عندما أنهت غادة المكالمة الهاتفية الأخيرة، أحست بتنين الأسى يعتصر قلبها، فغامت أمامها الرؤى والأشياء، وشعرت أن فجيعتها تلف دنياها بوشاح أسود
أهكذا؟ في لحظة هاربة من الزمن الجميل الذي عاشته طوال ثلاث سنوات، تتحول ألوان قوس قزح إلى شرائط رمادية، وتذبل السوسنة على غصنها، وينكفئ الطائر الغرّيد على نفسه مقهوراً؟. أهكذا ينتهي كل شيء؟.
وماذا عن الأحلام الوردية التي عاشتها في الخيال وفي الواقع؟. ماذا عن الكلام الذي كان ينساب بينهما مثل قصائد الشعر؟ ماذا عن المثُل؟. عن القيم؟ عن الوفاء؟. عن الوعود التي كان حازم يزجيها بسخاء، والعهود التي تنعقد بينهما بتلقائية وانسجام وهما يبحران في زورق الحياة الزوجية الوردي الذي زفهما إليه الأهل والأحباب والأصدقاء قبل ثلاث سنوات؟.
إنه يكذب عليها.. يخدعها.. ليس لديها في هذا أي شك، وهذه المكالمات التي أجرتها مع صديقاتها الأربع، شاهدة..
قالت سوسن ان زوجها سيكون مشغولاً هذا المساء في تعزية أسرة صديقه الذي مات في المهجر، وقد يتأخر هناك
وقالت وفاء أن زوجها مشغول هذا المساء بتوقيع عقد مع إحدى الشركات، اختارته ليكون محاميها الخاص
وقالت أميمة ان زوجها مشغول هذا المساء في مناوبة ليلية.
فماذا قال زوجها؟.
قال انه سيسهر مع الشلة سهرة ( رجالية ) تقررت عقب إتفاق مفاجئ غير مخطط له عقد فجأة بين الأصدقاء الخمسة على قضاء سهرة في أحد المطاعم، وأصدقاؤه هم أزواج صديقاتها اللواتي أجرت معهن مكالمات هاتفية، فاكتشفت أن أزواجهن مشغولون مساء في أمور لا علاقة لها بالسهرة المزعومة التي اخترعها لها زوجها..
لماذا يكذب عليها؟.
ماذا حدث حتى دخل بينهما شيطان الكذب؟.
(( هل بردت قهوتهما؟. ))..
منذ ان قرأت هذا المقطع في قصيدة لأحد الشعراء عن حالة زوج يبرر إنفصاله عن زوجته، وهي تخشى ان تصل بهما الحال، وهي وحازم، إلى حالة بطل القصيدة:
(( بردت قهوتنا.. واتنهت قصتنا ))..
-. (( لا .. لا.. لم تبرد قهوتنا، فباستثناء كذبة اليوم ليس في الأفق ما ينبئ عن أية ريح قد تدفع بالغيوم إلى سماء حياتنا ولكن.. لماذا يكذب علي؟. أين سيقضي سهرته؟ هل هناك إمرأة أخرى في حياته؟. ))..
مستحيل.. فحازم زوج مثالي، ملتزم.. ثم انه يحبها.. ولم تشعر خلال السنوات الثلاث التي قضياها وكأنها شهر عسل متواصل أنه يمكن أن يجد سعادته خارج هذا الزورق الوردي الذي ينساب بهما في سعادة وهناءة.. هل هي كذبة بيضاء؟.
حتى لو كانت كذلك، فهي لن تقبلها.. ليس هناك كذبة بيضاء وأخرى سوداء، وثالثة رمادية، فالذي يكذب في الأمور الصغيرة يمكن أن يكذب في الأمور الكبيرة
إلى أين سيذهب حازم هذا المساء؟.
ورفعت سماعة الهاتف من جديد تطلب رقمه، وتستفسر.. من حقها أن تستفسر وأن تعرف إلى أين هو ذاهب هذا المساء..
-. إلا تصدقينني يا عزيزتي؟. قلت لك سأسهر مع الشلة.. أنا لا أحب مثل هذه السهرات، وأنت تعرفين ذلك، ولكنهم أحرجوني.. أشرت عليهم أن تكون السهرة عائلية وتكون فرصة لأن تجتمعي بمها وسوسن واميمة ووفاء، ولكنهم أصروا على أن تكون السهرة رجالية.. هل تعرفين ماذا قال زوج أميمة؟.
-. ماذا قال؟.
-. قال انه يعتبر هذه السهرة نوعاً من (( التنفّس )) وعقبّ: (( حتى السجناء لهم كل يوم فترة تنفّس في فناء السجن خارج القاووش..))
ووضعت سماعة الهاتف..
