قصور البنات

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

 

لأعترف قبل كل شيء.. أنني انثى عنيدة، وشاحبة كأوراق الكتب القديمة. عاشرت أصابعي‏

 

 

الحبر طويلاً وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن هدف غامض ورجل غامض، ربما‏

 

 

اسمه المهدي، وربما هارون الرشيد. وإذا أردت أن أخفف عنكم، أقول أنا أنثى مسحورة بأشياء‏

 

 

كثيرة، ومسكونة بامرأة تشبهني أستطيع أن أبوح بأنها امرأة غريبة مخيفة. وقد تكون قد عاشت‏

 

 

من قبل. تدخن النرجيلة في المساء، وفي الليل تزحف فوق المخمل، تتلمس بأصابعها أعشابه‏

 

 

السرية السوداء وتنتظر أمطاره السماوية.‏

 

 

قلت لكم بأنني مسحورة بأشياء كثيرة ومسكونة بأكثر منها. قد يثير ذلك لديكم الدهشة‏

 

 

لتفاهته وقلة اكتراث الآخرين به. كزمرة دمي، لا شيء إلا لأنها سلبية، ونادرة لذا اعتبرتها‏

 

 

مقدسة فقد قال لي صديقي الطبيب الذي يعرف جنوني واهوائي يوماً:‏

 

 

-زمرة دمك زرقاء وهذا يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدرت إليك؟‏

 

 

-لا أعلم.. قهقهت بصوتي.. فنصف عائلتي مجانين.‏

 

 

-والنصف الثاني؟‏

 

 

على وشك الجنون‏

 

 

تذكري من أين جاءك النبل..؟‏

 

 

أنا مختلطة الدماء، فربما جاءتني من جدة بعيدة جاؤوا بها سبية من القفقاس.‏

 

 

-وربما‏

 

 

من جسد لي جاء من أرمينيا يبحث عن أقاربه، ربما كنت أميرة عباسية من سلالة الرشيد‏

 

 

دمها ممزوج من كل عروق البلاد المفتوحة، وربما أكون بر مكية من جعفر أو الفضل.‏

 

 

-أتحبين التاريخ إلى هذا الحد؟!‏

 

 

-وأكثر‏

 

 

-من هنا يأتي الجنون‏

 

 

-أو الحكمة‏

 

 

وضحكنا أنا وصديقي الطبيب، وهكذا كنت أحمل دماً أزرق، أحرص على اللعب به دون‏

 

 

اعتبار أو خوف من الآخرين، فقبل سنوات بعيدة جاءت عائلتي إلى هنا وسكنت العائلة في بيت‏

 

 

متواضع ظهره إلى سور المدينة العتيق، وإذا أردت التحديد اطل من سور المدينة التي بناها المنصور‏

 

 

على شكل بغداد صغرى. كان ابي موظفاً صغيراً، وأمي امرأة حالمة، لا ترى في العالم سوى بيتها‏

 

 

وأسرتها. قد تجلس أحياناً على باب البيت مع بعض الجارات.‏

 

 

أما أنا فقد كنت مبهورة بكل شيء، العشب البري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة‏

 

 

المنازل الترابية والتل الذي يقف شامخاً أمام بيتنا حيث كنت أقضي وقتاً في جني باقة من أزهاره‏

 

 

البرية، كنت مبهورة باحجار القرميد الضاربة إلى الحمرة أو الصغيرة وبالناس الذين يحبون شرب‏

 

 

الشاي، والدخان، مبهورة بالمساحات الواسعة للبيوت لأن التل لم يكن تلاً من تراب فحسب،‏

 

 

وإنما يتوجه من الأعلى، ما بقي من إطلال بناء ما زالت بعض أوابده تتحدى الزمن، وفصول‏

 

 

السنة، وتعديات الأهالي. في أحد الأيام.. سألت جارنا العجوز الذي كان يجلس كل يوم عصراً‏

 

 

