عندما هممت بسرد هذه الحكاية أمام أطفالي.. عادت إلى خاطري ذكريات بعيدة، وصور موغلة في القدم.. وكاد ان يداهمني البكاء، ولكنني تمالكت نفسي، وقاومته، وكتمت في صدري نفساً عميقاً : سرعان ما تحول إلى كتلة متحجرة، من الغازات المؤلمة..!
-قال لي أحدهم: أبي .. أبي .. الا تعلم ماذا حدث اليوم..؟
-قلت: ماذا..؟
-قال:" لوي دفيناس" مات.. مات ياخسارة..!
-فأجهشت بالبكاء..!
لم يكن خبر موت الممثل الفرنسي هو الذي أبكاني، وإنما كلمة" مات" كانت هي السبب..
تذكرت أيام حزن الطفولة.. حينها لم أكن قد بلغت سن الرشد.. كنت أحفظ اسماء أجدادي لأبي حتى الجد السابع، ولأمي.. حتى الرابع.. أحفظهم بعفوية كما احفظ سورة / الكوثر/ وكنت اتخيل ان لهم شبها كبيراً بهيئات وملامح الخلفاء الراشدين ولست ارى كيف كنت استوحي ذلك التشابه..!؟
في الثالثة عشرة من عمري ، كنت عائداً من اللعب مع رفاق الصبا.. حينما دخلت الدار،.. احتضنتني أختي الكبرى وهي تشهق، وخدودها مبللة بالدموع، لتقول لي بصعوبة: أمّنا .. أمّنا ماتت يامحمد..! وعصرتني بين ذراعين باردتين.. وهي تجهش بالنحيب..
كانت ارجاء الدار ، تبدو مظلمة.. بعد ان غربت شمسها إلى الأبد.. وكان كل ركن فيها يرسل عويلا مفجعا، أو أنينا شاحبا مكبوتا..
حاولت ان أرفع صوتي بالنواح كغيري من أفراد العائلة فلم استطع، أحسست بالقهر يبكمني، وبفراغ رهيب في جوفي.. كنت في اشد حالات الجوع، أمتصصتُ دموعي التي تنازفت بحرية.
ابتلعتها ساخنة مالحة.. انزويت في ركن مظلم، وتهت في حالة غامضة، تشبه نوم المحموم..!
بعد سنوات.. عندما أخذت استفيق قليلا من غيبوبة القهر... وأنا داخل هيمنة الغربة، بلغني أن والدي ، هو الآخر ، قد مات .. علمت بذلك صدفة.. فأخرستني الصدمة، ولم اتمكن أيضا من شفاء غليلي الدفين مع البكاء.. وكتمت صراخي بين جنبي..
وبعد ان اصبحت رجلا.. إنني الآن ابكي بسهولة ، ولأتفه الأشياء.. وأحيانا أجدني أبكي للاشىء..!
-ابكي..لأن اطفالي لايعرفون من هو المرحوم/ المفتش الطاهر/..!
-وابكي.. لانهم لايحفظون اسم والدتي جدتهم..!
-وابكي .. لأن الاغاني العربية التي تطربني لاتطربهم..!
-وابكي.. بدون سبب ، كما يخطر لغيري أن يغني بدون سبب...!
لقد تعوّد أطفالي على حالات البكاء التي تنتابني فجأة، وبلا مبرر او مقدمات.. وصاروا يتعاملون معي من خلالها دون أي اكتراث..!
نهرت أحدهم.. أمرته ان يعيد / كاسيت / أم كلثوم إلى وضعها في الراديو.. وعندما قام غاضبا، داس عن غير قصد ساق أخيه، فشتمه باهتياج، ورد عليه الآخر على شتيمته بسرعة، وسادت فترة لتبادل السباب، وكاد التشابك بالأيدي أن يبدأ لولا تدخلي..!
كدت أن ابكي لولا بقايا من احترامي لشخصيتي في مثل هذه المواقف..!
في عهد طفولتي.. لم اكن أجرؤ على التفوه بأية كلمة نابية أمام والدي،.. لم اكن اعرف التسلية بكاسيت، او اللعب بدمية دب.. كنت اصنع العابي بنفسي.. اصنع / السيف/ من اغصان الجريد ، و/ الفخاخ/ من اسلاك الحديد المهملة و/ رامية الحصى/ من مطاط العجلات،.. اصنع حتى آلاتي الموسيقية من القصب أو من الأواني القديمة.وسبائب الخيل.. وانسج المظلة والمروحة، والسلال، من سعف النخيل الابيض.. ومن خيوط الصوف التي غزلتها أمي، كنت انسج/ المعقال/ واشكل من الصلصال قناديل، وبيوتا، وتماثيل للحيوانات .. كل العابي كانت من ابداعي واحلامي، ومهارة أناملي.. أما العاب ابنائي اليوم، فكلها مستوردة من فضلات البترول وعرق جبيني، واستفزازات الخيال المتوحش..
