فجأة صحا الاستاذ من نومه.. لم يدم نومه طويلاً.. خيل إليه أنه في حلم، أو أنّ هناك شيئاً مفزعاً داهم بيته وعائلته.. هبَّ من فراشه مذعوراً.. استعاذ بالله.. مسح وجهه ورأسه بكفّين دافئتين.. فرك عينيه محاولاً إزالة آثار النوم عنهما... أنصتَ بقلق.. التفت حوله، لم يسمع شيئاً.. قال في سرّه.. اضغاث أحلام.. حاول العودة إلى النوم.. إلاّ أنَّ طرقاتٍ قوّيةً على الباب الخارجي تتالت بتواتر متشنج.. انطلق من غرفته باتجاه الباب، تعثر في مشيته عدة مرّات.. أزاح مزلاج الباب الحديدي، وهو متدثّر بالصمت والحيرة.. لم يملك أن يقول شيئاً لأن جاره أبا الحسن اندفع إلى الداخل مستغيثاً صارخاً بأعلى صوته:
..استاذ مسعود.. أنا بعرضك...
ظل فمُ الاستاذ مفتوحاً، محاولاً استجلاء الموقف.. فهم من كلمات أبي الحسن المتهدجة المتداخلة.. أنّ ابنه مريض.. عبثاً حاول الاستاذ مسعود تهدئه روعه.. أبو الحسن لايكف عن النحيب والثرثرة، ومن جرّاء الحديث المتداخل المتقطّع عرف الاستاذ أن الفتى تنتابه نوبات صداع حادٍّ جداً تؤدي إحياناً لفقدان الرؤية والتوازن.. كان الاستاذ يعرف ذلك من قبل.. بسرعة البرق وصل الاستاذ إلى بيت أبي الحسن، أخذ الفتى بين يديه، كان ذاوياً متلاشياً... أدرك خطورة الموقف.. انسلَّ كالشّعاع دون أن ينبس بكلمة.. غاب بعض الوقت وعاد يرافقه طبيبُ القرية... لاذ الجميع بصمت جليدي.. أجرى الطبيب إجراءات تقليدية.. جمد في مكانه... انتحى بالاستاذ مسعود جانباً.. أفضى إليه بمخاوفه من أن يكون ثمة ورمٌ خبيث بالدماغ... قرّرا معاً أن لابدَّ من السفر إلى العاصمة في الغد.. صعق أبو الحسن.. غاص في متاهةٍ من الذهول والتشتت.. كان يعتقد أن طبيب القرية قادر على إسكات الألم... كان أشدَّ مايمزّقه فكرة الذهاب إلى العاصمة.. فهو عمرّه لم يغادر قريته.. حتى أنه لايعرف الطريق الموصلة إلى العاصمة... سأل بلهفة حارة عن السبب... أبدى الاستاذ مسعود تعليلاً قاصراً.. انهار الأب.. انتحبت الأم تراخى الفتى بين أمواج الألم وذراعي الاستاذ.. بعد قليل، تخلّص الاستاذ من جسد الفتى الذابل، وتركه صريعاً بين أنياب الألم، وانسلَّ متلمّساً طريقه إلى بيته، بعد أن وعد أبا الحسن بمرافقته غداً إلى العاصمة...
***
تلك الليلة لم يعرف النومُ سبيله إلى عيني الاستاذ مسعود.. قضى ليلته مسّهداً يحاور نفسه... غطس في مستنقع من الحيرة والتردّد... راح يستجرُّ وقائع الماضي الجميل... إنه منذ عهد بعيد لم يزرِ العاصمة.. كاد ينسى شوارعها وأزقتها ومبانيها.. قديمةٌ جداً هي آخر مرة زار فيها المدينة الكبيرة .. كان ذلك في أيام الشباب المبكر ، عندما اضطرَّ للذهاب إليها ليقدّم أوراق تعيينه لدى وزارة التربية، قضى فيها أياماً عدّة، حلَّ فيها ضيفاً على عبد اللطيف النعسان، صديق عمره، وابن قريته، وزميل الدراسة.. إيه... كانت أياماً جميلة على الرغم من شراسة الظروف وقساوتها.. منعه الفقر في تلك الأيام من مواصلة دراسته الجامعية، بينما تابع صديقُ عمره عبد اللطيف النعسان دراسته الجامعية في كلية الحقوق.. منذ ذلك التاريخ اختلفت السّبُلُ بينهما، وانقطع الاتصال إلاّ من زيارة خاطفة سريعة.. عبد اللطيف النعسان ندرت زيارته لقريته الأم، واستسلم للاسترخاء الممتع في أحضان المدينة الشاسعة.. وراح يشقُّ طريقه عبر مغريات المدينة نحو العلاء وتحقيق الذات.. ترى.. هل سيتعرّف عليَّ عبد اللطيف النعسان؟؟!! هل سيتذكر صديق طفولته وأيّام صباه؟؟!!.. هل سيرحّبُ بي وأنا القرويُّ الساذج والموظف الصغير.. وهو ابن المدينة الغني وصاحب المركز والجاه الكبيرين..
