هذه هي المرة الثانية التي تتبدى فيها أمام عينيها صورة عنزتها (هرجة) التي كانت تحلب ضرعها في المعمورة، قريتها الغافية بين صخور الجبل الجنوبي في بلدها..
في المرة الأولى عندما كانت واقفة في شرفة برج (إيفيل) تطل منها على باريس.. أما المرة الثانية فهي الان، ويدها تمسك بكأسٍ مليئة بعصير الأناناس في (الامبايرستيت).. ناطحة السحاب الشهيرة في نيويورك..
عندما وقفت في شرفة برج إيفيل لم يكن قد مضى عليها منذ أن خلفت وراءها مطار دمشق سوى شهر واحد.. ولهذا ضاع حنينها إلى العنزة والقرية والسهرة مع القمر على السطح في غمرة لهفتها على استقراء مظاهر ودقائق الحياة الجديدة التي انداحت في دوامتها، ولولا خاطر عابر في ذهنها وهي تزور كاتدرائية نوتردام في الصباح راسماً صورة ( أزمير الدا وعنزتها ( التي قرأت عنها في رواية (احدب نوترام) لما بدت أمامها صورة عنزتها في باريس..
اما هنا، في الامبايرستيت، فإن أصابع يدها الممسكة بالكأس، هي التي تحدثت.. حدثتها عن نفسها يوم كانت الأصابع السمر القاسية، المصبوغة بالحناء، تمسك بضرع العنزة وتحلبه بخبرة ونشاط
وضحكت نايفة وهي ترى نفسها محاطة بمقصورة تسبح في هالة ضبابية حالمة تطل على ثلاث جزر يؤلف مجموعها هذه المدينة الأسطورية، عرفت الان مدى جهل أستاذ الجغرافيا الذي كان يحدث التلاميذ عنها في القرية فلا يتصورونها إلا بحجم ثلاث قرى متجاورة.
وعبثا حاولت نايفة أن تندمج بالموسيقى والضباب والجو الحالم، فقد استيقظ حنينها إلى القرية دفعة واحدة، وعجبت من نفسها كيف انتقلت من القرية إلى جامعة دمشق، ثم إلى جامعة طبية أخرى في مدينة الضجيج هذه لتدفع خمسين دولاراً وترضي فضولها بارتياد هذا المقصف، وحيدة إلى مائدة غريبة بين المتحلقين حول الموائد القليلة الأخرى.
ومرَّ نصف ساعة..
تقدم بعده من مائدتها شاب أشقر طويل يستأذن بالجلوس، فرفضت السماح له بذلك.. كان في عيني الشاب جرأة وقحة.. وتذكرت الذئب..
مرة.. في الجبل.. هاجم ذئب عنزتها (هرجة).. هجمت عليه وضربته بعصا غليظة ضربة جعلته يهرب وهو يرسل عواء متقطعاً، منذ ذلك اليوم وهي تواجه الناس، والرجال بصورة خاصة، غير متوجسة ولا خائفة.. أما هذا الشاب، فلن يكون أشرس من الذئب.. رأته يتقدم نحوها مرة ثانية.. بدا لها وكأنه ثمل.. وعاد يستأذن بالجلوس.. فأذنت له..
قال لها: انت لست أمريكية.. ولست زنجية.. أليس كذلك؟. فأجابت ببرود: هذا سؤال سخيف..
-. أوه.. آسف...
وضحكت فلمعت عيناه.. هي تعلم أن ضحكتها أعجبته.. ان زوجة خالها (لطيفة) كانت تقول لها دائماً: ولك تقبريني يا نايفة على هالضحكة..
وسألته: أنت لست إبن صاحب مصنع للسيارات أليس كذلك؟.
-. أنا ممثل من الدرجة الثانية.. هل تعرفين أن سمرتك جذابة؟
-. اعرف هذا؟.
-. وما سر هذه الجاذبية؟.
-. هذا السؤال أيضاً سخيف..
فانتفض رأسه مع انتفاضة يده: أوه.. سخيف.. سخيف اعتذر إذن.. انا لم أشرب كثيراً، ولكني لست سعيداً.. لقد سئمت الجلوس وحيداً
-. ماذا أتيت تفعل في هذا المكان وحيداً؟.
-. أشعر هنا أنني في مملكة الله..
-. لم أفهم قصدك
-. إن (جوان) تقول لي دائماً: فتش عن مملكة الله..
-. مرة ثانية لم أفهم ما تقول.. من هي جوان هذه.. وأين ستفتش عن مملكة الله..