عندما كنت طفلاً... هكذا بدأت سرد حكايتي.
وكان ولدي الصغير، يحاول تركيب لعبة بلاستيكية معقدة، وجدها داخل مجلة/ بيف/ كهدية.. وكانت عيون اخوته الاربعة منصبّة عليه، تتابع تعثراته بنشوة وابتهاج .. فسحبت اللعبة منه بصمت ، واحتضنته في حجري، وطوقته بذراعي..
- انتبهوا جيدا!.. فاستطالت الاعناق نحوي، وخيم سكون مريح..
قريتنا هذه/ قدّاشة/ منذ خمس وعشرين سنة، لم تكن كما ترونها الآن ،... كانت ككل قرى / بسكرة / القديمة ، جميلة هادئة ، مؤنسة،.. سعيدة دائما حتى في أوقات الشدة،.. عامرة بالشيوخ، والاطفال، والطيور ، والحيوانات الخدومة.. تتراقص فوق ازقتها المفروشة بالأمان ، ظلال ملونة مرحة بنسائمها الدافئة، وتنتشر من نوافذ بيوتها روائح العطور، والتوابل الشهية، وعلى مدخلها تتربع بوقار/ مزبلة/ رمادية نظيفة، وفي وسطها ينتصب الجامع الكبير، فاتحا صدره الابوي الرحب، حيث نتعلم فيه، ونصلي، ونلعب لعبة/ الغميضة/ واحيانا نقيّل تحت ظلاله الندية.. وبجانب الجامع ، تنسكب - دون توقف- مياه العين الصافية. وفي أحد جوانب القرية يمتد وحيداً، زقاق ضيق، محصور بين جدارين متوازيين لغابات النخيل، ويستطيل ذلك الزقاق، ويتعرج اكثر من مرة، ليفيضي إلى بطحاء شاسعة. ترابية البساط. ومحاطة من كل جوانبها بالبساتين، حتى ليخيل للناظر إليها أنه أمام مضمار كبير لسباق الخيل او أنه يرى بحيرة وادية، ترسو فوق اديمها الطيني.عشرات القوارب الراكدة.. في تلك البطحاء الواسعة . كانت تستريح بهدوء مقبرة قريتنا.. يلفها سكون غامر، حتى الطيور لم تكن لتتجرأ على المرور فوقها .. إلا نحن الاطفال، فلم يكن يطيب لنا اللعب بكرة القوس، إلا فوق تربتها الناعمة..
كنا نهاب ، ونحترم قبور أهلنا وقومنا.. كنا نعرف أسماء كل الراقدين فيها، ولا نقترب منهم إلا للسلام ، أو الصلاة، والدعاء،.. كان عددهم قليلا.. ولم تكن هناك ازمة قبور.. كان أكثر من ثلاثة ارباع المقبرة، أرضا شاغرة، مبسوطة ككف ملاك رحيم، فكنا نستعملها مرتعا لنشاطنا في النهار. أما في الليل فتتحول تلقائياً إلى مكان مرعب رهيب ، تجوس من خلاله الاشباح، وتتسامر تحت استار ظلمته اطياف الاموات .. ولا يستطيع الاقتراب منه إلا الأطفال الشجعان، الذين يحملون بين ضلوعهم قلوبا قاسية، كقلوب الرجال..
وفي ليالي الشتاء، القارسة المعتمة.. كانت تحلو لنا السهرات خارج منازلنا، فنجلس متكاتفين كالخرفان، مستندين على جدار إحدى سقائف القرية، متدثرين بجلابيبنا الفضفاضة، وبرانسنا الصوفية المجنحة.. بينما يكون آباؤنا . يترنمون بأصوت عالية، وحماس لذيذ بمدائح/ سيدي العروسي/ داخل الجامع الكبير...
في تلك السهرات الممتعة ، كنا نتطرق بأحاديثنا إلى كل المواضيع التي تخطر على البال.. وكنا أحيانا نردد بعض الأغاني المحلية، والاناشيد الوطنية.. وفي بعض المرات كنا نتناول أنفسنا بالنقد والتجريح والتشنيع، ونتفاخر، ونتذامم ، وقد يصل بنا الأمر إلى درجة التنافس، والتحدي، والمراهنات الخطيرة والصعبة..
وكانت المقدرة على ممارسة بعض الحركات والألعاب الشاقة هي البرهان القاطع على من هو الاقوى، والاكثر شجاعة وتفوقا..
