الفصاد بالقلم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

عندما رنّ جرس الهاتف في منزلي، سمعته.. ولكن رنينه لم يثر في نفسي أي اهتمام ، أو أية انعكاسات/ بافلوفية/ لذلك لم اتحرك من مكاني لإسكاته.. إلاّ أن اولادي كعادتهم، يتنافسون في السباق بحماس، إلى رفع السماعة ، كلما زغرد حاملها. مما يجعلني اقارن بحسرة ، بين حيويتهم، وخفة نشاطهم، وهم يلبون نداء التلفون.. وبين تثاقلهم، واتكالهم على بعضهم كلما طلبت منهم عملاً، مهما كان بسيطاً..!‏

 

- صاح ولدي الاصغر- بخيبة أمل -: بابا.. بابا .. الوزارة تطلبك..‏

 

قلت في نفسي.. لاشك أنهم يريدون مني جهداً تطوعياً.. ربما حضور اجتماع أو مشاركة في لجنة، أو تكليفاً باعداد محاضرة أو إقامة أمسية شعرية .. أو على ابعد تقدير هناك دعوة لمأدبة رسمية ، أو حفل استقبال.. فقد حدث أكثر من مرة ان استدعيت كغيري من المتقاعدين المعروفين ، لكي نشكل حول طاولة المسؤول، إطاراً/ ديكورياً/ لامعاً، من النجومية الاصطناعية والوقار التافه‏

 

-الو.. صباح الخير .. من حضرتكم..؟‏

 

- أنا صديقك فلان.. المدير.. وباختصار .. ابشّرك..! ومبروك .. لقد تم تعيينك في وفد الوزارة الرسمي الذي سيؤدي واجب الزيارة إلى...‏

 

فابعث الينا بسرعة فائقة.. اليوم إذا امكن - مجموعة من الصور الشمسية، وشهادة الميلاد، وشهادة الإقامة، بسرعة..‏

 

- الو.. ولكن ياأخي لقد فاجأتني ،.. ربما لا استطيع المشاركة معكم هذه السنة.. لدي إرتباطات كثيرة،.. واشكركم.‏

 

تعجب صديقي المدير، من ترددي امام هذه السانحة، والحّ علي بضرورة الموافقة حالا.. لكنني بالفعل كنت مترددا جداً، فطلبت منه أن يمهلني بعض الوقت لأفكر. وبالفعل.. هناك شيئان ، لا استطيع ابداً ، إنجازهما بسهولة، وبدون مماطلة ،.. ان اكتب رسالة بريدية، أو أن ازمع سفراً ، واحزم في أمري عليه ..!‏

 

وفي الجلسة العائلية الطارئة، كانت كل الآراء ضد موقفي المتردّد.. ومما قالته لي زوجتي:" ياأخي على الاقل اغتنم هذه الفرصة الذهبية ، ففيها أجر وثواب، ومنافع... وحتى تتحرر مؤقتا من إقامتك المنزلية " الاجبارية" وتبتعد قليلاً عن هذه الأجواء، المشحونة، بالتوتر والخطر..." غلبت على أمري، فحملت السماعة ، واخبرت المدير بموافقتي.. وفي المساء اعددت الصور والوثائق المطلوبة، وسلمتها إليه ، يداً بيد .. وكنت وأنا أغادر اروقة الوزارة الميمونة، اتلقى بين الحين والآخر من طرف بعض المعارف - كلمات : مبروك يا استاذ .. مبروك يااستاذ..؟‏

 

عندما عدت إلى منزلي ، كانت زوجتي الفخورة قد نشرت خبر سفري بين أغلب الاحباب ، وحتى في ابعد مناطق الجنوب الوطني ، الشرقية، والغربية ، حيث الاهل والأصهار .. ربما لتسعدهم بالخبر أو لتغيظهم.. الله اعلم، فأسرار الهواتف من الصعب كشفها..‏

 

أمّا ابنائي، فقد باشروا في ممارسة إعداد الوصايا العشر، المضروبة في الخمس مع أجمل عبارات المبرور.. والمشكور والذنب المغفور..!؟‏

 

كان علي أن اذهب إلى وادي سوف، لإلقاء محاضرة عن العلامة الشيخ الياجوري رحمه الله، فسارعت إلى تصويرها وتسليمها إلى أحد الاصدقاء لإلقائها نيابة عني، مع الاعتذار، بسبب هذا السفر المفاجئ.. فرضي الصديق بالمهمة وقال لي : تذكرنا بدعوات الخير.. وألف مبروك يااستاذ..‏

 

تلفنت إلى بسكرة اعتذر عن عدم تمكني من زيارة الأهل، لأنني سأسافر إلى...‏

 

وقالوا لي: مبروك‏

 

