قفز إلى ذهنه سؤال جديد:
-. ترى.. هل ستكون هذه أيضاً من القطيع؟. أليست متميزة؟. لقد قرأ في عينيها البنيتين سيرة جديدة لم يقرأ مثلها في أية عينين مرتا به أو مرّ بهما.. فهل يتابع الطريق ويدخل معها تجربة جديدة؟. أما يكتفي بما في صدره من سهام؟.
كان يومئذ جالساً في مكتبه بإدارة الجريدة يدخن وحيداً ويتسلى بقذف كرات ورقية صغيرة من بين أصابعه، عندما ارتفع رنين الهاتف وكأنه يلح بإصرار:
-. أنت الأستاذ صبحي إذا لم يكذبني حدسي..
-. حدسك صادق
-. انا نجوى حلمي.. هل عرفتني؟.
-. أنت إحدى بطلات مسرحنا..
-. وهل لقب البطولة رخيص لديك إلى هذا الحد لتمنحه لأول هاتفة
-. لست أول هاتفة كما أعتقد..
-. معنى هذا انك تمنحني لقباً مكروراً
-. أعرفك ممثلة بارعة على المسرح، لكني أكتشفت الآن انك محاورة ذكية
-. ما دمت بارعة على المسرح.. لماذا أهملني قلمك حتى الآن؟
-. لا تزالين في أول الطريق..
-. بل قل ان غيري يحتل الدور الآن
-. أحكامك جائرة.. مهما يكن، هل هتفت لي لهذا أم لسبب آخر؟..
-. سأكذب عليك إذا تعذرت بسبب آخر
-. تعجبني صراحتك..
-. هل اعتبر الموضوع في حكم المقرر؟.
-. أنا لا أقرر أموري بمثل هذه السرعة..
-. إذن لا بدً لنا من لقاء.. سأتصل بك مرة ثانية..
...
السؤال يلح عليه.. السؤال نفسه الذي كان يلح عليه كلما وجد نفسه أمام تجربة مع واحدة من الباحثات عن الشهرة في الصفحة التي يشرف عليها بالجريدة.. آخر واحدة في قطيع هؤلاء الصبايا كانت فتاة على المسرح أيضاً.. زميلة لنجوى هذه، جاهدت كثيراً حتى استطاعت أن تثبت قدميها على الخشبة، وتألقت بين الأضواء التي وجهت إليها من هنا وهناك، ولكنها وجدت أن هالتها ناقصة إذا لم يكتب عنها قلم صبحي.. دعته إلى عرض مسرحية كانت تمثل فيها دور البطولة، واعطت يومها عطاء باهراً، وعندما دوّت الصالة بالتصفيق كان هو واحداً من المصفقين.. ودارت عيناها في الصالة تبحث عنه حتى وجدته، فانحنت قليلاً وابتسمت شاكرة، وكتب عنها: (( انها الأولى بين الواقفات على خشبة المسرح في البلد )).
ومرّ عام، فإذا هي تدلي لإحدى الصحف بتصريح حول بعض الأمور الفنية، وتأكد صبحي وهو يقرأ الحديث إن الغرور، ركب رأسها الصغير.. خاف عليها من هذا الغرور، فاتصل بها يحذرها من نتائجه، وكم كانت الصدمة قاسية عندما قالت له: (( أنا أعي ما أقول.. وأعرف حدود طريقي.. ثم لا تنسَ أنني لست ممثلة ناشئة.. ولا تنسَ أن النقاد قالوا عني إنني الفتاة الأولى على خشبة المسرح..
وأصبحت في آخر القافلة.. سقطت.. تهاوت إلى الأدوار الثانوية.. أصبحت مقدمة اعلانات.. وهذه الجديدة هل ستكون مثلها.. مثل الأخريات؟. هل ستنتهي بدورها إلى الغرور والضياع؟. هل يدخل معها التجربة؟.
رن الهاتف.. عرفها هذه المرة من صوتها..
-. أهلاً نجوى..
-. كيف عرفت صوتي؟.
-. أرجو ألا يضيع مني بعد اليوم
-. ألم تكن تنتظر مني مكالمة طيلة الأيام الماضية؟.
-. أصدقك القول؟. بلى..
-. إذن.. فنحن الآن في طريق التفاهم.. هل أستطيع أن أسرق من وقتك ساعة نجلس فيها ونتحدث؟.
-. أين؟.
-. في بيتي.. في المقصف.. في الشارع.. على العشب في طريق ترابية بإحدى مناطق الريف..