-. إن جوان بطلة مسرحية ( الحياة السرية).. ونحن نمثل هذه المسرحية على مسرح شبه مجهول في الضاحية الشرقية من المدينة، وأنا لا أنصحك بمشاهدتها.. فهي مسرحية محيرة، مربكة.. من مسرحيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، لست راضياً عنها، ولكن مدير الفرفة يقول أن لها زبائنها تبدو جوان في أكثر مشاهدها وهي تكشف عن فخذيها.. وقد كتب أحد النقاد مقالاً عن المسرحية يقول فيه: لا شيء فيها من التصاعد الدرامي.. وقال أشياء أخرى لا أتذكرها الآن، فالشراب يضيع مني نصف ذاكرتي.. ولكني لا أسكر.. هل تصدقين هذا؟.
-. بدأت أصدقك..
-. أستطيع أن أعطيك موجزاً عن حوار المسرحية على لسان ( شتراوس) الذي ألعب دوره.. وأسمي الحقيقي بلينكي.. إنني أقول لجوان وأنا أتقمص دور سياسي متعثر يقابل بعد مدة فراق طويلة حبيبته التي انفصل عنها دون أن يتزوجا: (( دعيني من ضلال السيطرة، فقد كانت لدي يوماً ما- وانني لأشكرك على ذلك- قوة مافي داخلي.. إلا أن تلك القوة لم تستجب لأي دافع بعد رحيلك..
وتقول جوان: حتى ولا لدافع سبب معقول أو مثير؟
فأقول: هناك الكثير من الأسباب المعقولة التي يسهر عليها الأدعياء البارزون الذين يغلب عليهم حب التظاهر بالقوة الفارغة، والذين يرقبون بعقولهم الصغيرة ماذا سيحدث، فإذا بحثت عن قوتهم الحقيقية التي لا يمكن أن تستعار أو يساوم عليها، وجدت انها تنبعث من الحياة السرية التي يعيشونها. وتسألني جوان عما إذا كان من الأفضل لنا لو لم نلتق ما دمنا لم ننته إلى سعادة، فأجيبها: كلا.. إن ذلك لتجديف.. على الأقل لا تجاري الذين يجحدون، فعجلات الحياة عندئذ ستجري إلى الجهة التي لا نريد
وتقول جوان: ولكن فتش أولاً عن مملكة الله فتتجرد من الرغبة في كل الأشياء الصغيرة ))
كان بلينكي يتكلم بسرعة وهو يحرك يديه وعينيه وكأنه على المسرح في الضاحية الشرقية.. ولم تستطع نايفة أن تستوعب جميع ما قال، ولكنها ظلت تتساءل: مادام هذا موضوع المسرحية، فما الداعي لأن تكشف جوان عن فخذيها في أكثر مشاهد المسرحية؟.
وراحت نايفة تفكر، وهي تتأمل بلينكي، في هذا النموذج من أناس الدنيا الجديدة، عندما قطع عليها حبل تفكيرها بقوله: انني افتش عن مملكة الله لأ تجرد من الرغبة في الأشياء الصغيرة، وهذا ما لا أستطيع أن أفعله على المسرح، فالجمهور والأضواء وصوت المدير خلف الكواليس، كلها أشياء تضعني في واقع متعب لدرجة الإعياء.
-. ولكن لماذا تريد أن تتجرد من الأشياء الصغيرة؟.
-. لم أجد فيها سعادة.. حتى وجهك الأسمر الجميل أشعر أنه بعيد عني.. لا.. لا تظني أنني أقول هذا بخبث.. أنا أحترمك لأنك تستمعين إلي..
-. ما الذي يتعسك على التحديد؟. لماذا لا تسعد نفسك؟.
-. لا أستطيع.. لا يستطيع أي إنسان في هذه المدينة كلها ان يسعد.. إن صديقي الدكتور هومر، وهو طبيب نفساني يقول لي: في حياتك فراغ يجب أن تملأه؟
-. ولماذا لا تحاول أن تملأه؟.
-. بماذا أملؤه؟.
-. الحياة في بلادكم غنية جداً بما يمكن أن يملأ به الإنسان فراغ نهاره وليله
قال بلينكي ونبرة أسى تبدو جلية في صوته: لقد جربت كل شيء، وعبثاً كنت افتش عن السعادة..
قالت نايفة: ما عليك إذن إلا أن تحلب العنزة..
تساءل دهشاً: ماذا تقولين!.
قالت نايفة وهي تضحك: لا شيء.. نصيحة سخيفة...
عندما ذهب بلينكي بدأت صور القرية تسرق نايفة من واقعها مجدداً، وراحت معها في استقراء داخلي لمعنى السعادة التي كانت تعيشها، تشعر بها وهي تحلب ضرع عنزتها ( هرجة ).. ولمعنى السعادة التي يفتقدها بلينكي في نيويورك في أعلى ناطحات السحاب فيها..
وعندما كان المصعد يهبط بنايفة وببعض رواد المقصف إلى الطابق الأرضي، كانت تشعر انها الوحيدة التي تتجه إلى أعلى.