من الأمور العادية ، أن ينسى الإنسان حادثة، أو إسماً، أو وصية ، أو أي شىء آخر، كان يذكره ، ثم فجأة يختفي من ذاكرته ، ولا يعود إليها إلا بعد تركيز واعتصار إلى حد الكزاز .. وقد يتلاشى نهائياً، ولا يظهر أبداً ..
ولكن هل من المعقول أن ينسى الإنسان شيئاً معيّناً ثم ينسى أنه ناسيه ، فيعوضه بشىء آخر، ظاناً أنه هو المطلوب بعينه .. وأن ذاكرته سليمة، ولا غبار عليها ..!؟
منذ سنين ، كانت زميلتي تتمشى أمامي، فناديتها بصوت مرتفع، جاكيت.. جاكيت ..! وتعجبت كيف لم تدر راسها نحوي .. ألم تسمعني..!؟ وكررت النداء بصوت مرتفع أكثر .
-جاكيت .. ألا تسمعينني..؟
التفتت نحوي غاضبة، وهي تقول، ماهذا المزاح الثقيل ..! هل اسم جاكيت عندك أصلح من اسم جانيت ..!
طبعاَ الجمني الإحراج والحياء، فلم أنبس بكلمة واحدة عفواً يا جانيت .. وكانت أصداء نبراتي الداوية بمفردة / جاكيت / مازالت ترن في أذني كالهاجس الوقح ..!
ما علاقة اسم جانيت، بهذا الاسم الدخيل، جاكيت؟ ربما لأنها دائماً ترتدي جاكيتاً فضفاضاً فوق تنورتها؟ أو ربما لأن شكل هذه الزميلة، يشبه إلى حد كبير ، شكل الجاكيت. فهي ضامرة، ونحيفة، وخفيفة الحركة، وتبدو وكأنها بدون صدر ..!
وربما مجرد زلة لسان، سببها تشابه حروف الاسمين .. مثل التطبيع ، والتبطيع والتنطيع والتطويع.. فهذه الكلمات كلها متشابهة في بعض حروفها، ويمكن للإنسان أن يخلط في النطق بها نتيجة النسيان ، وعدم التركيز ..
وبمناسبة ذكر موضوع تشابه الاسماء بالحروف، أذكر أنني كنت قد سجلت مجموعة من الأخطاء/ المطبعية/ الطريفة، كانت قد وقعت في بعض الصحف الجزائرية اليومية ،.. وكانت مثاراً للكثير من الاغتباط أو الاغتياظ .. وكان سبب حدوثها - في رأيي- يعود إلى سهو/ المصحح / ونسيانه ، نتيجة تشابه الحروف .. وليس لشيء آخر ..!
وعلماء النفس، يعرفون جيداً أسباب هذه الأخطاء البريئة، ودوافعها العفوية..
- فمثلاً- نقرأ : / قصر المؤامرات/ .. والمقصود - طبعاً _ قصر المؤتمرات ..
- ونقرأ: سنفتح الأبواب أمام الاستعمار الخارجي.. وفي الغد .. تعتذر الجريدة، بأن المقصود من كلمة / الاستعمار / هو الاستثمار .. وأنها مجرد غلطة فمعذرة.
العجيب في الأمر- حسبما أذكر - أننا خلال أعوام الخمسينات، كانت أغلب أخطائنا/ المطبعية/ تنصب نحو مقاصد، ومعان، وأشياء.. كريمة، ومحبوبة، فمثلاً ، نخطىء في كتابة/ الثروة/ فتكون / الثورة/ .. وبدل/ الوخذة/ نكتب / الوحدة/... وقد نسجل كلمة/ التحرير/ بدل التحجر أو التأخير ... كانت أخطاؤنا/ المطبعية/ تعبر ببداهة، عن مطامحنا، ونوايانا، لذلك كانت تنزع - بتلقائية نحو الأفضل والأجمل ... بينما في هذه العهود / الاستسلامية / الرديئة .. تحولت كل أخطائنا إلى كل ماهو نقيض، وسيّئ، وكريه.
-سمعت مسؤولاً يخطب أمام مجموعة من مسؤولي الشباب في المغرب العربي، فقال لهم : " إنني أرحب بكم أيها / الأشقياء/ في بلدكم هذا .." وكان يقصد: أيها الأشقاء..!
