا اذن، فعلى رسلهم، وليضف إلى قائمة ضحاياهم عدداً منهم ليذوقوا طعم الغدر، ربما تنبض عروقهم بالحق أو تتطهر قلوبهم المتكلسة.
لم يتوقف صوت الخشخشة، فزاد انقباض عضلاته.. يسترقون السمع. هو أيضاً.. تأهب للعمل، فأزاح المزلاج في هدوء، وتراجع خطوة إلى الوراء استعداداً للهجوم، وفي سرعة خاطفة أدار المقبض وفتح الباب في حركة مباغتة شاهراً مسدسة ولكنه لم يجد أحداً منهم.. تقدم إلى الردهةوفحص السلم العلوي والسفلي فلم يجد شيئاً ولكن قدمه اليمنى داست على جسم لين فانتفض راجعاً للوراء، ولكنه تبين ذيل القط الأسود، والقط الأسود نفسه متكور في ذلة أسفل العتبة.. سال عرقه ولعن في سره قطط العالم حتى جدها الأعلى وللمرة الثانية في هذه الليلة.. فكر في أن يصرعه بطلقة ليستريح ولكنه خشى من افتضاح أمره.. نظرات القط المسترحمة أثنته عن الاقدام على ما أنتواه. القط كان يرتجف من البرد فلان قلب الرجل الذي اتسع للملايين من سكان وطنه، فهل يضيق بحيوان أعجم؟ حمل القط إلى الداخل وهو يتفحصه في شفقه أو غمرته عاطفةمن الذنب عبرت عن خجله من قسوته.. ربت على القط المذعور وبعد دقائق كان القط يلتهم وجبة ساخنة من اللبن.. تمدد الرجل في فراشه وزفر زفرة طويلة، ولم ينزعج عندما قفزالقط الآمن إلى فراشه طلباً للدفء والمسامرة.. سحبه معه تحت الغطاء الثقيل. وبعد دقائق غط في سبات عميق متناسياً أحداث الليلة المثيرة..
مرت ساعتان..
انزاحت غيمة ضالة من وسط السحاب الأشهب، وانسلت أخرى لترقد أعلى الشارع الطويل حيث يقيم، اختفت النجوم في هذا الليل الطويل، حاولت عينا شرطي الحراسة أن تجدا أثراً للقمر المختفي كي يستهدي بنوره في سيره ولكن عبثاً حصد، خلت الشوارع من الناس والقطط والكلاب والسيارات والأفكار، اختبأ الناس في دورهم تحت الأغطية، اتحد البرد والمكر والوحشة في عنف حقيقي.. حاول طفل صغير أن يقوم من فراشه بجانب أمه ليروي ظمأه ولكن صفعات المطر الحاد فوق خدود النوافذ ردته، فأوهم نفسه بالارتواء ولاذ بالنوم..
اكتظت سرائر الحدة بالأجساد تحت الأغطية الصوفية تعوض دفئاً مفقوداً في الجو.. ووجد بعض الرجال في مضاجعة نسائهم وسيلة لبعث الدفء إلى أن غلبهم النوم والتعب.
كانت ساعات اللليل مهيئة للخيانة والانتقام وتصفية الحساب، ولانهم لا يضربون إلا في الظلام خلسة وغدراً فقد جاؤا قبل ضوء الفجر بنصف ساعة.. تنبه الرجل من عالمه البعيد على أصوات وجلبة تشده إلى عالم الأحياء، وبرغم أن عقله الواعي ظل خاضعاً لحالة الخدر اللذيذ إلا أنه بدأ يستجمع حواسه ويعي الموقف، مد يديه ليلتقط مسدسه من تحت الوسادة بينما كان القط الأسود جاثماً فوق صدره، ولكن يداه توقفت في منتصف الطريق أجسادهم العملاقة التي سدت باب الغرفة والردهة لم تمهله فرصة المقاومة وأمطروه برصاصهم الغادر بينما كان المطر منهمراً في الخارج..
ناله الأوغاد أخيراً وظفروا به بغدر ووحشية..
أحس أنه يغيب يغيب.. يحلق في الفضاء الأثيري.. تحررت بلاده من قبضتهم، وندت عن دماء الشهداء وضحايا بطشهم رائحة زكية، وتنسم شعبه الهواء النقي من جديد، وعادت الابتسامة ترف على شفاههم.. وتحقق الحلم النبيل، مرت ساعات بطيئة.. تسلل ضوء الشمس من بين خصاصات الشيش ترسم خطوطاً من الضوء داخل الغرفة، فتح عينيه في بطء، فلم يدر حقيقة المكان.. هل هي معالم الآخرة ولكن تفاصيل غرفته المألوفة بدأت تتجمع في وعيه، ظن أن معالم الآخرة تشبه معالم الحياة، ولكن أبواق السيارات في الشارع أجلت وهمه وتأكد من انتمائه إلى عالم الأحياء بالفعل، حاول الاعتدال في فراشه ولكن الدماء كانت تنزف من ذراعيه وكتفه، وشعر بخدر هائل.. وجهه كانت تغطيه الدماء اللزجة فشعر بنذر الكارثة، لكن جثة القط الأسود فوق صدره كانت مصدر تلك الدماء، فاختلطت دماؤه بدماء القط المسكين.. حاول تحريك ذراعيه فنجح قليلاً مع ألم غير قليل، ولكن أنفاسه الطبيعية المنتظمة زودته بقوة واطمئنان.. تعجب من كمية الدماء الحيوانية الغزيرة التي فاضت عن جسد القط.. رفع بيده اليسرى النازفة جثة القط المتشنجة في صمت وقد شعر بامتنان كوني لكل عالم الحيوانات الأليفة..
وبنصف دورة تحسس مسدسه تحت الوسادة فوجده في موضعه. التقطه بيده النازفة في أعلى الذراع، وشدد قبضته عليه، وعض على نواجزه متوعداً بالانتقام.