عندما دوّت الصافرات، تركت مفيدة ثيابها الداخلية معلقة على حبل الغسيل في المشرقة، وهرعت تهبط الدرج الخشبي قفزاً إلى المربع الذي في أرض الدار
كانت أمها جالسة أمام صينية صغيرة عليها كومة من العدس وهي تنقيّه من حبات القش والبحص الصغير، فرفعت رأسها إلى إبنتها الواقفة مرتجفة أمام الباب تسألها مستنكرة:
-. ما بك؟.
-. غارة يا ماما.. غارة
-. وماذا يعني ذلك؟. لماذا أنت خائفة هكذا؟.
-. هذه الصافرات تهد حيلي كلما إنطلقت.. تخلع ركبتي..
-. وهل تركت ثيابك معلقة في المشرقة..
-. لن أحضرها قبل أن تنتهي الغارة
-. هيا إصعدي وأحضريها. حقاً انك مجدوبة
-. لن أحضرها قبل أن تنهي الغارة
-. وإذا عاد أسعد فجأة وصعد إلى غرفته هل من اللائق أن يرى امامه هذه البيارق.. هيا إصعدي واحضريها. الناس فوق الأسطحة يتفرجون وأنت تركضين لتختبئي مثل الفأرة في هذا المربّع..
(( لماذا هذه الحرب؟. لماذا يطلقون الصافرات؟. ماذا يريدون منها حتى يخترقوا عليها عالمها الهادئ؟ هل استكثروا عليها المشرقة فطاردوها فيها بزعيق الصافرات وأنباء الغارات؟ هي لا تعرف شيئاً عن هذه الأمور.. ولا تريد أن تعرف.. هي فقط خائفة، وتريد أن تصمت هذه الصافرات بأي ثمن ))..
توقف زعيق الصافرات، فجمعت مفيدة أطراف شجاعتها الهاربة، وراحت تصعد الدرج متمهلة حذرة إلى المشرقة..
كانت أصوات الجيران على الأسطحة تختلط بالأصوات الأخرى المنبعثة من الزقاق:
-.إنزلوا عن السطح يا أولاد..
-. هات السلم يا أبا محمود
-. هل رأيت شيئاً.. أنظر جيداً
-. هاتي أخاكِ وادخلي البيت يا دلال
-. لعينيك أبا الروض.. سنضرب الفانتوم بصاروخ على كيفك
-. أين مفتاح باب السطح يا سميرة؟
وقفت مفيدة في الشرفة قليلاً، زايلها بعض الخوف.. نسيت زعيق الصافرات.. كانت أصوات الجيران تتناهى إلى أذنيها أنيسة، فقررت ألا تهبط إلى المربّع بسرعة..
صعدت درجتين بحيث أصبحت خلف الشباك المطل على الزقاق .. دفعت درفة الشباك ونظرت من خلال خشب الخص إلى أسفل..
شبان الحي يرابطون في أول الزقاق وهم يتحدثون بأصوات مختلطة لم تفهم منها سوى كلمات متناثرة.. دكان أبي حمدي التي على ناصية الزقاق مفتوحة كعهدها بها كل يوم.. عامل التنظيفات يدفع أمامه عربته الصغيرة بهدوء وعيناه تبحثان في الزقاق عن قصاصة ورق أو قشرة بطيخ أفلتت من مكنسته الطويلة.. حتى بائع ثياب ((البالة )) كان واقفاً خلف بسطته في ركنه المعهود
أهذه هي الحرب؟.
ليس في الزقاق ما يدل على أن الحرب قائمة.. ليس هناك من يخاف الصافرات والغارات.. أحسّت انها الوحيدة بين أهل الحارة تقف خائفة...
رفعت رأسها إلى أعلى وأصاخت السمع.. كانت الأصوات تأتيها من ناحية السطح أكثر وضوحاً: هذا جارهم، أبو حمدي، ينادي جاره أبا معتز: تعال.. لقد احضرت لك السلمّ.. ولكن لماذا تريده؟.
فيرد أبو معتز : اريد أن أصعد إلى سطح غرفة الغسيل لأرى الطائرات..