عندما وصل الاستاذ مسعود بخواطره إلى هذا المنعطف، ضحك من عفويّتهِ وشكوكه.. وأنّب نفسه لأنها تطعن صديق عمره وزميلَ دراسته القديم.. لا.. لا.. إن عبد اللطيف النعسان هو السَّندُ الوحيد لنا، ولكل أبناء هذه القرية، في تلك المدينة الصخّابة المتلاطمة الامواج.
استيقظ الصباح.. ثلاثةُ رجالٍ، كانوا يخدشون الصمت على الطريق الترابية الضيقة.. هدرت السيارة العتيقة.. راحت تخبُّ على الطريق الاسفلتية العريضة.. وصل الركب إلى العاصمة.. الحزن والصمت يجّللان الوجوه.. صخّبُ المدينة وضجيجها يقتلعان الصمت الحزين من جذوره، ويفتتان أكبد الوافدين الثلاثة.. تماسك الاستاذ مسعود، أبدى كثيراً من التجلّد والصبر.. آهٍ... لشدَّ ماتغيرّتِ أيتها المدينة العملاقة، لقد تغيرَّ فيكِ كل شئ.. المباني.. الوجوه.. الشوارع.. نكهة الأصالة والمودّة.. هنا..لا أحدَ يعرفُ أحداً.. كان الاستاذ يقود الركبَ مسترشداً بالعنوان الذي منحه إيّاه أحمد النعسان ابن عمِّ الوجيه الكبير.. كان الصبيُّ يشدُّ رأسه بحزام حريري، ويسير إلى جوار والده شاحباً، تائهاً عن كل شئ.. أمام مبنى سامخٍ جميل، توقّفِ الركب.. نظر الجميع إلى البناء بعيون بلهاء.. تلمّظَ الاستاذ مسعود، قلّبَ كفيه.. تجوّلت عيناه لتمسح المبنى الفاره بكل نوافذه وشرفاته وبوّابته العريقة.. دلف الركبُ عبرَ البوابة.. تعرَّف الاستاذ إلى الشقّة التي يسكن فيها عبد اللطيف النعسان.. أمام باب الشقّة استسلم الركب الحزين لصمتٍ مطبق.. نظر الاستاذ مسعود طويلاً إلى زرِّ جرس أنيق مضاء.. يجثم على جانب باب الشقّة.. اقتربت إصبع كفّه اليمنى من الجرس وابتعدت مراراً.. أخيراً حزم الاستاذ أمره وغمز زر الجرس بكثير من التشنج والانفعال والحذر .. خرجت صبية صغيرة من بنات القرية تعمل خادمة في منزل الوجيه الكبير ابن قريتها . تعرفت إلى الأستاذ بسهولة وعفويّة.. ابتسمت له بعمق.. رحّبت به بحرارة.. لكنها اعتذرت بخجل مرهف.. فدخوله المنزل مستحيل، لأن سيدها غائب.. أعلمتهُ عن ضرورة ارتباطه بموعد مسبق إن أراد المجيء إلى منزل سيدها مرة ثانية.. كان الخجل من الموقف يأكل عينيها ووجهها.. عرف الاستاذ مسعود من الفتاة أن سيدها صديق طفولته وعمره، موجودٌ الآن في صالة نادي الشرق.. إذ اضطرَّ للذهاب إلى هناك إثر مكالمة هاتفية وصفها بأنها هامة.. اتجه الركب الحزين يحمل آلامه إلى النادي.. أمام مدخل النادي الخارجي وقف الألم الذي يوزّع على ثلاثة رجال.. شخص الألمُ بعيون كثيرة نحو المدخل العجيب.. بعد رجاءٍ ملحاح أذن موظف الاستقبال الأنيق، ذو القدّ الأهيف، أذن للاستاذ فقط بالدخول عبر أبهاء النادي.. سار الاستاذ متعثراً، مشدوهاً لكل شئ يراه على الجانبين.. دَلّهُ موظف الاستقبال بإشارة من يده إلى حيث يجلس الوجيه الكبير.. كان واحداً من مجموعة من الرجال يتحلقون حول مائدة مستديرة مترعة بالورود والكؤوس.. ويبدو أن حديثاً حاراً يستقطب الجميع.. عاد الارتباك من جديد يفصمُ الاستاذ مسعود ويمزّقه من الداخل.. هتف به صوت داخلي.. تشجع.. أنت زميل النعسان وصديق عمره وابن قريته الصغيرة.. ثمّة ممراتٌ ضيقة تحوطها أصص الورد والشجيرات الصغيرة.. سار عبرها متعثراً.. ندم على مغامرته هذه.. تمنى لو يعود بالألم والصبيّ إلى الضيعة.. وليقضِ الله في ذلك مشيئته.. لكنه سرعان ماتخلّص من حرجه وإرباكه.. اتجه نحو النادل القريب.. طلب