عقاربُ الزمن
ظلت عينا الأم تراقبان ابنتها في حيرة وتساؤل، لقد طالت وقفتها أمام المرآة. طالت أكثر ممّا ينبغي.. الأم تذهب وتجئ، والفتاة مشدودة بكل أحاسيسها إلى مرآة معلّقة على الجدار، تعبث بشعرها، تتلمّسُ وجهها، تتلفّت وتتلوى، تدندن لحناً شعبياً شائعاً.. ازداد توتر الأم، وتسارعت حركاتها قريباً من الفتاة.. غريبٌ أمرها؟!! ماذا تعمل أمام المرآة.. أتحدّثُها.. أتُفضي إليها بسر؟؟..
منذ الصباح الباكر، تذكرتِ الأم جيداً، أنَّ على ابنتها ديمة أن تبدأ مساءَ اليوم دورةَ التقوية في اللغة الانكليزية في معهد خاص.. أخطرتها بذلك... في الوقت المناسب، أخذت ديمة تستعد للذهاب إلى المعهد لتلقّي الدرس الأول..
صاحت الام من الغرفة المجاورة:
-.. ديمة.. ديمة.. أسرعي، لقد حان الوقت.
ضحكت ديمة في سرها. حانت منها التفاتةٌ سريعة إلى معصمها الأيسر:
-.. لايزال الوقتُ مبكراً.
صاحت الأم بعصبية:
-.. لقد أطلتِ الوقوف أمام المرآة.. أتتحدّثين إليها؟!
سكتت ديمة.. علت وجهها ابتسامةً لامعة. تفوّهت بكلمتين صغيرتين:
-.. غريب أمرك ياماما!!
وراحت أصابعها اللدنة ، تضع آخر اللمسات على شعرها وعنقها وخدّيها.. استداراتٌ رشيقة ذات اليمين وذات الشمال.. لحن أخرس ينسابُ عبر الشفتين..
وقفت الأم تحدّق بابنتها، تكحّل عينيها بذلك الجسد الأهيف الرشيق والشعر العنقودي المبعثر في كل اتجاه، والبشرة القمحيّة الجذّابة، والأنوثة الصارخة... ومع أريج العطر الفوّاح الرقيق، المنبعث من الفتاة، تماهت الأم مع أحلام بعيدة الغور، شدّتها إلى عالم بعيد منسي..
أيقظتها ديمة من ذهولها الحالم، عندما وضعت كفّها على كتفها، وخطفت من خدها قبلة رشيقة..
-.. خاطرك ماما.. أنا ذاهبة إلى المعهد.. سأعود عقب انتهاء الدرس..
استيقظت الأم من شرودها.. أعادتها ديمة من أحضان سنوات بعيدة خلت.. لفّتِ المكان حولها بنظرات زائغة.. شاهدت ابنتها تندفع بخفّة عبر ضلفتي الباب الرئيسي.. صاحت بصوت مبحوح:
-.. الله معك.. مع السلامة.. احترسي ياديمة.. لاتتأخري.
التفتت ديمة نصف التفاته.. عطّرت المنزل بابتسامة ناعمة.. وراحت تقفز حتى غيَّبَها الدرج المتلوّي.
***
ظلت أمينة وحيدةً في المنزل.. كل شئ حولها موصد، يوحي بالرتابة والجمود والانقطاع.. زوجها محمود ذهب قبل ساعةٍ كعادته إلى المقهى. لن يعود قبل منتصف الليل.. لقد أصبح المقهى بيته الثاني.. لا. قد يكون بيتَه الأول.. بعد زواجهما بعشر سنوات كان لايبرح البيت، يعود من عمله سعيداً مستبشراً.. يقضي المساء والليل ساهراً مع امينة وديمة الصغيرة. يوزعُ الفرح والابتسام في أرجاء البيت.. منذ سنوات قادته قدماه خارج المنزل، حتى أن ابتلعه المقهى لقمةً سائغة هيّنة...