وفجأة.. يدوّي في الجو أزيز مرعب يطغى على أصوات الجيران، فأحست مفيدة بأن شيئاً مثل التيار الساخن يخترق رأسها وصدرها وأحشاءها، فتعثرت بالدرج وهي تهبط بسرعة لتلتصق بالجدار وقد إنخطف لونها
وتناهت إليها أصوات متتابعة لدوي وانفجارات لم تعلم أنها أصوات قصف الطائرات الأحياء السكنية قبل أن يصرخ أبو معتز:
-. قصفوا الشام.. ها هو عمود من النار يطهر من جهة المرجة فيرد عليه صوت آخر: ليس من المرجة.. هذا من الصالحية ويقول ثالث: بل من جهة ( أبو رمانة)..
وصاحت أم مفيدة من أسفل: مفيدة.. تعالي.. إنزلي بسرعة..
ظلت مفيدة مسمّرة في مكانها.. كانت جملة (قصفوا الشام ) تطن في أذنيها.. أحست أن يداً غريبة غادرة شكّت حربة في خاصرتها، وأن بيتها هو الذي قصف، وأن القذيفة دمرت المشرقة والرواق والمربعّين، الفوقاني والتحتاني ودفنت شجرة الياسمين العراتلي تحت الأنقاض، حتى القطة تصورتها جثة هامدة في ركن من أركان البيت المنهار..
غلى الغضب في رأسها، وفي صدرها.. أحست أنها صفعت على وجهها، زايلها الشعور بالخوف، وتملكها شعور آخر مغاير، هو مزيج من الغضب والإستنكار والحنق.. لا تدري كم لبثت واقفة وهي على هذه الحال، ولكنها إنتفضت فجأة على صوت رنين جرس الباب الخارجي وصوت أمها وهي تنادي:
-. الباب يا مفيدة..
هبطت الدرج متمهلة حزينة، وعندما فتحت الباب كان وجه العسكري يبتسم بود
-. عفواً.. هل يسكن أسعد هنا؟. انا أخوه..
-. تفضّل..
قالتها دون تفكير، ودون أن تخبره بأن أسعد غير موجود، في الحالات العادية لا يدخل مثل هذا العسكري الدار قبل إستجواب تفصيلي من خلف درفة الباب..
كانت أمها واقفة في صحن الدار تستطلع خبر الطارق، وقبل أن ترتسم الدهشة على وجهها وهي ترى إبنتها تتقدم عسكرياً إلى الداخل، صاحت مفيدة:
-. هذا أخو أسعد يا ماما..
-. أهلاً وسهلاً.. تفضل يا بني..
وفي دقائق.. كانت ام مفيدة التي تختزن في رأسها كل أخبار الحي من خلال استجواب النساء في ((الإستقبالات ))، قد عرفت كل ما تريد أن تعرفه عن شقيق جارها وحياته و موقعه من الحرب، وعرفت انه قادم من الجبهة في مهمة، وأنه سائق إحدى الشاحنات العسكرية، وانه ذهب إلى المستشفى الذي يعمل فيه أخوه فلم يجده هناك، فجاء يسأل عنه حيث يقطن، وعندما عرضت عليه أن تعد له كأساً من الشاي شكرها بكلمتين فقط: انا صائم...
وتدخلت مفيدة في الكلام.. كان صدرها يغلي.. تريد أن تعرف شيئاً عن القصف والمواقع التي قصفت، وكم خاب أملها عندما فاجأها العسكري الزائر بانه بدوره لا يعرف شيئاً عن القصف، وانه كان في اول الحارة عندما مرت الطائرات ثم سمع الدوي والإنفجار...
وتذكرت أم مفيدة المذياع فقالت لإبنتها: إرفعي صوت الراديو.. حتماً سيذيعون بلاغاً عن الغارة وادارت مفيدة المفتاح ليرتفع صوت مطربة تردد أغنية وطنية، قطعت فجأة، فهمست مفيدة: -. هس.. إسمعوا...
وانطلق صوت المذيع يعيد إذاعة النداء الذي توجهه الإذاعة منذ أول أيام الحرب إلى المواطنين ليحافظوا على أرواح الطيارين الإسرائيليين الأسرى الذين يقفزون بالمظلات بعد أن تصاب طائراتهم، ويسلموهم إلى مخافر الشرطة والمواقع العسكرية.
