لماذا تستيقظ العصافير مبكرة..؟
-ربما لأنها لاتشاهد التلفزة في المساء..
أذكر أنني عندما كنت طفلا،- منذ سنين طويلة- كنت أفتح عيني يوميا لأشاهد تسلسل خيوط الفجر الفضية من نافذة غرفتي،.. وحينئذ أتمطط فاتحا ذراعي، أحتضن اليقظة البيضاء، وأقذف بقوة ساقي الصغيرتين، غطاء الفراش، وأنا أفكر بسطل الماء البارد.. ثم أذهب كالرجل مع والدي، لأداء صلاة الفجر.
- بعد غيبة طويلة، زرت قريتي التي كانت تنام ، وتستيقظ مع العصافير.. وجدتها تغيرت كثيراً عما كانت عليه أيام الطفولة الضائعة..
كان يحرسها القمر، بطلعته الصافية البريئة، فصارت مدججة باعمدة الاسمنت العملاقة، ذات القواعد المربعة الضخمة، والرؤوس النارية المضيئة... وكان يظلها جريد النخيل المتصافف، بسعفه الأخضر الرفراف، فأصبحت تملأها الهوائيات التلفزيونية الشائكة، كأنها هياكل عظمية منحوتة، فوق مقابر جبلية، أكلت تربتها الرياح... أما سواقيها التي تحيط بها من كل جانب، والتي كنا نشرب، ونستحم ، ونرش الأرض، ونسقي البساتين من مائها العذب الرقراق- فقد بقيت في أماكنها على حالها الماضي، الا أنها تحولت إلى مجار لسوائل أخرى ، قذرة موبؤة، لها وزن الزئبق، ولون القطران ورائحة الجيف المتعفنة، وطعم..؟ ربما تذوقه بعض الأطفال الضحايا، ممن ينزلقون فيها أيام هطول الأمطار، وارتفاع نسبة الوحل إلى الركبة.
قريتي تغيرت كثيرا.. وتطورت.. أصبحت تطلّ على العالم كله، من خلال نوافذها المسحورة، المنتشرة داخل بيوتها الطينية، وأكواخها الخشبية، أصبحت تعرف كل شىء خارج نطاق معرفتها لنفسها ، بعد أن كانت معزولة في واحة نائية لاتعرف من الزوار غير أقارب أهلها.
وأهل قريتي تغيروا.. انهم إلى حد الآن مازالوا مجهولين من طرف سكان العالم، بل وحتى من طرف جيرانهم في أقرب مدينة اليهم، انهم مثل قريتهم المجهولة، والتي لامكان لها في ذاكرة أي أجنبي، ولا في رسم أي خريطة جغرافية الا أنهم بحكم التطور التيكنولوجي للزمن، وبفضل أطلاعهم اليومي على مجريات الحياة في جميع المحيطات والقارات تغيروا كثيراً.. كثيرا
لم يعد في استطاعتهم أن يناموا مبكرين مثل العصافير التي هجرت واحتهم بلا عودة.
عندما يطل الفجر، لم يعد يرى كعادته سابقاً أفواج الفلاحين، يتتابعون بين صفوف النخل كالمجاهدين وهم يحملون مسحهم وفؤوسهم، ويتأبطون مناجلهم ليسمدوا الأرض بعرقهم الزكي، ويفتحوا للنور السماوي مسارب حول كل بذرة حنون.
أضحى أهل قريتي ، ينكرون صعود قمم السوامق من النخل..كبارهم أدركهم العجز المبكر، وصار الدوار يصيبهم كلما تطلعوا بعمق نحو قلب نخلة.وشبابهم يحبذون النزول باستمرار إلى ميادين المكاتب لخوض معارك الكسب.وحتى لو حاولوا صعود الأشجار العالية لما استطاعوا لأن في جيلهم ظاهرة غريبة لم تكن منتشرة من قبل، وهي طول أقدامهم المفرط، وسرعة تعرقها بغزارة.
أطعمة، ومساكن، وملابس أهل قريتي لم يتغير منها شىء... لكن عاداتهم وتقاليدهم، وأشكالهم تغيرت إلى درجة تثير الحيرة..
أنا أيضاً تغيرت بصورة جنونية، تقزّمت كل المناظر في عيني... الطرقات ضيقة،، الغابات صغيرة، المنازل منخفضة.. الوجوه شهباء.. النخيل.فقط ..أستطالت أكثر في نظري..