إلى جانبه وهو يدخن النرجيلة ويشرب الشاي ويسعل متأملاً كل ما حوله بمتعة واهتمام، هذا‏

 

 

العجوز الذي علمني كيف أمسك خرطوم النرجيلة وأقرقع بالمياه واسحب منها حتى يضيق‏

 

 

صدري فانفث الدخان مرة بعد أخرى بدأت أشاركه الشاي والنرجيلة ونتحدث...‏

 

 

أهذا البناء قديم يا عمي...؟‏

 

 

-ايه يا ابنتي قديم قبل أن أخلق...؟‏

 

 

-أوه يا عمي فهو قديم جداً.‏

 

 

-ضحك وهو يأخذ مني خرطوم النرجيلة....‏

 

 

-خربوه.. نهبوا حجارته، وبنو منازلهم الوضيعة التي أمامنا هذه..‏

 

 

-وماذا كانوا يسمونه؟ يا عمي؟‏

 

 

- يسمونه.. وهز برأسه- قصور البنات.‏

 

 

- وأي بنات يا عمي؟‏

 

 

بنات هرون الرشيد.. ويقولون يا ابنتي إن خزائن الرشيد مدفونة فيه.‏

 

 

قالها ثم بدأ السعال الذي لا ينتهي منه عادة إلا بذرف الدموع.. وناولني خرطوم النرجيلة.‏

 

 

هذا الرجل المسن، كان يعاملني كشابة كبيرة، يستفقدني إذا غبت عنه يحكي لي عن هرون‏

 

 

الرشيد، وعن الرقة وسكانها الأصليين وعن الوافدين وعن بيوتها القديمة، وكيف ساهم في بناء‏

 

 

الجسر العتيق، هذا الجسر الذي عتقوه لكثرة ما أطلقوا عليه الجسر العتيق، رغم أني وجارنا‏

 

 

العجوز ما زلنا نراه الأجمل.. حين نخرج إليه صباحاً وحين نتعب نجلس على رصيفه وكأننا في‏

 

 

قارب والمياه الخضراء السريعة تمر من تحتنا... هذا الجسر الرائع، الذي كان أول جسر للعالم‏

 

 

الثاني، فلولاه لبقيت الرقة بقعة مجهولة.. وعليه مر الآلاف من البشر قادمين ومغادرين.‏

 

 

رفع جارنا العجوز يديه قائلاً: بيدي هاتين نقلت إليه الحديد.. والاسمنت. تركت له متابعة‏

 

 

الحديث، وانسحبت إلى الطرف الاخر من الحارة أراقب التل والحجارة، والعشب، وقد رسمت في‏

 

 

عينيَّ صور بنات الرشيد وسط الجواري والوصيفات، ينتقلن من غرفة إلى غرفة، عبر الردهات،‏

 

 

والسراديب، ورائحة العطر تعبق من أردانهن وعند حافة البركة تقف امرأة تشبهني تجلس على‏

 

 

طرف البركة، تلهو بأقدامها التي تزينها رسوم الحناء، تلعب بمياه البركة، ويداها تعبثان بسلسلة في‏

 

 

أسفلها معلق قلب فارغ. ومرت الأيام ونشبت بيني وبين تلك الأطلال علاقة قوية. فأنا أجلس‏

 

 

هناك أتلمس الأحجار أرى الأقواس والنوافذ التي لا زالت عامرة... وأحياناً أسمع همسات‏

 

 

الجواري.. ضحكاتهن وأشم عطراً غامضاً يهب من فتحة الحمام محملة بتنهيدات حارة اصغي‏

 

 

إليها.‏

 

 

في يوم من الأيام جاء رجال غامضون وقفوا فوق التل يستعرضونه. رجال شقر شباب‏

 

 

وكهول يلبسون لباساً يختلف عن لباس رجال مدينتي... يتحدثون بكلمات لا أفهمها، وقد‏

 

 

أصابت الدهشة معظم الجوار.. إلا صديقي العجوز الذي قال بلهجة عادية: سواح.. إنهم سواح‏