ثم أعقب النداء نشيد آخر، فخفضت مفيدة صوت المذياع وعادت إلى العسكري الضيف تسأله:
-. انت تحارب في الجبهة؟.
-. أنا سائق شاحنة.. انقل المؤن والذخيرة
فعقبت أم مفيدة: جميع الذين في الجبهة يحاربون.. عندما تأتي القذيفة لا تفرق بين المدفعي والسائق..
وعادت مفيدة: تسأل: هل ستطول الحرب؟.
أجاب العسكري: لا أدري..
-. ألا تخاف وأنت في الجبهة؟.
ضحك العسكري ثم قال: كل إنسان يخاف، وخاصة في اللحظات الأولى من المعركة، ولكن الخوف يزايله بعد ذلك.. وإذا كان العسكري خائفاً فلن يستطيع أن يقاتل..
صمتت مفيدة.. تذكرت حالها وهي في المشرقة عندما بدأت الغارة، ثم عندما جاءها نبأ القصف. (( ما يقوله هذا العسكري.. صحيح ))..
واستطرد الضيف يوجه الخطاب إلى أم مفيدة:
(( والله يا خالتي، ما لك على يمين.. الشباب في الجبهة يقاتلون العدو مثل النمور.. اخترقوا تحصيناته ودخلوا القنيطرة.. العمى في عيونهم هؤلاء الإسرائيليين، حفروا خندقاً بعرض ستة أمتار على طول الجبهة، ومع ذلك استطعنا أن نجتازه.. وضعنا عليه جسوراً واجتزناه.. ناطحناهم بالدبابات.. قصفنا مواقعهم بالمدفعية والطائرات.. هبطنا فوق رؤوسهم في جبل الشيخ.. العمى في عيونهم.. كل يوم إعتداء.. كل يوم إعتداء.. هذه المرة سيدفعون الثمن ))..
كان الفرح يملأ كيان مفيدة وهي تستمع إلى حديث العسكري الشاب، وتنظر إلى بريق عينيه وهويتحدث.. تمنت أن تعانقه على الرغم من ذقنه الطويلة وثيابه المتسخة وحذائه الغليظ..
وعندما همّ بالنهوض، حاولت ان تستبقيه، وكذلك امها.. قالت له: انتظر قليلاً فسيأتي أسعد ما دام قد غادر المستشفى وعقبت الأم: منذ أول الحرب وهو مستنفر.. ولكنه يأتي دائماً ليطمئن علينا.. أسعد بسعر ولدي.
قال العسكري: كتب لي عنكم في رسائله.. قال انكم مثل أهله فردت أم مفيدة : ليحفظه الله لأهله.. أسعد ممتاز.. وشهم، وأخلاقه عالية ولسانه دافئ..
فجأة.. بدأ المذيع يقرأ بلاغاً، فأدارت مفيدة مفتاح المذياع ليرتفع الصوت: (( في الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق قامت ست طائرات معادية من طراز فانتوم بمحاولة قصف مدينة دمشق، مستهدفة المدنيين، وتصدت لها وسائط دفاعنا الجوي وأسقطت منها أربع طائرات.. وأن إسرائيل تتحمل تبعة ذلك )).
تمتمت مفيدة : ست طائرات؟.
فقال العسكري: ذلك لأنهم متضايقون..
لم تفهم مفيدة قصده فسألت: متضايقون.. كيف؟.
-. أكلوها في الجبهة فجاؤوا يضربون المدنيين.. حرب نفسية ولكنها فاشلة..
وقطعت الإذاعة الموسيقى العسكرية التي كانت تبثها وارتفع صوت المذيع من جديد فصمت الثلاثة ينصتون:
(( لاحقاً لبلاغنا السابق.. في نفس الوقت الذي قصف فيه طيران العدو اهدافاً مدنية في دمشق، قصف أهدافاً مدنية أخرى في ضواحي مدينة حمص.. وقد اشتبكت طائراتنا مع طائرات العدو في معركة جوية فوق منطقة حمص، وقرب الساحل السوري واسقطت له ثلاث طائرات بالإضافة إلى الطائرات الأربع التي أسقطتها وسائط دفاعنا حول مدينة دمشق.. وقد نجم عن القصف المعادي بعض الخسائربين المدنيين..
