كم أتمنى أن أنسى نسياني لأستريح .. ولكن يبدو أن الجرح أعمق من أن يستوعب جرحاً أخر فيه ..!
إنها أكبر من مأساة أن يتمزق هذا القلب (الوحدوي) إلى أشطار ...
شرق .. وشرق.. وغرب، وغرب...
ولا أدري كيف يكون النبض إذن ..؟!
ربما _ من حسن الحظ- أن مساري كان دائماً مستطيلاً في معابره، بلا شمال أو جنوب... ولو كان مربعاً ، لكانت ماساتي أكبر من أكبر ..!
المغرب العربي والمشرق العربي، هما جسدان من جسم واحد ، وقد يبدوان للعين المجردة ، أنهما يدوران في فلك واحد .. لكن من خلال النظرة المجهرية المدققة، يظهر أن كل واحد منهما أخذ يلف حول محور خاص- وقد جرى كل ذلك ، بسبب هذا القلب المشطور ..! فهل يأتي يوم يلتئم فيه البطينان ..؟!
إنني أبحث عن سبب أختياري المجيء إلى دمشق، دون غيرها من العواصم العربية ..؟ ولقد أرهق ذاكرتي المريضة، الصديق محمود .. بهذا السؤال ..
ربما هو حدس تفتق عن إرهاصات دفينة جعلني أحس بقرب معجزة، ستحدث حول ضفاف بردى يحققها قائد عبقري وجئت هنا كي اشاهد المعجزة عندما يلتئم القلب الكبير .. وتندمل الكلوم .
وربما لكي أطمئن تاكدي، من أن لغة " البدو هي أيضاً _ في محافل التقنيات _ بليغة ، وقادرة ، ورائدة وإن إطلاق كلمة ( البدو) من بعضهم هو أدعاء ملغوم.! وافتراء عرقي حاقد ...
وربما لكي أحصر يأسي ، وأخنقه وهو في المهد - وأبرهن لأشباح التشاؤم التي تهافتت أمامي ، أنه ما زال في ديار العرب من يذكرنا بعمر، وعلي، وخالد.. ببيانه وبنائه، يبدع الهيبة والاستقرار، ويزرع البسمة والأمان، ويجني غلال الازهار.
الأمير عبد القادر بن محي الدين ، جاهد مدة سبع عشرة سنة بالسيف، والبندقية والقلم.. وعندما ضاقت حوله الدوائر ، وخانه ذوو القربى، اختار دمشق، ومثله فعل مئات الآلاف من الأحرار... الأنصار ..
لماذا أختار الأمير دمشق بالذات، وهي أبعد العواصم العربية _ تقريباً- عن عاصمته ..؟
-يبدو أن سورية والجزائر- كانتا في الأزل بقعة جغرافية واحدة، بترابها وشبابها، باخلاقها وارزاقها، بطباعها وصراعها.. فحملها الله بيديه الكريمتين ساعة توزيع الحياة، وتوظيف الكائنات- على هذا الكوكب العامر- ثم وضع ما باركته يمناه في المشرق وماباركته يسراه في المغرب، وقال لهما .عز وجل _ كونا شوقا واحداً يتأجج بين قطرين .. دمشق .. الجزائر
وإلاّ .. ما معنى حنين الأمير ..ووجود ما يقرب من سبعمائة ألف مواطن سوري، من جذور جزائرية هم حالياً يتحركون بكرامة وسعادة وكبرياء .. من رأس العين إلى درعا ..؟
كان الأمير يبحث عن الحرية، وقد وجدها في جنبه الأيمن .. سورية.
وربما ما حدث للأمير ، وانصاره ..
هو ماحدث لي بالضبط، مع فارق في مهام الزمن، وفي نوع الحرية التي كنت أبحث عنها طيلة ثلاثين سنة..؟
لقد كان الأمير يبحث عن حرية الوطن .. بينما كنت أبحث عن وطن الحرية، لذلك كان عظيماً خالداً، وصرت أنا متسكعاً شارداً.. مع أننا وجدنا ضالتنا، في مكان واحد.. هو دمشق ..
-لماذا أخترتها ..؟
ربما لأنني فيها، كنت قد أكتشفت ذاتي .. وتعرفت على مسارب جذوري، الضاربة في أعماق التاريخ المجيد..
وربما لأنني بين ربوعها أخذت أول درس في المنطق ، وعلوم النفس، والقيمة الأخلاقية، وعلم الجمال..!
وربما لأنني، فوق مروجها الزكية الندية، زرعت- لأول مرة. وردة للحب، وعندما نمت وازهرت، غادرتها بغتة، وكتبت قصيدة شجية، من ( ربيعي الجريح) !
وفي سورية.. ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، كنت لأول مرة ، أقود مظاهرة، وأعزف على / الكمان / وأذيع .. واكتب في الصحف .. وآكل الكوسا باللبن، واعلم، والعب الشطرنج وامتطي/ ترامواي/ السكة نحو حي الميدان، وادير قرص الهاتف، وأشرب وأطلق الرصاص في العرس ، واشارك في رحلات الجامعة ، وامسياتها الشعرية، وأترأس منظمة للطلاب، وأتدرب على استعمال الرشاش، وأقود دورية، وأشتري ورقة/ يانصيب / خاسرة، وأدخل السجن، وأخطب ، وأنسج طاقية بسنارة واحدة، وأطرز عليها صورة العلم الجزائري بألوانه الثلاثة.. ثم تضيع مني تلك الطاقية، دون أن أضعها فوق راسي . ولو مرة واحدة ..!؟
ربما... وربما لأن ذكرياتي قبل ثلاثين سنة لم تزل كما هي .. ساخنة منتعشة.. واضحة جلية بكل تفاصيلها حتى لكأنني أعيش أحداثها الآن !.