وكانت مذيعة التيلفزيون، تكرر يومياً، إعلانها عن تقديم حصة للأطفال بعنوان/ العبقري الصغير / فتقول :" والآن إليكم أيها الأطفال حصة العبرقي الصغير "! ولم تنتبه أبداً لتصحيح غلطتها..!وفي إحدى حملات التبرع الخيرية، قال مواطن متبرع ، أمام ميكرفون الإذاعة:" إنني قد تبعّرت في قريتي، وجئت هنا لأتبعّر في العاصمة"..!
كل هذه الأخطاء لا ريب أن لها علاقة بتشابه الحروف.. كما لها أيضاً علاقة وطيدة بآفة النسيان، حيث ينسى الكاتب أو المتكلم وجهة الصواب، ويقع في الخطأ ، وهو يعتقد أنه لم يحد عن جادة المنطق المقصود.. وتلك هي مشكلتنا في زمن انتشار الأخطاء ..!؟
بالنسبة لي كمريض أصيل في داء النسيان ، فقد يحق لي أن أحمد الله، على أخطائي النسيانية . نظراً لكونها في الغالب لا تتجاوز حدود الشفهيات البسيطة، وهذا يعود إلى ما يتمتع به مرضى النسيان من براءة، وعفوية، وشهامة.. ومن نزوع مستمر نحو الصراحة ، والحق والخير ..!
أما تلك الأخطاء النسيانية الأخرى، والبعيدة عن محيطي الأخلاقي، فإنها تستحق كلمة/ أعوذ بالله / .. لأنها تتجاوز حدود القول إلى الفعل، وتتعدى مرحلة البساطة إلى درجة التعقيد،..
وعوض أن تثير بسمة الرحمة والإشفاق، أو نظرة العتاب الرقيق.. فإنها تكون مصدراً خطيراً لإحداث الكوارث، والآلام، والأحزان ...!؟
أحدهم يسافر نحو الغرب بذاكرة مشوهة، أو منحرفة.. يحمل معه جهله، وفقره، وحرمانه ، فتلفظه الموانئ في عرض الطريق،.. وتبتسم له فضلات الأرصفة ببعض مافيها من بقايا قوت مسموم.. وركام مكانس.. وشوارد شقراوات.. وتتوالى أيام الهزال، فينسى ذلك المسكين نفسه، وينغمس حتى العنق في أحد أكياس الفضلات .. وينخطف بصره لشدة لمعان الشعر الأصفر، ويتمطط الكيس، ويبدأ، يغرق،.. يغرق فتأكل رطوبة البحر قدميه وتنهش ملوحة العيون الزرق حروف بطاقته الشخصية، فيصبح دون رقم، وبلا صورة أو هوية.. وشيئاً فشيئاً.. يبتلعه جوف الكيس، ويتعفن، وتحمله شاحنة البلدية لترمي به كأي قمامة في مكان منسي سحيق ..!؟
في الزمن الماضي، كان التشرد خارج الوطن، يتطلب جهداً، وشجاعة، ومعاناة، وتضحية، أما اليوم فقد صار التشرد سلوكاً مجانياً تافهاً حقيراً .. وأحياناً لا يستدعي حتى الرحيل والمغادرة، يكفي المرء أن يتنكر لذاكرته، ويتناسى روح المغامرة ، ويجحد هويته ويعتنق بانبهار تعاليم / البارابول/ الدش، فينسلخ عن جلده..
اليوم ..ما أكثر المشردين بلا هوية ، في اعالي الجزائر، وشوارع غزة وأريحة.. وأزقة المغرب وتونس.. مااكثر ضحايا النسيان / المستورد/ وما أكثر الذين يقتلون.. ويقتلون نتيجة للأخطاء النسيانية بسبب تشابه الحروف بين الأسماء.. وبسبب تشابك الأشكال واختلاط المفاهيم، وانتشار ظاهرة التعدد في الأذواق السقيمة ..
اليوم.. تجاوزت أمراض النسيان مرحلة الشفهية.. إلى مراحل الحفر، والهدم ، والتدمير..
التشرد اليوم اصبح داخل الوطن الأم، والوطن أصبح مزكوماً بالأكياس المتعفنة، والأم أرملة، وكل الذين يسيرون على أقدامهم كالأيتام، مهددون بالتبني من طرف العم : سوبرمان : ليجعل منهم في المستقبل القريب ، مواطنين صالحين، لتأهيل كوكب المريخ .!؟