انتهى البلاغ فنهض العسكري من مكانه وهو يقول:
-.إذا استمرت هذه الحرب فسيسخر العدو جميع طائراته.. ونظر إلى ساعته وقال: أنا أستاذن.. لم يبق وقت.. يجب أن اعود إلى الجبهة، بلغوا تحياتي لأسعد.. ساحاول أن أراه في مرة قادمة..
وسار العسكري، فسارت معه مفيدة ترافقه إلى الباب وهي تقول له : (( دير بالك على حالك))..
وقبل أن تغلق الباب إلتفت إليها مودعاً، وعلى وجهه إبتسامة عرفان ودود..
مر النهار دون ان يعود أسعد.. وفي المساء جلست أم مفيدة تتابع أخبار الحرب وتتفرج على الأسرى الإسرائليين من خلال شاشة التلفزيون، بينما ذهبت مفيدة إلى غرفتها لتنام.. كانت تشعر برغبة ملحة لأن تختلي بنفسها.. وكانت أحداث النهار تشغل ذهنها والصور تترى أمام عينيها : المربّع الصغير.. المشرقة.. الثياب المعلقة.. أصوات الجيران.. شباب الحارة.. دكان أبي حمدي.. إبتسامة العسكري.. بسطة البالة.. والغارة.. الغارة الوحشية التي عرفت تفاصيلها بعد الظهر من أحاديث الجيران
لم تستطع أن تنام.. كانت تفكر بالحرب، وبالعسكري الذي زار البيت مثل مزنة المطر المفاجئة في أول الربيع.. وأسعد.. أين هو؟ لماذا لم يأت؟.
ليس من عادته أن يتغيب يوماً كاملاً عن البيت دون ان يطل ولولنصف ساعة..
ولكن.. لماذا لا يبتسم لها بود كما فعل أخوه العسكري؟. إنه يتحدث إليها باقتضاب، وبنوع من الحذر، وحديثه إليها لا يخرج عن دائرة غسيل القميص، وإعداد القهوة، والسؤال عن الوالدة.. وأحياناً يتبسط معها فيحدثها عن حبه للشام ولأحيائها الشعبية..
-. ولكنهم قصفوا الشام..
مرّت سحابة رمادية في جو الغرفة.. ومدَّ طيار بلا ملامح يده فشد مفيدة من شعرها.. صرخت .. ضربته بقبضتها على وجهه وصدره.. فأفلت شعرها.. هجمت هي عليه هذه المرة.. غرست اظافرها في وجهه.. سحبته إلى الزقاق.. نادت الجيران، نادت اهل الحي.. "لست بحاجة إلى سلم يا أبا معتز لتصعد إلى سطح غرفة الغسيل وترى الطائرات.. هذا هو الطيار أمامك.. انه الطيار الذي قصف الشام.. وقصف بيتنا، والمربعين الفوقاني والتحتاني.. والرواق.. ودفن شجرة الياسمين العراتلي تحت الأنقاض.. وكذلك القطة"..
. . .
وفي الصباح.. أفاقت مفيدة متعبة، مهدودة الحيل، كان كابوس النهار قد اخترق رأسها وسريرها وأحلامها.. وعندما خرجت من المربع إلى أرض الدار كانت أمها تصب فنجاناً من القهوة لأسعد الجالس قرب البحرة الصغيرة وهي تسأله:
-. ولماذا انتقلت إلى المستشفى الآخر؟.
-. نحن مستنفرون لإسعاف الجرحى في هذا المستشفى
_. وهل يأتونكم بجرحى كثيرين؟.
_. طبعاً.. ليس هناك حرب بلا جرحى و لا ضحايا.. على كل حال انهم يدفعون الثمن غالياً.. أسقطنا لهم عدداً كبيراً من طائراتهم، وأسرنا عدداً من خيرة طياريهم..
-. وما آخر هذه الحرب؟.
-. لا أدري.. أنا طبيب أقوم بواجبي..
وفجأة.. وجدت مفيدة نفسها تقول لأسعد دون مقدمات
_. أخوك العسكري.. ظريف..