من يقفز كالحصان فوق سور عال.. من يتسلق نخلة طويلة الارتفاع بخفة القط.. من يرمي بنفسه من فوق السطح، ولا يقول : أخ.من يغوص في اعماق حوض الساقية، ويبقى مدة اطول تحت الماء، دون تنفس..؟ منافسات وتحديات صعبة وشاقة كنا نختبر بها بعضنا ، إلا أن اخطرها وأقساها على النفس كان التحدي، في من يقوم بدق ثلاثة اوتاد، ليلا في ارض المقبرة.. وبين القبور.. إنه الرهان المصيري الذي نصنف به نهائيا من هم الشجعان الأبطال، ومن هم الجبناء الاوغاد..!؟
في ليلة موحشة عاصفة، كنا خمسة أطفال، ننزوي داخل فجوة في جدار السقيفة،.. كان الجو بارداً جداً، وبين لحظة واخرى ، ينتفض أحدنا برعشة حقيقية، يبدو وكأنه يصطنعها، ،.. ومن شدة البرد، تحولت أحاديثنا بسرعة فائقة إلى معركة جدالية، حامية النبرات ، وكأننا بذلك نسعى إلى تسخين اطرافنا المثلجة..:
-قال/ برنيطة / واسمه الحقيقي: عمار، إلا أننا نطلق على كل واحد منا اسما مستعاراً نناديه به، وبصفة دائمة، وقد اسمينا عماراً/ برنيطة / لأن والده الذي عاش سنين طويلة في فرنسا، كان قد انجبه من امرأة فرنسية، وعندما عاد به إلى القرية، كان يحمل فوق رأسه طاقية اجنبية ، صغيرة ، مضحكة، فاسميناه بها..
قال برنيطة: اتحدى أي رجل منكم أن يذهب الآن ليدق المواثق / الأوتاد/ في المقبرة.. وإنني متأكد من انكم اصبحتم جبناء...!؟
-أجبته- وكانوا يطلقون علي إسم / بو جعران/ وهو حشرة قذرة، من فصيلة الخنافس،.. تطير فتحدث أجنحتها أزيزاً، لذيذ الصوت، وقد لقبوني بذلك ، لكثرة حركتي ، إذ لم أكن أعرف المشي العادي ، كنت دائما اركض، وحتى عندما ارافق والدي الفلاح إلى الحقل، كنت لا أسير بجانبه، وانما أقف ليسبقني في مشيه، ثم اجري لألتحق به كألجدي،...
-اجبت برنيطة بلكزة عنيفة من كوعي، وصرخت في وجهه: قل حاشا.. ياكذاب..!. هل أنا جبان.؟ إنني مستعد أن اذهب حالا لأغرز المواثق في المقبرة.. هل تراهن..؟
-وصرخ شعبان من جهته محتداً: أنا أيضا مستعد: وكنا نلقبه : / شيكولا/ لأن والده كان صاحب دكان لبيع المواد الغذائية والحلويات،.. وكان شعبان في أغلب اوقاته ملطخ الذقن بآثار الشيكولا البنيّة، مما يجعل وجهه أحيانا محطة محبوبة لأسراب هائلة من الذباب خاصة في فصلي الصيف والخريف..
-قال برنيطة: أنا لا اقصدكم.. ولكن هيا إذن.. فليرنا احدكما شطارته..
-قلت بخبث: لا.. فلنقم جميعا بالعملية. كل واحد بدوره حتى نكشف من هو المريّة/ تصغير إمرأة/ ومن الرجل..!؟
-تكلم/ حنش الطين/ و/ الجرادة/ وهما اللقبان اللذان نطلقهما على الطفلين الصغيرين الجالسين معنا- تكلما بصوت واحد تقريباً: نحن لانستطيع المشاركة معكم.. والدينا لايسمحان لنا بذلك.. فشتمتهما..
-قلت : إذن يبقى الأمر بيننا نحن الثلاثة.. فمن يبدأ..؟
-قال شيكولا : أنا ابدأ.. قال ذلك بتصميم وتهور.. وقام مسرعاً، فاحضر من اسطبل داره ثلاثة اوتاد،.. ولحظنا أنه كان يمتص حبة حلوى.. وقف أمامنا لحظة ، ثم سار في اتجاه المقبرة.. وهو يدرك أننا سنراقبه من مكان بعيد، غير معلوم، لنتأكد من انجازه للعملية دون مساعدة أحد..