من بعيد لمحت سي السعيد، فبدا لي كأن جسمه قد أنكمش إلى النصف.. رأيته يجلس القرفصاء، مستنداً على عصاه أمام باب داره، فعادت بي هيئته إلى أكثر من ربع قرن حيث كنت أراه يجلس الجلسة نفسها، وفي المكان عينه.. حتى ملابسه كانت كأنما هي نفسها لم تتغير منذ ذلك العهد البعيد.
شىء واحد جديد لفت انتباهي، وهوان سي السعيد كان جالسا خلف ظل كبير لسيارة ضخمة من نوع رونو- ر- 16/ تكاد تسد باب داره ولا يسمح عرضها المستولي على الشارع الا لمرور المشاة من الآدميين والكلاب، والقطط... وكنت قد علمت بأن تلك السيارة هي ملك لولده دحمان، الذي تزوج من العاصمة، ويعمل في حاسي مسعود،.
ليس دحمان وحده الذي يملك سيارة من أبناء تلك القرية الصغيرة، بل هناك الكثيرون... أكثر من خمس عشرة سيارة تسد شارع القرية الضيق ومن بينها سيارتي الشخصية.. ولكنا نحن أصحاب السيارات نعاني مشاكل كثيرة، خاصة في الدخول إلى القرية أو الخروج منها .
كان الطريق داخل القرية يمتد دائريا أمام المنازل على شكل خلخال، ولم يكن يتسع الا لمرور سيارة واحدة، لذلك كنا نضطر جميعا أن نمتطي سياراتنا، لنقوم بدورة كاملة على القرية كلما تحركت سيارة لسبب ما، حتى نفسح لها مجال المرور.. ومغادرة خلخال القرية..!
وكان كل أطفال القرية يعرفون أصحاب السيارات لذلك لايقدمون على سرقة ما فيها، حتى لو ظلت أبوابها مفتوحة، لكنهم لايتورعون أحياناً عن تكسير نافذة، أو تنفيس عجلة أو الوشم بالمسامير فوق طلاء هياكلها..وهم انما يفعلون ذلك لمجرد اللعب، وملء أوقات الفراغ، انهم بعيدون كل البعد عن النوايا السيئة، ولم نكن نحن أصحاب السيارات المعطوبة نحمل لهم أي ضغينة..
كثيراً ما يحدث يومياً أن يحل وافد للقرية بسيارته أو يريد آخر مغادرتها، فيتراكض الأطفال متطوعين تلقائيا ويطرقون أبواب أصحاب السيارات المتوقفة، فندرك مباشرة أسباب طرقهم، ونسارع إلى تشغيل المحركات ثم ننطلق في موكب لولبي مزمجر نقود تلك العربات بدون أحذية، وبلا أوراق، وحتى بلا ملابس،- شورت فقط أيام الحر، ونتحرك على صورة قطار، وسط عشرات الأطفال، الذين كانوا يغتنمون هذه المناسبة السعيدة، فيمتطون مؤخرات السيارات، وكأنهم في نزهة، بينما ترتفع أصواتنا من وراء النوافذ المغلقة بالتحذير والشتم، وفي أغلب الأحيان كنا لانحس بتعلقهم، ولا نراهم لشدة كثافة الغبار الذي تثيره العجلات..وبعد انتهاء الدورة، يعود كل واحد منا إلى موقفه المعتاد ، ويظل الشارع للحظات يسبح مع الأطفال في موج ضبابه الأصفر الناعم.
أقتربت من سي السعيد، فبادرته بالسلام وقلت له :
أليس من حسن الحظ ياسي السعيد أن قريتنا لم يبق فيها أي حصان أو بغل أو حمار، والا لما أستطاعت تلك الحيوانات/ البهائم/ أن تجتاز الطريق، من خلال هذه السيارات التي تسدها.؟
-هذا صحيح يابني، ومع ذلك فقد خسرنا بهائمنا.. لقد كانت لنا نعم الرفيق المعين..
-وهذه السيارات.. أليست أكثر فعالية.. وقوة؟
-عندما تتهاطل الأمطار، ويتفاقم الوحل، فإن كل هذه السيارات تقف بعيدة عن القرية، ولا تجرأ على الدخول اليها خوفا من الغرق..