-. الإقتراح الأخير يوافق مزاجي..
-. مزاجك غريب..
-. إنني أبحث دائماً عن الأشياء المختلفة
-. في الطريق الترابية قالت له: حول المدينة مناطق كثيرة أجمل من هذه المنطقة.. إنها فقيرة..
-. أنت اقترحت المكان
-. ولكني طرحت الإقتراح دون تفكير.. انه أول شيء مر بذهني..
-. ولهذا اخترته..
-. ولكنها منطقة فقيرة.. وسواقي الماء فيها ضحلة..
-. مرّة.. وكان ذلك في ريف الشمال، وكنا نحصد الشعير.. عطشنا.. ولم يكن هناك ماء سوى غدير تكومت فوق مياهه جثث الجراد التي سقطت بمبيدات دائرة الزراعة. ازحنا جثث الجراد وشربنا..
-. إذن فعلي أن أقبل المكان ولو كان زريبة..
كان يدرك انها ممثلة بارعة، ولكنه لم يكن ليتصور أنها بارعة في التمثيل على الطريق الترابية، كما هي بارعة على خشبة المسرح..
وسألته فجأة: هل أنا جميلة؟..
-. ما كياج المسرح يفسد جمالك الطبيعي..
-. ما هو أجمل ما فيّ؟.
-. عيناك..
-. أرجو ألا أكون بالنسبة لك مجرد عينين جميلتين
على المسرح..
هذه المرة بدت أكثر تألقاً.. أعطت عطاء باهراً، وعندما دوّت القاعة بالتصفيق كان هو واحداً من هؤلاء المصفقين.. وتبدل المشهد.. وفي ذروة تأزم إحداث المسرحية في المشهد الثاني، قدمت هي منولوجاً بديعاً من الأداء الفردي، فالتهبت الاكف وهي تصفق لها.. وكان هو يصفق فرحاً، ورأته فرمقته بعينين شاكرتين..
وعندما أسدل الستار هرع إلى الكواليس ورمى معطفها على كتفيها العاريتين، ثم سحبها من يدها إلى أقرب سيارة.
-. كنتِ اليوم رائعة..
-. إنني مدينة بنجاحي لتشجيعك
-. يسعدني أن أراك متفوقة
-. هل لديك ملاحظات حول الدور؟.
-. ارتكبت مخالفة لاأريد أن تتكرر مرة ثانية..
-. وما هي؟.
-. نظرتك إلي وهزة رأسك
-. ولكني كنت أشكرك..
-. كنت تمثلين مشهداً على المسرح.. والممثل على المسرح يجب أن يكون مع دوره فقط..
-. في المسرح الحديث لا يحدث هذا.. الممثل يجلس أحياناً مع الجمهور.. مع هذا سآخذ بملاحظتك..
-. لم تطلبي إليّ ان اكتب عنك..
-. لم يعد يهمني أن تكتب عني للناس ما دمت انت راضياً عني
-. حديثك هذا يذكرني ببراعة طالبات المدارس في تملّق الأستاذ قبل الفحص النهائي..
-. وهل أمامي إمتحان قادم؟.
-. الغرور.. آخر سهم في جعبة التجربة
وسقطت بدورها... بعد عامين فقط.. لم تستطع أن تقاوم إغراء الشهرة.. خدعها بهرجها.. بدأ الغرور يحرق في عينيها ذلك التألق..
كانت تحمل (البوم) المقالات التي كتبها عنها صبحي.. وتتحدى به زميلاتها، بل انها بدأت تطلق تصريحات غريبة: خشبة المسرح ضيقة.. إن المسرح يخنقني.. يجب أن أنطلق إلى اجواء أخرى.. إلى السينما.. إلى العالمية ))
وعندما ضمتهما جلسة عرف أنها تلحق حثيثاُ بالقطيع، حتى طريقة إشعالها السيكارة تغيرت..
لم يقل لها شيئاً.. كان يعني في أعماقه التمثال الأسطوري الذي ظل ازميله يحدد ملامحه لتبدو واضحة.. نبيلة.. كبيرة.. فإذابه يتهاوى إلى كومة من الصلصال الرخيص..
وبدأ الموسم المسرحي الجديد.. عرف انها ستكون بطلة المسرحية الجديدة.. دخل الصالة ليلة الافتتاح وجلس في الصف الأخير..
على الخشبة كانت الصبية تتعثر بأثواب الفشل.. وكانت في عينيه هو دموع مالحة