 

 

أجانب قليلاً ويرحلون لكن الرجال عادوا في اليوم التالي. بنوا خياماً في الساحة المجاورة لمنزلنا،‏

 

 

وبدؤوا يفردون أوراقهم، وخرائطهم كان الوقت صيفاً... يدققون في الخطوط والأشكال يقيسون‏

 

 

المسافات يضحكون أو يعبسون.. وبعد أيام استأجروا عمالاً، وبدؤا بالحفر وترحيل الأتربة‏

 

 

وبدأت تتكشف معالم جديدة لقصري، ردهات طويلة جدران.. دهاليز وغرف.. والرجال الشقر‏

 

 

يتابعون عملهم بهمة عالية، وتصميم دون اعتبار للحر، أو التعب، وقد علمت أنهم بعثه المانية‏

 

 

مهتمه بالآثار الإسلامية، جاءت للتنقيب في هذا التل. ويوماً بعد يوم، ألف الأهالي وجود الرجال‏

 

 

الشقر بينهم أما أنا فكنت أراقب ما يجري بمتعة وخوف.. وفي أحد الأيام اقترب مني أحد الرجال‏

 

 

الشقر... كثيراً أما كنت أقف بجانبه أعطيه ماءاً أو أناوله ازميلاً صغيراً يشير إليه في الحقيبة‏

 

 

المفتوحة.. أو ابتسم له، فيرد علي. إنه "جون" هذا الشاب الجميل أشقر الشعر.. عيناه زرقاوان..‏

 

 

أسنانه كانت تثير في الابتسامة، فإذا ما فتح شفتيه كنت أسترق النظر إليها.. كان يتردد كثيراً إلى‏

 

 

بيتنا.. تعلمت منه بعض الكلمات بينما هو التقط بعض المفردات العربية التي ينطق بها أحياناً‏

 

 

لكثرة ما تجول في بلدي. اقترب مني.. جلس بجانبي على الأرض، ورفع طاقية حمراء كتب عليها‏

 

 

باحرف ألمانية كبيرة، اسم الشركة التي يعمل بها.. وضعها على رأسي مما شجعني كي أقترب منه،‏

 

 

وأسأله:‏

 

 

-هل وجدتم شيئاً؟‏

 

 

-ضحك وقال: أوه... شيء.. أشياء كثيرة.‏

 

 

-وأين هي؟‏

 

 

-ألا ترينها أمامك؟! إنها ثروة كبيرة.‏

 

 

-كنت أريد الوصول إلى ما يشغلني كي أستعيد صورة هرون فسألته:‏

 

 

صحيح ما يقال عن هذا البناء؟‏

 

 

-وماذا يقال؟‏

 

 

-إنه كان قصراً لبنات الرشيد وفيه كنوزه مخبأة.‏

 

 

-ضحك هذه المرة "جون" ضحكة صاخبة ومديده إلى رأسي، كي يبعثر شعري ثم قال:‏

 

 

-هذا كلام صحيح، إنما غير دقيق.‏

 

 

- وأنت ماذا ترى؟ أقصد البعثة...‏

 

 

- حتى الآن نستطيع أن نقول: إن هذا البناء ربما يكون. وهذا غير أكيد قصراً لأحد أثرياء‏

 

 

تجار الرقيق.. كان يستخدمه لطالبي اللهو، والمتعة أو اللذين يريدون شراء الجواري النادرات..‏

 

 

إنه يعد بمثابة دار،أو معهد لتعليم الموسيقا.. الرقص الأدب.. الغناء.. ضاقت عيناي، وتقطب‏

 

 

حاجباي حين انهى "جون" جملته الأخيرة.. فذهبت إلى منزلنا. جلست في الغرفة.. أحسست‏

 

 

بأشيائك الكثيرة يا هرون تغادرني.. هززت كل ما لدي من قناعات وأحلام. تراجعت إلى الوراء‏

 

 