المنزل يجلّله الصمت.. صمت جليديٌّ مطبق.. أمينه، وغرف ثلاثٌ محشوّة بأثاثٍ مختلفِ الأشكال.. نظرت أمينة من الشرفة، كان الشارع المزدحم قد غيّبَ ديمة.. أمينه تدق الأرض بقدميها وهي تنتقل من غرفة إلى غرفة، ترتب الموجودات، تعيد الأمور إلى نصابها.. تنتقل بعفويّة بين غرفة النوم والمطبخ والحمام والصالة الكبيرة.. في كل مرة تغرسُ عينيها في المرآة المعلقة على الجدار، تنظرُ إلى وجهها.. لسنوات خلت لم يكن لديها فرصةٌ للوقوف أمام المرآة طويلاً.. لم تكن تجد لزوماً لذلك.. كانت المرآة شيئاً مهملاً في حسابها... تنتقل من غرفة إلى أخرى، تنتحلُ المبرّرات للتريّث أمام المرآة... لقد فجّرت ديمة في داخلها شيئاً ما.. ديمة ابنة الثامنة عشرة، وقد نالت الشهادة الثانوية قبل أسابيع.. فجرّت في نفس أمينه أشياء وأشياء.. تكاثرت النظرات المسروقة من المرآة.. تعددت مرّات الوقوف السّريع.. تباطأتِ الحركة.. تلاشى النشاط المتوتّر عبر الغرف الثلاث، همدت حركة أمينة الناشطة.. تسمّرت قدماها أمام الجدار، ابتسمت لها المرآة، صافحت وجهَها بعد فراق طويل.. كان وجه ديمة القمحي اللامع ، وجسدها النحيل ، ونظراتها المشرقة ، نبضات الحياة حول أمينة... أمعنت النظر جيداً... لم تكن ترى إلا نصفها العلوي.. وجهٌ مكتنز.. خدود مكتظّة.. شفاه ممتلئة.. عنقٌ يكاد يتفجّرُ من الامتلاء.. صدرٌ يعلو ويهبط بأثقاله... هالها المنظر، وهي ابنة السادسة والثلاثين... تذكرت ابنتها ديمة.. الرشاقة، الجاذبيّة، السحرُ والخفّة.. حقدت على المرآة.. حانت منها التفاتات بلهاء مشتّتة إلى كل الأماكن.. إلى سرير ديمة.. إلى غرفة نومها.. إلى السرير المزدوج العريض.. إلى مفروشات الغرفة.. تذكرت زوجَها محموداً، الغارقَ في المقهى بقسوة، صاحبَ الجسد الممتلئ والقامِة الفارعة والملامح الجادة والقسمات الصارمة.. تذكرت ديمة وهي واقفة طويلاً أمام المرآة، تعبث أصابعُها بكل أجزاء جسمها.. تبعثرت نظراتُها التائهة مع عناصر شتىّ.. ديمة. محمود. المقهى. غرفة النوم. المرآة. الغرف الثلاث. وجهها المكتنز. جسدها المترهل...و ...و..