ولكوني اتحمل مسؤولية في إحدى الجمعيات الثقافية، فقد طلبت الإذن من بعض اعضاء المكتب وكلفت أحدهم بالقيام بمهامي طيلة غيابي، فقبل بطيبة خاطر.. وقالوا لي : مبروك..!‏

 

لم يبق على موعد السفر سوى يومين أو ثلاثة.. وإذا بأحد الاقارب ينبهني إلى حتمية الفصاد . ولزوم أن يرافقني في الرحلة دفتر التلقيح..؟‏

 

اتصلت بالوزارة، فدلوني على مكان إجراء التلقيح، وبصراحة ، فإن من بين الامور التي تزعجني جداً ، هي أن تجري عليّ عملية الفصد..!‏

 

قيل لي إن مكان التلقيح، يشهد حاليا، ازدحاماً شديداً، فصادف ذلك هوى في نفسي، وتقاعست عن الذهاب إلى المفصدة. كم اكره الإزدحام.. والفصاد..!‏

 

بقى على موعد السفر يوم واحد.. وكانت الساعة الثامنة مساء ، عندما جلست امام جهاز التلفزة لأتابع نشرة الاخبار فقد قيل ان هناك تغييراً وتجديداً في الحكومة.. ويعلم الله أنني أحسست بسرور وارتياح كبيرين، وأنا اتابع اسماء الوزارة في الحكومة الجديدة..‏

 

إنني أجهل معرفة اغلبيتهم، ومع ذلك فرحت وغمرتني نشوة سعادة..؟ ربما لأنني كأي مواطن- احب التغيير، والتجديد، وينطبق علينا قول الشاعر:‏

 

مللت كل قديم‏

 

عرفته في حياتي‏

 

إن كان عندك شىء‏

 

من الجديد، فهات ..!؟‏

 

وقلت في نفسي..! مبروك علينا... وعليهم..!‏

 

اتصلت صباحاً بالوزارة- وكانت زوجتي قد اعدت لي الحقيبة كاملة- توقعت حدوث طارئ، فسألت عن اسمي في قائمة الوفد.. وبعد انتظار قصير، قال مخاطبي: اسمك موجود أمامي.. مبروك يااستاذ.. واردف يخبرني بان سفر الوفد الرسمي سيتأخر قليلاً عن موعده ، بسبب التغيير الجديد..‏

 

ابتهجت لذلك التأخير، ولا أدري لماذا..‏

 

ربما لأنني بذلك سأوجل عملية الفصاد البشعة..‏

 

بعد يومين قمت بزيارة إلى الوزارة لأطمئن على آخر لمسات الاستعداد للسفر، وكان معارفي كلهم تقريباً قد أخذوا علما بسفري، من مصادر عائلية متعددة وقد أدّى ذلك إلى إحداث سلسلة متتابعة من رنّات الهاتف في منزلي.. للتهاني، والتمنيات.. ولبعض الطلبات البسيطة... في نظرهم..!‏

 

أحدهم طلب مني أن آتيه بآلة تسجيل ممتازة من ذلك البلد العامر بالخيرات.. وكانت ابسط الطلبات .. سجادة صلاة.. أو مسبحة..‏

 

دخلت مكتب مدير شؤون الرحلة " المباركة" فحييته.. ثم قلت له : مبروك على الجميع العودة الجديدة، " إن شاء الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرّوا ما بأنفسهم .." وأحسست بأن ذكري لهذه الآية الكريمة كان في غير محله.. ولا يتناسب مع سياق الكلام، فبادرت بالسؤال: من فضلكم هل تحدد موعد السفر..؟‏

 

- أجابني ببسمة خجولة، وهو في غاية الاضطراب والاحراج .. يااستاذنا الجليل.. لقد وقع تغيير جديد في الموضوع...‏

 

- قاطعته متحمسا.. ليس هناك أحب إلى نفسي من سماع اخبار التغيير، والجديد.. تفضل يااستاذ، وعفواً... - قال لي: أنا متأسف جداً لما حدث .. لقد ازيل اسمك من قائمة الرحلة..!‏

 

وبيدٍ شبه مرتعشة أراني أحدى صفحات القائمة، فلمحت اسمي بينها، وكأنه كتف رجل افريقي خدشه قط .. أو فصدته شوكة طبيب عنصري.. رأيته مطعونا من عدة جوانب بجرات قلم ، اسود الحبر..‏

انسحبت بهدوء، وبخاطري تتماوج ذكرى فرحتي ، بالتغيير، والتجديد..! وكنت اردد بين شفتي : من الصعب أن يتجدد الشىء القديم أو أن يتغيّر..! والحمد لله، فقد سلم جسمي من فصاد الإبرة، أما ذاكرتي .. فقد تعودت على الخدوش.. إن فيها أكثر من لوحة فسيفسائية للفصاد بالقلم.. وعلى كل حال : مبروك..! مبروك يااستاذ..!؟‏