-هذا شىء طبيعي ياسي السعيد.. ومن يريد التهلكة لسيارته؟
-ولكن عندما كان لي حمار، كان يحملني فوق ظهره فأذهب أتسوق ، ثم يعود بي من المدينة إلى وسط الدار، فلا تطأ رجلي الأرض، ولا يلمسني وحل أو غبار..أما اليوم، ودروبنا كما كانت منذ عهد الأجداد- فكما ترى...
-اليوم تحملك سيارة فخمة..؟
-نعم تحملني عندما يكون ولدي هنا.. وأكون في حاجة إليها.. ومن المصادفات العجيبة أنني لا أحتاجها الا عندما يكون ولدي دحمان غائبا، في عمله..
ثم.. أنسيت الآخرين..؟ من يحملهم، وفي قريتنا أكثر من ألف ساكن..؟
كان من المعروف عن سي السعيد منذ القديم سرعة البديهة، وخفة الروح، كأكثرية أبناء الجنوب الجزائري، وكان يمتاز بمقدرة فائقة على الجدل، واختيار الردود المفحمة الساخرة،. فاذا ما حدث وهزمه شخص ما في النقاش، فأنه لايستسلم، ولا يؤمن بشيء اسمه الاقتناع، بل كان يستعمل المرواغة، ويلجأ بسرعة إلى تغيير مجرى الحديث، بحجة أن لافائدة في الاستمرار مع النقاش السابق، لذلك حاولت أن لا أقطع معه مجرى الكلام وقلت له:
-الأخرون ياسي السعيد.. انهم في ألف نعمة ونعمة.. أغلبهم يستعملون الدراجات ، ثم.. هناك حافلة النقل العمومي التي أصبحت تقف على مشارف القرية، في كل ساعة تنتظر الركاب لحملهم..؟
-ومع ذلك فأن الحافلة والدراجات.. لاتقي السكان من الوحل، ان الحافلة نفسها تصبح موحلة كالشارع أيام المطر.. انها لاتستطيع أبدا أن تقوم مقام/ البهيمة/ التي لاتحتاج إلى قطع غيار، والتي كانت تجوب الدروب الضيقة، وتتخطى سواقي البساتين وتحمل زنابيل التمر...
-أي بساتين تعني ياسي السعيد، وأغلب سكان القرية قد ترك الفلاحة.؟!
- صحيح ياولدي- لقد أهملنا فلاحتنا.. أهملناها منذ أن فرطنا في بهائمنا الأصيلة، واستبدلناها بهذه الناقلات الحديدية، التي لاقلب لها...
-صدقت.. ويبدو أننا - أيضا- فقدنا بسمة الفجر عندما أهملنا النوم، ساعة نوم العصافير..
-قال سي السعيد متذمرا، لسبب لم أدركه: لقد فقدنا الفجر، والعصافير، والفلاحة والحمير...
أبتسمت لهذا القول الذي يشبه الشعر وأحسست بأن سي السعيد غير مرتاح لمواصلة الكلام في مواضيع السيارات والشوارع، فأشفقت على شيبته، وغيرت مجرى الحديث بطريقة عفوية مباشرة:
-يبدو أن موعد بث التلفزيون قد أقترب.. فالساعة الآن.. الرابعة والنصف..؟
-يقترب أولا يقترب.. انني لا أميل إلى مشاهدته كثيرا..
-لاتميل إلى مشاهدته... لماذا..؟ الا يعجبك فيه شىء؟
-أنا لم أقل لايعجبني.. ولكن الحقيقة هي أنني لا أفهمه..
ان أغلب برامجه بالفرنسية، وخاصة الأفلام، وأنا لم أتعلم تلك اللغة
-ولكن ليست كل البرامج باللغة الفرنسية.. فمثلا نشرة الأخبار ، الساعة الثامنة بالعربية..؟
-نشرة الأخبار أستمع إليها الساعة السابعة صباحا، في جهاز الاذاعة، وهي لا تختلف عن غيرها من النشرات الأخرى ، لقد جربت ذلك..
-والمسلسل العربي في كل مساء، ألا تشاهده؟
-بصراحة ياسي... انني أخجل من نفسي ان أشاهد قصص الحب والغرام أمام أولادي وأحفادي، لقد كبرنا ونسأل الله التوبة والغفران..
