حلم القمر الأسمر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : جان الكسان | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

ينداح في ذهنه حلم اليفاع...‏

 

يغمض عينيه ليتقرى رواء الصورة:‏

 

رمال متماوجة لصحراء على امتداد الأفق.. وفي خط السراب يتبدى بهاء وجهها قمرأ أسمر، تنسدل عليه خصلات من شعرها تتناثر على الجبهة.. وعلى الشفتين إبتسامة، تشارك العينين الرائعتين البراقتين، وهما تدعوانه إليها بنداء آسر..‏

 

يسعى إليها.. تغوص قدماه في الرمال.. تتوضح الصورة أكثر.. يسعى من جديد.. تنحدر عيناه إلى أسفل.. إلى الجيد الأتلع.. وعلى الحلمة اليمنى تتبدى قطرة ندى تلتمع تحت الشمس حبّةً من اللؤلؤ‏

 

يسعى إليها من جديد‏

 

تغوص قدماه اكثر في الرمال.‏

 

يحاول عبثاً أن يتقدم..‏

 

يحاول إنتزاع قدميه من الرمال..‏

 

ينكفئ على نفسه..‏

 

والقمر الأسمر ما يزال يرنو إليه بالنداء الآسر..‏

 

. . .‏

 

ويتكرر الحلم نفسه.. ليلة بعد ليلة.. في الواقع الذي حوله، في بلدته البعيدة ، يبحث عبثاً عن صاحبة الوجه الذي يتبدى في الحلم اليتيم..‏

 

ليس حوله سوى وجوه محروقة، لسعتها الشمس في حقول العمل التي تتناثر فيها جوقات الصبايا في أيام البذار والغراس والحصاد وجمع الغلال ويصرخ:‏

 

-. أين أنت يا قمري الأسمر؟.‏

 

وتموت الصرخة في الحنجرة.. ويتطامن على نفسه كئيباً، وحيداً لا يريم.‏

 

. . .‏

 

ويرحل إلى المدينة‏

 

يحمل زوادته الفقيرة وحلمه اليتيم..‏

 

وتبدأ رحلة جديدة من المعاناة..‏

 

ضاع في شوارع المدينة الكبيرة وأبنيتها المتسامقة..‏

 

ضاقت عليه فسحة التأمل.. إنعدم الأفق المترامي الذي كان يتبدى له في أحلام النوم واليقظة.. وتقفز إلى رأسه السؤال:‏

 

-. ترى.. هل أرى في هذه المدينة الكبيرة قمري الأسمر؟. هل يصبح الحلم واقعاً؟.‏

 

كان أملاً مستحيل التحقيق في زحمة القامات والأقدام والمناكب..‏

 

. . .‏

 

وحدثت المعجزة..‏

 

بعد أربعين عاماً تحقق الحلم..‏

 

تبدى على أرض الواقع متجسداً في هذه الصبية التي تدلف إلى مكتبه برفقة شاب.‏

 

صعقته المفأجاة.. ولكنه حاول أن يتماسك، وأن يتمالك نفسه..‏

 

-. يا الله.. هل هذا معقول؟‏

 

إنها هي.. هي ذاتها.. صاحبة الوجه الذي عاش معه حلماً منذ اليفاع.. القمر الأسمر.. خصلات الشعر المتناثرة على الجبهة، إبتسامة الشفتين الآسرة.. بريق العينين الرائعتين اللتين كانتا تدعوانه بنداء آسر...‏

 

(( آه أيتها الصبية.. لو تأخذينني إلى مخدع.. تعرّين فيه صدرك لأرى قطرة الندى المتلألئة على حلمة نهدك الأيمن اذن.. لتمّت المعجزة..‏

 

. . .‏

 

جلس يتأملها مشدوهاً.. لم يهتم بالشاب الذي كان يرافقها.. تمنى فقط ألا يكون حبيبها.. فهي له.. له وحده.. منذورة منذ أربعين سنة.. أجل.. أربعون سنة وهي تزوره في حلمه اليتيم.. أربعون سنة وقدماه تغوصان في الرمال وهو يسعى إليها دون جدوى، أربعون سنة وهويحاول الوصول إلى قمره الأسمر، ويلعق قطرة الندى عن النهد الشامخ في استدارة رائعة..‏

 

وتحدثتْ إليه.. في أمور لا علاقة لها بذلك الحلم الرائع..‏

 

أحس بالإحباط..‏

 

تطامن على نفسه من جديد‏

 

تكلف الإستماع إلى حديث الشاب الذي يرافقها..‏

 

كان بريق عينيها هو الذي يدفع أسياخ النار إلى صدره، كان يتوقع لحظة لقاء صاحبة الوجه القمري لحظة تاريخية، تسبقها عواصف ورعود وبروق وزلازل.. توقع أن يتوقف العالم عن الحركة.. وينصت الكون مستمعاً إلى معزوفة ربيعية.. فها هي الأميرة.. ها هي عروس الأحلام تهبط من عالمها المخملي إلى أرض الواقع..‏

 

أربعون سنة من الإنتظار تستحق غير هذا اللقاء العابر..‏

 

. . .‏

 

ونهضت تودعه، وخرجت بهدوء مع الشاب المرافق دون أن تتألق في عينيها تلك الدعوة بالنداء الآسر..‏

 

وتكسّر الحلم على أرض الواقع‏

 

وهطل في قلبه مطر حزين.‏