إنني أستطيع أن أطلق على كل صورة منها، كلمة (لا تنسى ). أما بعد ذلك فجل ذكرياتي قد طالها النسيان ..وفي ذلك خسارة لا تعوض، وعمر من المواقف ، ضاع وتلاشى بلا أثر أو إحساس مني .. أو من الآخرين الذين هم نحن ..؟!
ليلة ( لا تنسى ) مرت بي عندما كنت معلماً في مدينة الحسكة ..
كنت عندما تتجمع لديَّ بقايا راتبي، لثلاثة أو أربعة أشهر، اضعها في جيب البنطلون، واتجه مباشرة بالحافلة نحو دمشق ، فيستقبلني الأصدقاء، وطلاب المغرب العربي كما يستقبل الأثرياء الكرماء، وخلال أسبوع من الغيث أكون قد نظفت جيوبي من درن المادة، وأعود سعيداً إلى الجزيرة، وأنا لاأملك سوى أجرة الحافلة ، وطيب الذكريات .
مرة.. كنت عائداً إلى مقر عملي ..فدفعت كالعادة أجرة الحافلة من دمشق إلى الحسكة، ولم يبق في حوزتي أي قرش ..!
انطلقنا صباحاً .. وقبل الغروب، وصلنا محطة الحافلات في مدينة دير الزور .. وإذا بالسائق يعلمنا بأن محول السرعة في حافلته قد تعطل، وأننا مجبرون على قضاء الليلة كلها في المحطة . لمن أراد _ حتى يتم إصلاح العطب، وسنواصل السفر غداً .. إن شاء الله ..!
تعالت بعض الاحتجاجات . ثم استسلم الجميع للأمر الواقع .. وهنا بدأت حكايتي ..
كنت ارتدي بدلة أنيقة مع ربطة عنق،( نسيت الألوان ).. وأحمل محفظة منتفخة، تضم بيجامتي، ولكن من يراها في يدي ، يتخيل أنني محام ثري، يحمل قضايا دسمة ,..!
اشتقت إلى شرب كأس شاي، ومنعتني كرامتي أن اتسوله من صاحب المقهى ، بل امتنعت حتى عن الجلوس فوق أحد المقاعد . خشية من أن يواجهني الجرسون بعرض خدماته، وأرده دون حياء ... إنه حينئذ سيتهمني بالشح ، وهي صفة أمقتها ..
وعندما غابت الشمس قمتُ على غير هدى - وتلوت فاتحة الرحلة ..
وبخطى ثابتة، اقتحمت شوارع المدينة، وكنت أوهم كل من يراني أنني أقصد مكاناً معيناً ومعلوماً، حتى لا أثير أي شك بأنني متشرد، مفلس أجهل مسارب المدينة، ولا أملك غير أنفي.. وساقي المتسارعتين، ومخلفات عائلية من عقدة الحشمة .
قبل انتصاف الليل ، كنت أحياناً أصادف شخصاً ما، في زقاق ما ، يتسلل باستعجال وحذر نحو مقصده، فيرمقني بنظرة إعجاب وغبطة .. كنت أتصوره يقول في نفسه: لا ريب أن هذا الرجل الثري المحظوظ قد وصل الآن من السفر، وهو في طريقه نحو منزل أحد الأغنياء.. إن الطيور على أمثالها تقع..!
كنت أرمق المارة القلائل بنظرة فيها اعتزاز وكبرياء مع تظاهر بقرب الوصول ...! وبسمة طيفية توحي بسعادتي، فيحيونني بأدب . وأرد بإشارة خفيفة، وأنا أحسدهم، لأنهم يعلمون أين هم ذاهبون..؟
لو كنت في مكان آخر، زمن أنهيار الذاكرة لجردت من ثيابي، بسبب محفظتي وربطة العنق ، ولأشبعت ضرباً، ولرميت بين الموت والحياة، خلف أي رصيف ..!؟ وبعد منتصف الليل، كان صدى قدمي، فوق أزقة المدينة الهادئة المقفرة، هو الصوت الوحيد الذي يردد أن هناك إنساناً وحيداً يمشي.!
لم أشعر بالتعب أو بالجوع أو العطش ، ولكنني كنت منزعجاً من طقطقات وقع حذائي على الأرض .. لم أكن أدرك من قبل أنه يصدر ذلك الضجيج الكريه ...!
لقد دنس حرمة السكينة الخاشعة، ولم يكن باستطاعتي أن أسير حافياً، إن ذلك سيفسد مظهري .. وإلا كنت فعلت فللمدينة اسم محفوف بالقداسة .
حوالي الساعة الثالثة صباحاً، وجدت نفسي خارج العمران ..فتراجعت مع قليل من الذعر، وتوغلت داخل أزقة، كنت أحس بأنني أطول من قامات أسوارها ..
كنت أفكر في النائمين .. أليس بينهم أحد يراني الآن في حلمه ، فيغادر فراشه راكضاً، ويقدم لي كأساً من الشاي ..؟
مجموعة كبيرة من سكان دير الزور، هم من أعز أصدقائي .. ولكن لم تكن معي عناوينهم ، واستحيت أن أسأل عنهم .. هكذا .. بلا إخطار ، مع احتمالات الليل ..!
ومشيت .. حتى طلع الفجر علي .. ثم أشرقت الشمس ..
وأحسست بالأرهاق .. فأنطفأت فوق مقعد الحافلة .
وعندما حكيت قصتي هذه ، لأصدقاء من الدير ، ابتسموا .. ولعنوني بأسم كل صديق لي في مدينتهم البريئة: الدير ..!