سحبتها النظرات التائهة على بساط رخيٍّ من الأحلام والذكريات، تماهت مع أيام بعيدة خلت.. تلونت الأحلام بألوان قوس قزح. بألوان طيف لاينتهي.. استيقظت الذكريات حادةً من مرقدها.. حفرت في نفسها أخاديدَ عميقةً نازفة... كانت في مثل عمرها. عمرِ ديمة.. في الثامنة عشرةَ، تتباهي بمثل ذلك اللون الأسمر القمحي الجذاب، والخصر الأهيف ، والنظرات الآسرة ، في كل يوم تذهب إلى المدرسة .. مدرسة ليلية . تذهب بعد الظهر وتعود بعد الغروب بقليل... في الطريق إلى المدرسة الليلية تعرفت إليه.. لابل تعرَّفَ إليها.. كان خالدٌ طالباً مثلها، يسكن قريباً من بيت أهلها، ويدرس في المدرسة الليليّة ذاتها... وحَّدَ الصف بينهما. وكان طالباً مجدّاً. استعانت به كثيراً. أولاها مزيداً من الاهتمام.. أخذ يرافقها في طريق العودة. وعند باب دارها يفترقان، بفترقان بصعوبة.. أصبحت تحب المدرسة والدراسة لأجل خالد.. يسيران في طريق العودة ببطء، يستمهلان الزمن، يتحدثان بلاحدود.. عندما ينقطع التيارُ الكهربائي، يحتضن كفّها الصغيرة بكفِه كيلا تتعثر.. أشهرٌ قليلة مرّت بسرعة البرق، وحان فحص الفصل الأول.. عائدان من المدرسة الليليّة..الحديث المهموس يعطّر جوَّ الشتاء القارس.. وكل منهما يعرف طريق كفّهِ إلى كفِّ الآخر، ويتمنّى ألاّ ينتهي الطريق... عند باب البناء الرئيس، حيث تسكن أمينة، توقفا طويلاً.. في تلك الأثناء، خرج شخصٌ فارع القامة، ممتلئ الجسد، له نظراتٌ عقابيّة، صارم الملامح.. وقف الرجل ينظر إليهما بعنف، أخافتهما نظراتُه، افترقا على غير رغبة منهما.. أسرع كل منهما هارباً.. خالد راح يغذُّ الخطا باتجاهٍ آخر، وأمينة ولجت باب البناء الرئيس والخوف ينهشُ قلبها، ويعِقدُ لسانها.. توجهت إلى شقّةِ أهلها.. تبعها الرجل الآليّ.. أغلقت الباب وراءَها، وراحت تجترُّ المفاجأة ومنظرَ الرجل الآلي... في اليوم التالي، لم تذهب أمينة إلى المدرسة الليلّية، عاد خالدٌ وحيداً حائراً. وقف أمام باب البناء الرئيس، زفرَ كآبتَهُ ومضى... أمينةُ لم تذهب إلى المدرسة، ذاقت ألواناً من العذاب النفسي.. إلاّ أنها لم تتمرّد. لم ترفض. رضخت على غير قناعة منها... لقد خطبها الرجل الآلي. وخلال شهر واحد أصبحت أمينةُ زوجة محمود...
لفّتها تلك الأحلامُ بالأسى، ووخزتها الذكرياتُ المرّة.. أعادتها إلى واقعها.. كانت لاتزال أمام المرآة تجترُّ مشاهد الامتلاء والترهل والاهمال، لقد أصبحت خلال سنوات صورةً عن محمود، صورة عنه في كل شيء. تناوبت على صفحات ذاكرتها أسماءٌ تدور كلوحة الكترونية.. خالد. أمينة. محمود. ديمة. المدرسة. المعهد. الطريق إلى البيت... فجأة وخزتها صورةٌ محدّدة. أبعدتها عمّا حولها. أنستها كل شيء.. نسيت المفارقة العجيبة التي أنبأتها بها المرآة المعلّقة على الجدار.. تلاشت من ذاكرتها صورة الجدِّ والصرامة التي تغطّي سحنة محمود وتصرفاته.. نسيت البيت والمقهى والعمر والزمن، توحّدت مع واحدة فقط من ركام هذه الذكريات المتداخلة، جرّدتها عن كل ماعداها. اعتصرتها بعنف، تراخت بجسدها المكتنز إلى أقرب مقعد خالٍ.. رذاذٌ من التعرق ألهب جسدها. عاد التوتر يأكلها بنهم. استسلمت لهواجس مرّة جلدت أعصابها... في مثل هذه الساعة وقبل ثمانية عشر عاماً وأكثر... كانت تعود من المدرسة الليلية.. عيناها معلقتان بوجه خالد، وكفّه تحتضن كفها، والحديث العذب يزرع الدرب ياسميناً وبنفسجاً، وظهرَ وجه محمود الصارم المتجهّم، ليضعَ حداً لكل شيء.. افترستها مخاوفُ حادّة "ديمة الآن عائدة إلى البيت... أيكون هناك خالدٌ آخر.. تصورت كفها في كف خالد.. شاهدته يهرب من جديد مسرعاً أمام الرجل الآلي ذي الملامح الصارمة...لا...لا... مستحيل. آه ياخالد.. ليتك لم تهرب.. ليتك لم تتركني وتذهب.. لكان تغيرّ كل شيء."