كثيراً.. أصبحت وحيدة وسط فراغ قاتل.‏

 

 

أهكذا يتحول رشيدي إلى نخاس يتاجر بالرقيق الأبيض. أهكذا يتحول قصره إلى مجرد دار‏

 

 

لطالبي المتعة واللهو ولذة الجواري..‏

 

 

صرخت بنفسي كملتاعة.. مهزومة.. منكسه.‏

 

 

لم أصدق كل ما قاله جون.. كنت أتابع حفرياتهم، وأنا أتمنى أن يظهر ما يبدد أوهامي وكل‏

 

 

يوم كنت أصادف مندوب مديرية الآثار، فأسأله:‏

 

 

-ألم يجدوا جديداً‏

 

 

-كل يوم نجد شيئاً جديداً.‏

 

 

وما هي وظيفة هذا البناء؟‏

 

 

وماذا يهمك أنت من وظيفة البناء؟!‏

 

 

أريد أن أعرف، هل كان حقاً داراً لطالبي المتعة واللهو؟‏

 

 

وهل تكرهين هذا..؟‏

 

 

-لا بل أكره أن يكون هرون من النخاسين‏

 

 

- عسى أن يحقق الله حلمك، فنجد ما يقلب توقعاتنا.. ولا يكون البناء داراً للمتعة.‏

 

 

مرّ أكثر من شهر وأنا أترقب الجديد.. وأتابع معهم الحفريات وأسمع نقاشهم وتحليل الحروف‏

 

 

ومقارنتها.‏

 

 

واتى جون لمنزلنا راكضاً يناديني بعربيته المكسرة.‏

 

 

- تعالي لك خبر سار عندي.‏

 

 

- ما هو هل رأيتم رشيدي؟!‏

 

 

-لا لا.. اكتشفنا شيئاً جديداً سيفرحك.‏

 

 

-ما هو...؟‏

 

 

قادني من يدي حتى أدخلني البناء وأشار إلى عمودٍ عليه كلمات لم أعرف ماهي؟ وأحرفها‏

 

 

غريبة.‏

 

 

التفت إلى "جون" متسائلة:‏

 

 

-إنه عمود عليه شعار المؤسسة التي ينتمي إليها البناء "ووظيفته التي تهمك.‏

 

 

- ما هي؟‏

 

 

لقد كان البناء مشفى، فالشعار الذي على العمود يؤكد ذلك، فلقد رأينا مثله في دمشق.‏

 

 

-مشفى؟! قلتها بفرح واستغراب.‏

 

 

-نعم مشفى للمجانين.. فالبناء هو "بيمارستان" هكذا تقول الأحرف التي على العمود.‏

 

 

-بيمارستان؟!‏

 

 

ركضت إلى التل الذي ما يزال يطل على البناء.. هناك تربعت على الأرض.. انظر إلى البناء. فما‏

 

 

زالت البركة تتوسطه، بينما الجواري تدخل إلى غرفه، وتخرج من دهاليزه.. ورجال.. وعبيد كثر،‏

 

 

وقوافل تغادر وأخرى تحط أمتعتها وتدخل لترتاح فيه وتخرج. ضحكات من الممرات وأبخرة‏

 

 

الحمام تصعد غيوماً فوق رأسي.. وتصل إلى أنفي رائحة عطور قريبة من نفسي... ولا زالت تلك‏

 

 

المرأة التي تشبهني تجلس على طرف البركة وقدماها المزينتان بالحناء.. في الماء، بينما يداها تلهوان‏

 

 

بسلسلة معلقة بعنقها تنتهي بقلب فارغ، وطاقية جون الحمراء لا زالت على رأسي.. ألم أقل لكم‏

 

 

إنني أنثى مجنونة...؟ مسكونة؟ مسحورة؟ ما زالت تنتظر المهدي، أو هارون الرشيد، كي يملأ‏

 

 

فراغ ذاك القلب المعلق بسلسلة تلك الجارية المضمخة بالحناء من رأسها حتى قدميها.‏