نظر إليها و ابتسم.. ونظرت إليها أمها وقد فاجأها قولها، فعقب أسعد:
_.إنه يبحث عن عروس.. ما رأيك؟.
لم تعلق مفيدة على كلامه.. لم يعجبها كلامه.. أحست أنه يهزأ منها، وأنه يوحي إليها بألا تفكر به هو.. فهو طبيب على وشك التخرج، وهي فتاة من حي شعبي لا تحمل سوى الشهادة الإبتدائية، صحيح أنها جميلة، وخياطة ماهرة، وست بيت ممتازة... ولكن...
ارتسمت في ذهنها صورة العسكري، وبدأت أقواله تطن في أذنيها، وبريق عينيه يأسرها وهو يتكلم...
وعاد أسعد يتحدث.. تحدث عن النسوة المتطوعات للعمل في المشافي، فالتمعت عينا مفيدة.. حاولت أن تقول شيئاً لكنها أحجمت عندما نظرت إلى أمها..
وعندما غادر أسعد البيت عائداً إلى المستشفى غافلت امها ولحقت به:
_. أسعد.. أسعد..
إستدار إلى الخلف.. فوجئ بها..
-. ما بك يا مفيدة؟.
_. خذني معك
_. إلى أين؟.
_. إلى المستشفى
_. وماذا ستفعلين في المستشفى؟.
_. أريد أن أتطوع، مثل اللواتي قلت أنهن تطوعن للعمل,, طقت مرارتي في البيت
-. لكنك لا تجيدين أي عمل من أعمال الإسعاف..
_. امسح البلاط.. أفعل أي شيء..
-. وهل توافق أمك؟.
_. لا تهمني موافقتها.. سأذهب معك..
_. عودي الآن إلى البيت، وسنبحث الموضوع فيما بعد..
_. بل سأذهب معك الآن..
-. قلت لك....
إرتفع فجأة صراخ إمرأة من آخر الزقاق، فهرع أسعد يركض باتجاه الصوت، وركضت مفيدة خلفه، وهرع معهما اناس آخرون تجمعوا امام البيت الذي ينبعث من عويل النساء مختلطاً بصراخ الأطفال..
اقترب أسعد من أحد الفتيان الواقفين: ماذا هناك؟.
_. جاؤوا بجثة أبي سعيد..
أبو سعيد؟. تعرفه مفيدة..
ولطمت خدها بيدها: يا حرام...
سألها أسعد: هل تعرفينه؟.
-. جارنا في الحارة.. يعمل في مؤسسة الكهرباء
وقال الفتى: كان يعمل في الهامة.. قصفت الطائرات الإسرائيلية محطة الهامة، وكانت ورديته فيها..
نظرت مفيدة إلى وجه أسعد.. كان صامتاً.. ليس على وجهه أي معنى.. لم ينفعل.. لم يتألم.. لم يقل شيئاً تذكرت وجوه الأطباء الذين تراهم على شاشة التلفزيون وهم يجرون العمليات الجراحية، فانفتلت تركض عائدة إلى البيت والدموع تملأ عينيها
وقيل أن تصل البيت، دوّى في الجو أزيز الطائرات.. لم تخف.. لم يتملكها الرعب، ولا التجأت إلى الجدار..
كان الشباب الذين حولها يرفعون رؤوسهم إلى أعلى...
وصاح احدهم: هذه طائراتنا يا شباب متوجهة نحو الجنوب..
صفّق الجميع.. وهتفوا مهللين، رمى أحدهم- وكان يرتدي ثياب الفتوة- طاقيته في الهواء..
وإلى جانب مفيدة كانت إمرأة واقفة على كتفها طفل بيده كعكة يقضمها مبتهجاً.. أفلت الكعكة وراح يضرب الهواء بيديه الصغيرتين وكأنه يصفق..
ومرّ سرب آخر من الطائرات.. فعلا الهتاف اكثر..
-. إنها طائراتنا.. تتوجه نحو الجنوب
وهطلت الدموع من عيني مفيدة بغزارة.. احسّت انها دموع الفرح.. وانها مطر.. مثل المطر الذي تحمله المزن المفاجئة في بداية الربيع.