-على كل حال ياسي السعيد، هناك برامج بالعربية مناسبة وأنا لا أتصور أن تنزوي وحيدا بحجة أنك لاتميل إلى مشاهدة التلفزة.. إنك من طباعك لاتحب العزلة كما أعرف عنك، أم هل تغيرت..؟
أطلق زفرة عميقة وهو يقول:
- ومن لم يتغير في هذا الوقت.. ؟ انني بالفعل أصبحت أفضل الانفراد والعزلة..حتى أولادي وأحفادي لم أعد أجد الوقت للحديث معهم.. ولا أطيق أن أجلس بينهم صامتا كالصخرة، أتابع ما يجري داخل ذلك الصندوق اللعين..هم أيضا أصبحوا لا يطيقونني بينهم.. لأنني لا أستطيع الصبر عن الكلام، ولاأرضى من أحد أن يأمرني بالصمت ، وكثيراً ما أتشاجر معهم لأنهم يريدونني دائماً ان أصمت كلما حاولت الكلام، وهم يتابعون شيئا ما في التلفزة،.وأريدهم أن يصمتوا خاصة في حصة الحديث الديني.. ولكن لايحلو لهم التشويش الا في تلك الحصة.. لقد أصبح التلفزيون هو الناطق الوحيد في دارنا أما نحن ، فإما صامتون وأما متشاجرون..: أتعلم أنني أكثر ما أجلس وحيدا هكذا، وأحدث نفسي كالمجانين بصوت مرتفع..؟
- بالفعل ياسي السعيد.. كلنا نعاني من هذه المشكلة، تصور أن أطفالي اصبحت حركتهم الوحيدة: هي من التلفزة إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى التلفزة.وأصبحوا يرفضون النوم مبكرين ، حتى عندما نجبرهم على ذلك.. فكثيراً ما أمر بهم بعد ساعة أو ساعتين من ذهابهم إلى الفراش ، فإذا بهم مازالوا مستيقظين، يتابعون بخيالهم ما يجري على الشاشة .. وعند الصباح نعاني أمر المصاعب في ايقاظهم، باستثناء يوم الجمعة...
قال سي السعيد- باسما- وهو يدفع قدمه إلى الأمام، كأنه يدوس حشرة بنعله المهترى- اتعني أنهم لايستيقظون مبكرين يوم الجمعة..؟
-أجبته ضاحكا، وقد فهمت مراده : بالعكس.. إنه اليوم الوحيد، الذي يقومون فيه مبكرين كالعصافير، وينغصون علينا راحتنا، ورغبتنا في التمتع بالنوم صباح يوم العطلة.
- نفس الشىء مع أحفادي،... وأظن أن أغلب الأطفال الصغار في هذا الزمن، هم كذلك- إنهم ضد راحة الكبار..
في هذه اللحظة بالذات ، شد انتباهي فراغ الشارع، واختفاء الأطفال، الذين كانوا يملأونه بصراخهم وجريهم وراء الكرات المحشية،.. وخيم سكون رهيب، كأن حالة لمنع التجول قد فرضت فجأة.. وتطلعت نحو ساعتي.. كانت تشير إلى الخامسة.. واذا بطفلة صغيرة لم تتجاوز السابعة من عمرها، تخرج من بيت سي السعيد، وتمسك بكتفه، وتجره- وهي تقول بابتهاج: هيا قم ياجدو..لقد بدأ ميكي...
تزحزح سي السعيد من مكانه، ثم أطرق خجلا مني، وقام يخفي بسمة طفلية ماكرة، وهو ينظر نحو الأرض ،.. ويقول: إنها الحصة الوحيدة التي اشاهدها مع الأولاد.. إن ميكي هذا شىء عجيب..إنني أحبه مثل أطفالي تماما.إن حياته لاتختلف كثيراً عن حياتنا..!؟
قاطعت سي السعيد بقولي: لابأس إنه على كل حال شىء مسلٍ..
وودعته .. واسرعت نحو الدار حتى لاتفوتني حصة العزيز ميكي...
إنه بالنسبة لي أيضاً الشيء الوحيد الذي أجد فيه راحة البال، ويجمعني مع أطفالي في هدوء وسلام، ان عنفه يثلج الصدر.. وياليت لي قوة ميكي البطل...