عندما ابتعد.. تسللنا خلفه.. اشرفنا على منظر المقبرة.. وكانت القبور، تبدو متصافة إلى جانب بعضها البعض في استسلام.. كأنها جمال باركة.. وكان شيكولا قد توسطها كالراعي الصغير... السكون يخيم بصورة غير طبعية.. وبين الحين والحين، ينطلق من جهة ما، نائية، نباح كلب.. أو تنتفض هبة ريح ، حاملة معها قشيشات بهلوانية من الليف.. متبوعة برذاذ ابيض من الغبار، يشبه التبن.. وكانت نجوم السماء مختفية مثلنا...!
بعد قليل أصبحنا نسمع طرقات الصخرة المتتابعة وهي تهوي بقبضة شيكولا، فوق الوتد، فتمزق السكون بضجيج متناسق، وغير عادي.. ازداد نباح الكلاب. مرت زوبعة لاهثة فحجبت عنا رؤية شيكولا، ثم انجلت ، فلمحناه في حركاته المائلة.. مازال يدق.. تأكدنا من نجاحه.. وشجاعته،.. شتمناه باعتزاز..
وأخذ كل واحد منا يفكر في مهمته القادمة بتوجس، وبدون تردد...
جذبنا اطراف برانسنا لنعود حتى لايشعر بوجودنا" تراجعنا قليلاً.. توقف الدق.. ثم .. تسمرنا في مكاننا .. لقد هز ارجاء المقبرة صراخ مفزوع يائس.. عدونا بأقصى سرعتنا نحو شيكولا.. كان في حالة رعب جنوني، يتخبط بين القبور كالطائر المذبوح،.. ارتمينا فوقه.. نزعنا الوتد الذي دقه فوق جناح برنسه، فقيد به نفسه مع ارض المقبرة.. كان يرتعد.. تكاثر نباح الكلاب من جميع الغابات المحيطة.. مسكناه بيننا.. وعدنا راجعين نسابق الرياح..
لجأنا إلى فجوتنا داخل جدار السقيفة، وكنا في حالة يرثى لها من الخوف والرعب.. ضحكنا من بعضنا بطريقة هذيانية، .. سيقاننا ترتعش ، ونحن ننفخ بأنفاسنا اللاهبة بين أصابعنا المتصلبة.. ونوهم بعضنا بأن ارتعاشاتنا هي من شدة البرد..
-قال شيكولا: كنت أحسب ان ميتاً خرج من قبره، وامسك بي.وكانت في صوته رنة بكاء، لم تنضج بعد ..
-قال برنيطة: ذلك لأنك لم تكن ذكيا، لم تنتبه لنفسك.. لقد كنت منهمكاً في امتصاص الحلوى،.. انك طفل مدلل../ ابن ماما ../
-أجاب شيكولا بغضب.. لقد قمت بالعملية كما يجب وسمّرت ثلاثة اوتاد في الارض. ولم أخطئ، سوى في الوتد الاخير الذي دققته فوق جناح برنسي، والسبب في ذلك هو تزايد نباح الكلاب فخشيت أن تهجم علي .. إنني لم أكن خائفا من الموتى... ولا تنس انت يابرنيطة، ماذا حدث لك في الصيف الماضي.. لقد غرزت وتدين كاملين ، فوق قندورتك/ جبّتك/ ثم خرجت منها عاريا، كما ينسلخ الثعبان من جلده.. وتركتها مسمّرة فوق ارض المقبرة...
انسيت كيف جئتنا بلا ثوب ترتجف من شدة الهلع، وانت تصرخ بالفرنسية: النجدة .. ماما.. فهل انجدتك أمك الرومية.؟
كان ولدي الصغير، قد اسند رأسه فوق صدري ونام.. أما إخوته، فما زالت أعينهم نصف مفتوحة. تقاوم ضغط النعاس.. احسست بالشفقة عليهم.. قلت لهم: تذكروا أن موعدكم مع المدرسة سيكون غدا قبل شروق الشمس. هيا ليتجه كل واحد منكم نحو فراشه..
وحملت الصغير إلى سريره،... وبدل التثاؤب الذي تناوب ابنائي، احسست برغبة كالنشوة في البكاء...
-لحق بي ولدي الكبير، وسألني: وانت .. الم تجرب لعبة الاوتاد؟
-بلى.. لقد قمت بها مراراً.. وكنت دائما انفذها دون أخطاء..
لقد علمني والدي- رحمه الله.. ان لاأغرس شيئا في الارض حتى انظف مكانه جيداً .. واتأكد من وضعيتي منه..
كان يقول لي : إن التعامل مع الأرض، مثل التعامل مع الافكار أو الآلات لابد من اختيار الظروف ، ومراقبة المكان وتنظيفه ، واتخاذ الحيطة اللازمة .. وبعد ذلك لايهم نباح الكلاب أو خيالات الاشباح.. النظافة الكاملة هي الاساس، .. تصبحون على خير.