هبّت واقفة حانت منها التفاتة إلى الساعة المعلقة على الجدار قرب المرآة.. لسعتها الدقائق أكثر. تناولت معطفها وخرجت مسرعة، وتضاريُس جسدها ترسم على الدرج أمواجاً عشوائية، إلى أن لفظها ورماها في أشداق الشارع المزدحم... سارت تدق الأرض بنعليها.. على بعد خطوات غير قليلة لمحت ديمة. توقفت كجذع شجرة هرمة، حدّقت فيها طويلاً.. الشعرُ المتماوج. القدُّ الأهيف. المشية المتثنيّة الهادئة. اللون القمحيُّ ينثرُ ألقَهُ عبر سويعات المساء البارد.. غرست فيها عينيها أكثر.. إلى جانب ديمة شابٌ أنيق.. هاهو خالدٌ آخر، هكذا حدثها قلبُها... الموكب يسير ببطء شديد.. العيون الأربع معلقة بالوجهين اللذين يفضحان أسرار الفرح والأمل والحب... تاهت أمينة من جديد في دوامة الذكريات.. تكسّرت في مشاعرها حدودُ الزمان والمكان.. تداخل شريط التذكر.. لفّها بغمامة من الضياع والعبثية.. فوجئت بصوت ناعم يصيح:
-.. ماما.. ماالذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟!!.. هل تأخرت؟؟.
صَحَتْ أمينةُ من التداخل والضّياع.. قالت برفق:
-.. لا.. أتيتُ لأرافقكِ شطراً من الطريق يابنتي.. من هذا الذي بجانبك؟.
ابتسمت ديمة.. صافحت نظراتُها اللامعةُ الواثقة وجهَ أمّها التفتت إليه، وقالت:
-.. إنه مروان.. مروان ياأمّي.
تخثَّرَ اللعاب في حلق أمينة.. تجمدّت نظراتها الكابية.. انتصب أمامها خيال خالد، أرادت ان تعاتبهُ.. سدَّ الطريقَ عليها خيال محمود، قرعت أذنيها جلبةُ المقهى والصورة الجادّة الصارمة العابسة.. ادارت وجهها لتبتسم لخالد، لتعاتبه... لم تجده.. لقد تلاشى الخيال، هرب من جديد.. وجدت أمامها مروانَ بقامته الشابّة، ووقفته الثابتة، ووجهه الباسم، ونظرته الجريئة الخجلى.. ويدٍ تحمل في كفّها المودةَ، وقد امتدت للمصافحة...
عندما أُغلق بابُ الشقّة على الأم وابنتها، استنطقت الأم المرآة بنظرة عجلى.. هزت راسَها.. غيرَّت موقع عقارب الزمن.. طوت منه سنوات طويلة.. التفتت إلى ديمة.. أمسكتها من كتفيها.. هزتها برفقٍ وقالت:
-أيتها الفتاة الواعدة، التي عرفت طريقها..
أجابت ديمة
-.. وهل كنتِ تخشين علىَّ أن أضلَّ الطريق؟.
-.. لا.. لن أخشى شيئاً. فبيني وبينك قرابة ربع قرن من الزمن، متخمٍ بالترهل والاهمال والوجوه الصارمة والمقاهي...
شُدِهت ديمة، ورفعت حاجبيها مستعلمةً مستغربة.. قالت هامسةً:
-.. لم أفهم شيئاً ياأميّ.. ماذا تقصدين؟!!.
-.. ستفهمين ذات يوم أيتها الحبيبة الغالية. فأنا لن أخشى عليكِ شيئاً.
وغابت الاثنتان في عناق طويل، بلّلتهُ دموعُ الأم، التي كادت تفضح أسراراً دفينة، انطوت عليها شقّةُ محمود بغرفها الباردة الثلاث