منه باحترام شديد أن ينبّه السيد النعسان إلى وجوده.. لحظات قليلة.. التفت الرجل.. وقف بتثاقل.. أقبل.. واجه الاستاذ مسعود مباشرة.. آه.. إنه هو... هونفسه عبد اللطيف النعسان.. لم يغيّره الزمن.. بعضُ الشيب قد غزا شعرَ رأسه.. تمرُّ لحظات صعبة حرجة.. يمزّق الاستاذ مسعود لوحة الحرج بابتسامة طفيفة يرسمها على شفتيه.. يخرج الوجيه الكبير عن تجهّمه قليلاً.. يتذكر.. يرحب بالاستاذ مسعود ترحيباً لم يدخل إلى قلبه الطمأنينة والراحة.. يطلب النعسان من صديق عمره وابن قريته أن يجلس إلى طاولة منفردة ريثما ينتهي من مهامّه.. قفز قلب الاستاذ من صدره.. أخطره أنه جاء إليه في مهمة عاجلة جداً لاتحتمل التأجيل، وأنه قَصَده طالباً معونته، راغباً في "إيده الطايلة".. تذكر الاستاذ بمرارة أن موكب الألم الحزين لايزال ينتظر في الشارع، وأنَّ الصّداع نخرَ دماغ الفتى وأعصابه.. توجّه إلى صديق عمره بالرجاء والتوسّل.. بدا الضيق واضحاً على وجه الرجل الكبير ابن القرية الصغيرة.. لكنه غالب ضيقه، واستمهل جُلاّس مائدته المستديرة بإشارة من يده.. روى له الاستاذ القصة باهتمام بالغ وأسلوب مؤثر، محاولاً تحريض نخوته وأصالته الريفية.. ابتسم الرجل الكبير ابتسامةً باهته.. مطَّ شفتيه.. ورفع حاجبيه.. قال:
-.. لاأجد شيئاً يقتضي السرعة!!.. ماذا تريدني أن أفعل؟؟
صُعق الاستاذ مسعود.. غرق في مستنقع الخيبة والاحباط، واستسلم بصمت مرهفٍ لم يدم طويلاً، لأن الوجيه الكبير قطعه محدّثا نفسه:
حتى في أوقات راحتي وصفائي.. لاأجد فرصة للراحة.. هل عليَّ أن أزعج الأطباء في بيوتهم حتى أدخله المشفى..
سقطت من بين شفتي الاستاذ كلمتان صغيرتان:
.. كنتُ أظنُّك...
وكأن النعسان تذكر شيئاً وجد فيه مفتاحاً للحلِّ والخروج من الحرج.. رسم على وجهه ابتسامة عريضة.. نظر بامعانٍ في وجه الاستاذ مسعود.. وضع كفّه على كتفه.. قال له:
اسمع يااستاذ.. هذه بطاقتي.. وماعليك إلا أن تذهب بالمريض إلى أي مشفىً حكومي.. قدِّم هذه البطاقة إلى مدير المشفى.. وهو سيقوم باللازم... واستدار عائداً إلى مائدته حيث ينتظره رجال الأعمال...
لم يطل تشنّج الاستاذ مسعود في مكانه.. سرعان ماانحلّت عقدة لسانه وساقيه.. رفع البطاقة بين أنامله إلى أعلى.. مزّقها نتفاً صغيرة.. نثرها قريباً من مائدة عبد اللطيف النعسان وصحبه.. سيطر الفرح العفويّ على ملامح وجهه... عاد إلى الركب الحزين المنتظر خارجاً.. نظر إليه والد الفتى.. سأله بدهشة:
..مالكَ متهلّلاً ياأستاذ؟؟!!..
..لقد أبصرتُ بعد أن كنت أعمى.
..وهل قبل ابني في المشفى الاختصاصي؟؟
تلمّظ الاستاذ.. ازدرد ريقه..
..بلى.. لقد قُبل...
لم يعد الاستاذ مسعود بحاجة للحديث.. خلع عنه عباءة الاحراج والارتباك.. سأل شرطي المرور عن الطريق المؤدية إلى مركز الطب النوويّ.. سار الركب الحزين بأتجاه المركز.. اجتاز البوابة الرئيسة.. مثل الفتى في العيادة الاختصاصية.. أحيل إلى شعبة الأورام لاجراء الفحوص والتحاليل اللازمة .
عندما عاد الاستاذ مسعود إلى قريته الساجية.. التقاه أحمد النعسان ابن عم الوجيه الكبير.. بادرّهُ سائلاً:
.. هيه يااستاذ.. ماالأخبار؟؟
أجاب الاستاذ بهدوء تام..
.. أخبار طيبة والحمد لله..
.. طبعاً قام عبد اللطيف بالواجب وأكثر..
.. لا.. لم يفعل شيئاً.. لأنني لم أجده..
.. كيف؟؟
.. لقد كان غائباً.. ولست أدري هل سيعود أم سيطول غيابه