لم تستطع ان تقول له انه يكذب، وأن زوج أميمة لديه مناوبة ليلية، وزوج سوسن سيكون في إجتماع طارئ لمجلس إدارة الشركة التي يعمل فيها، وزوج مها مشغول في تعزية أسرة صديقه الذي توفى في المهجر، وزوج وفاء مشغول بتوقيع عقد مع إحدى الشركات التي اختارته ليكون محاميها الخاص، وانه، هو وحده حازم، مرتبط بسهرة أخرى لا تعرف عنها شيئاً..
ما الحكاية إذن؟.
-. لا شك أنها السكرتيرة الجديدة.. كان عليها ألا توافق على أن يستخدم سكرتيرة، فقد حذروها كثيراً من السكرتيرات، ولكن هذه السكرتيرة لم تعمل إلا منذ أسبوع فقط، فهل يعقل أن.....
-.(( لا.. لا.. لا أظن أنها السكرتيرة.. لا أريد أن أظلمها.. لقد رأيتها مرتين. وتحدثت إليها ... تبدو فتاة مسكينة وعلى خلق، وبحاجة للعمل، ثم انها عادية، ليس في شكلها ما يلفت النظر، كما أنها غير متبرجة، حتى حذاؤها ذو كعب واطئ ولكن الإنسان يجب إلا يخدع بالمظاهر.. أجل.. قد تكون هذه السكرتيرة تخفي عكس ما تظهر.. الناس أسرار والزمن غدار ))..
. . .
اخيراً.. قررت غادة أن تضع الأمور في نصابها.. أن تكشف له كذبته عندما يأتي إلى الغداء فتقطع عليه سبيل السهرة، وليحدث ما يحدث، ستقول له أنها اتصلت بصديقاتها، وأن أزواجهن مشغولون بأعمال أخرى، غير السهرة..
وعندما جاء حازم في موعد الغداء، لم تفاتحه في أمر السهرة.. قررت في اللحظة الأخيرة أن تبدّل خطتها، فماذا تستفيد من قطع سبيل السهرة عليه إذا لم تعرف إلى أين كان سيذهب؟ ومع من كان سيسهر؟. عليها أن تكون أكثر فطنة وذكاء، وتحاول أن تكشف حقيقة هذه الكذبة التي دفعت إلى حياتها بصدمة تكاد تقلب الزورق الوردي بمن فيه..
ضبطت أعصابها وهو يحدثها في موضوع السهرة، روى لها حكاية ( لا شكً انه لفّقها ببراعة) عن الطريقة العجيبة التي تم بها الإتفاق على السهرة، بل لم يتوان عن ذكر إسم المطعم الذي ستتم فيه السهرة.. أكثر من هذا.. أعاد على مسامعها من جديد عدم رغبته في مثل هذه السهرات، بل قال انه كان يفضل أن يقضي السهرة معها، ولكن الأصدقاء أحرجوه..
وقال لها أيضاً: ( لا شك أن زوج أميمة قد عانى صعوبة في إقناعها بالسهر وحده مع أصدقائه فهي غير متسامحة في مثل هذه الأمور، ولها جملة مأثورة في مثل هذه الحالة عندما يناقشون في سهراتهم العائلية موضوع (السهرات الرجالية ) عندما تقول لزوجها: (( إياك يا فريد أن تحلم في يوم أنك يمكن أن تسهر وحدك خارج البيت، رجلي على رجلك )).
كان حازم يتحدث وغادة تصغي إليه وهي تضغط على أعصابها لئلا تنفجر وتصرخ به:
-. انت كاذب.. وزوج أميمة لن يسهر معك.. أنه اليوم في مناوبة ليليه..
في المساء ارتدى حازم ثيابا أنيقة، مشّط شعره مرتين، مسح وجهه بالعطر.. نظر إلى المرآة أكثر من مرّة، ومع هذا تظاهر وهو يهم بالخروج، بأنه غير راغب في هذه السهرة، ولكنه استدرك بأنه قد يتأخر، وقد يضطر لإيصال زوج وفاء إلى منزله في الضاحية، بسيارته..
ومن جديد حاولت غادة أن تضبط أعصابها حتى لا تصرخ به
-. (( زوج وفاء لن يكون معك في السهرة.. انه مشغول هذا المساء بتوقيع عقد مع إحدى الشركات التي اختارته ليكون محاميها الخاص.. أنه رجل مهتم بعمله، ولا يكذب على زوجته ويلفق لها قصة سهرة موهومة كما تفعل انت ))..
وكما تم الإتفاق بين غادة واخيها سامر.. خرج زوجها من البيت فتتبع أخوها خطاه..
وكانت المفاجأة..
سهر حازم مع الشلة.. في المطعم الذي أعطى أسمه لزوجته.. وتبين لغادة أن أزواج صديقاتها كذبوا على زوجاتهم، وأن زوجها كان الصادق الوحيد بينهم