قال: لو تزوجنا، أكان كل منا هكذا؟ أنا وحيد وأنت وحيدة؟ وحيد، وكل اولئك الناس حوله؟ أعرف أن نساء متنوعات لحقنه. وهل يرد امرأة تقصده؟! الشهامة! وأنا هل كنت وحيدة، والأيام أقصر مما أريد؟ آه، تعلم التنجيم إذن فعرف أن الانسان قد يكون وحيدا وسط المجموعة! نظرت إليه كما كانت تنظر إليه تماما. بملء عينيها! لم تر شعره الأبيض. بل رأته كما كان يوم عرفته. ابتسمت. مازال يتحدث في حماسة، مازال يظهر الوله ويطلق الهوى! كان هكذا يومذاك. لذلك لم يستطع أن يمشي على سكة القطار في عين الخضراء، ومشت هي عليها تحت ظلال الجوز! كانت النزهة مرتبة كي يكونا معا طوال النهار. وكان الربيع في أوله. وربيع دمشق يومذاك واضح الحدود. من جهة شمس دافئة وزهر وبراعم، ومن جهة برودة منعشة منذ تميل الشمس. والنسيم يحمل من الصباح إلى المساء عبق الزهر ولايملّ. على يسارهما صخور تعشش في كهوفها روح الإنسان القديم. صخور تشد الروح إلى السماء الزرقاء الصافية العميقة. وصخور ينساب عليها النبع. وصخور ملثمة بالأشجار على ضفتي النهر. وكانت الأغصان تمس صفحة الماء المندفع بمثل لهفته. أكانت تحرضه على البوح؟ توقفت على سكة القطار، متوازنة، ونظرت إليه برهة. كان رشيقا، يزيد الحب من جماله. كان فاتنا بصدقه، بشعره الأسود، بنحافته. وكانت كلماته تنساب، تتدافع، تتألم، ترجو وتحلم. فتوهم أن في يدها فقط مفتاح البوابة إلى سعادته. قالت: رضوان؟ توقف دهشا؟ ماذا قلت؟ من رضوان؟ رجل تحبينه؟ ضحكت: لاأعرفه! رفع رأسه إلى رقعة السماء المطلة بين الصخور والأشجار: ياربي! أكان يشكوها الى رقعة السماء العميقة الزرقة؟ أم إلى إله قديم مختبئ في الكهوف؟ سارت على سكة القطار، وتكاثفت فوقها الأشجار. تبعها على الحصى المفروش على السكة، ثم واكبها. التفتت إليه مرة أخرى وتساءلت: هل سيبقى منه شيء حتى المساء إذا ظل يحترق باللهفة والشوق؟ ارتعش الليل في ذلك اليوم من الرطوبة لكنها لم تشعر ببرد الليل. مشيا. من طرف بينهما وبين النهر مجمعات من أشجار الحور، ومن الطرف الآخر تظهر بوابات بيوت طينية مغمورة بالشجر ويثغو أحيانا خروف وتطل أحيانا فتاة. كانت تسبقه وهي تمشي على السكة. ثم التفتت إليه فواجهته وهو على بعد خطوات. وقفا ينظر كل منهما إلى الآخر. رأت في عينيه بريق دموع. وبدا في ذلك الخندق الأخضر إنسانا نزل من الجبل ووقف أمامها وسيما طلق اللغة، نظيف الملابس، ناصع الأسنان. فكادت تقول له: مشيت مثل ذاك الذي سكن في كهوف هذا الجبل، لكن يومذاك لم تكن هناك حدود. وربما لم تكن كلمة "التسلل" موجودة في اللغة! هل سألها هناك أيضا، وهي تمشي على السكة وهو يواكبها على الحصى: تتزوجيني؟ وهل قالت له يومذاك: ليتنا نتبع طريق السكة إلى بيروت، كأنها تدعوه الى مدينة خارج الخرائط؟ يصعب عليها أن تربط الأمكنة إلا بالسعادة الواسعة التي كانت تنشرها صحبته. "كنت تلبسين يومذاك تنورة واسعة زرقاء، وقميصا أبيض! وكان شعرك يرف مع حركتك!" قالت: "كان ذلك هو طراز الفتيات في تلك الأيام!" كانت الحياة سهلة يومذاك، لباس الناس بسيط، وفي البلد مقاه تكتنفها الأشجار والأزهار. كانت البيوت تناسب طول الإنسان. كانت الأنهار تعيش والأشجار تعانق المدينة. كانت الأحلام هي الكبيرة لاالبنايات. وكانت أحلامها هي تمتد، لاتحبسها حدود. كانت ايمانا بأن الغد كبستان من زهر المشمش. من يستعجل الزواج يومذاك! تحمي نفسها مم، ممن؟ ولم يكن في مشروعها، وقت يحين الزواج، أن تهاجر من البلاد. قالت: "هل تترك هذه الصخور مكانها؟" لم تكن ذاقت الوحدة، وضعف الإنسان وقت يلين فيقبل ماظن أنه لن يقبله، ويدفع بعد ذلك الثمن. ماذا جمعهما فيما بعد، وكل منهما بعيد عن الآخر؟ أن الرجل الذي تركاه جالسا على كرسي من القش قرب النهر ليمشيا على السكة، مات مقتولا في سجن؟ أنهما التقيا في التفكير به، وكل منهما في طرف من الأرض؟ كان يخرج من غرفته كلما سمع خطواتها وهي تعبر الممر إلى أرض الدار التي تظللها شجرة مشمش هندي. لا، ليس "كلما"! كان يتلكأ عندما يغضب منها! وكان أحيانا يفتح نافذته ليعكس الزجاج صورتها فيراها من غرفته! عرفت ذلك يوم رأت بنت الجيران تراقبه بزجاج النافذة! كانت تصادف أحيانا بعض الفتيات في أرض الدار، وتفهم أنهن بنات الجيران أتين ليستعرن، في الظاهر، شيئا من صاحبة البيت. وفي الحقيقة كي يجلسن قليلا ويتحدثن معه. لكن ذلك لايعنيها! لماذا يعنيها؟ مابينهما أعمق من أن يخترقه حب آخر. هل كانا يختلفان هنا؟ هل كان يريد أن يكون مابينهما حبا عاديا فيه غيرة وانتظار وغضب، وينتهي بزواج؟ للزمن قرار آخر! وصلتها منه رسالة، مرة. وجد شبيهتها! نسخة أخرى في الشكل واللون والحركة! أحبته تلك الغريبة، وقبل حبها زمنا. كتب في رسالته: "تركتها هائمة تمشي على الأرض!" فغضبت: لايحتاج الرجال نذلا آخر! تركها هائمة؟ غضبت عليه! لم تشعر بالغيرة، بل بالحزن على الفتاة! يوم التقيا صدفة في مطار من المطارات، كان يودع رجلا، وكانت هي تعبر المطار إلى بلد آخر. نهض ملهوفا عندما رآها. وبرقت الدموع في عينيه. أهناك قال لها إنه ترك شبيهتها وهناك قالت له إنها لامته لأنه جرح فتاة تحبه؟ كانا يكتبان قصة بالعمر، بالأمكنة، كأنهما يصفّانها قطعة، قطعة. لم يتبيناها كاملة إلا هنا في مملكة الصمت. جلسا على حجر، وتناول يدها. قلّبها بين كفيه وقبلها. ركع أمامها. لم تكن أية قطعة منها أقل قداسة من الأخرى. فلماذا تشد قبضتيها وتبعد قدميها! كان هناك إنسانا تجاوز مايستوقف الرجال أو يقيدهم. كان لايخجل بأن يبوح بحبه كله، ويكشف ليالي شوقه وحزنه. كانت هي أغنيته التي ينشدها أمام الغرباء. فهل أراد أن يحيي قيس ليلى؟ منذ تلك الأزمنة خجل الناس بالحب وأخفوه، وأهانوه كي يظهروا أنهم أكبر منه! فهل تحمل حبك على كتفك من بلد إلى بلد، كي يعيش قيس العرب في العصر؟ في مملكة الصمت عرفت أنصاف الحقائق الأخرى، أنصاف الصور الأخرى، ووضعت الجزء إلى جانب الجزء. لم تفرقهما إذن جروح الحرية، والحدود، والرياح التي عصفت بالبلاد! فرقتهما أيضا الخلافات بين أهل البيت! فهل كان ينشد حلما مبهجا، ويرسم صورة ملونة على أفق قاتم؟ ويبعث أمامها قيس وليلى في الزمن المعاصر؟ ويعلن أن أراغون وإلسا موجودان هنا أيضا؟ كان يعرض البطاقات البريدية إذا وصلته منها وقت يعرف أحدهما عنوان الآخر. ويعرض الرسائل التي تكتبها إليه وتبرأ بها من ثلج الغربة وسمائها المنخفضة. في ذلك المقطع من الحياة كانت تعرف عنوانه. لكنها وقت نزلت من القطار في المدينة التي يوجد فيها تفادته. كانت وحيدة، ومريضة. نزلت في الفندق الذي كان يسهر فيه. اختارت طاولة في قاعة صغيرة لاترى من قاعة الطعام الكبيرة. لبست ثوبا في مثل لون قلب الموجة، وشعرت بأنه يجلس هناك صامتا معها. تناولت القليل من الطعام، شربت القليل من عصير البرتقال، ثم صعدت إلى غرفتها. وفي الصباح مشت أنيقة إلى السفارة المقصودة فجددت جواز سفرها. صمدت للأسئلة، فبدت مغتربة غنية، ليست من المشبوهين في زمن القلاقل، الذين لاتمدد لهم الجوازات. وعادت إلى الفندق. عبرت الردهة التي يعبرها، وجلست في القاعة الصغيرة وقلبها يرتعش. هل كانت تخاف من السعادة إذا رأته؟ هل كانت تتفادى ليالي الأرق التي ستتبعها؟ يوم صادفته في مدينة أخرى انزلق لسانها فعرف أنه كان قربها في الفندق نفسه. آه، ماذا فعلت! من ذلك الفندق، وهي جالسة في القاعة الصغيرة اتصل بها في تلك الليلة، إلى البلد الآخر ليطلب أن تزوره! ثم عاد فجلس خائبا في قاعة المطعم الكبيرة! "كنت في الفندق نفسه وأنا أصغي إلى دقات هاتفك؟!" تركها برهة وابتعد إلى المغاسل ليخفي انفعاله. ثم عاد إليها وأثر الألم في وجهه، والبريق في عينيه. عاتبها. تريدين أن تحمليني كما تحمل صورة في الجيب وكما يحمل تمثال صغير في الحقيبة! ترحلين بي في اتجاهاتك، لكنك لاتتوقفين لتكوني مع الأصل الحي! ماذا تقول له؟ كانت الحياة تندفع في اتجاه آخر. "يعلم الله متى تعودين إلى بلدك!" ترد على نفسها: "ذات يوم سأعود إلى بلدي! لكنه لن يعود!" سألها لماذا؟ لماذا؟ فلم ترد عليه! كانت على كل حال مريضة، لم تزر حتى النهر الذي تحبه، لم تصعد الطريق ذا الفوانيس، لم تقصد المقهى الصغير ذي المقاعد الخشب! لم تسع إلى شيئ تحبه يومذاك! تذكرت أنه قال لها مرة وهو يتبع خطوطها مبهورا: ألم تتأملي نفسك في المرآة؟ لكنها، لم تترك صورتها في المرآة! وكان هو وقتذاك جالسا في مطعم الفندق، كالمنفيين، يدخن ويتحدث ويخرج من جيبه صورتها ويعرضها لأصدقائه القدماء. آه، لايعرف أن حبه دون أرض يعشش فيها! لم ترسم مجموعة من الرجال الغرباء الحدود قبل مولدهما كي تقسم البلاد، بل كي تمنعها من العبور إلى مدينته وتمنعه من العبور إلى مدينتها! أخرج الصورة من جيبه يوم التقيا. ورأت نفسها شابة مضيئة العينين، ترفع رأسها، كما طلب المصور، لينهمر الضوء على وجهها، وليتألق شعرها. كانت أفراح الحياة هناك، في حركة الرأس وفي العينين. كانت في تلك الصورة كشحرور لاعمر له، لانهاية له. سألت نفسها وهي تنظر إلى الصورة: أنا؟ قال: أخذتها منك، وأوصلتك بالتكسي إلى البيت الذي ستلتقين فيه بأصدقائك لتسافروا منه في الفجر! كنت تلبسين ثوبا أخضر.. وكانت رائحة الصابون تفوح منك، وبشرتك مازالت دافئة من الماء. آه كيف تتذكر التفاصيل؟ عذابه أنه يحفظ التفاصيل! تحيط به الصور، يسمع الكلمات والأصوات، يحس بالمشاعر التي مضت! قال: أي شقاء! تساءلت: شقاء أن تبقى الأيام شابة، والأصوات نضرة؟! كان يقصد أمرا آخر! لكنه لم يحك لها عنه يومذاك. لم يقل لها إن الانتقام في العصور كلها يختار بقعة القلب النضرة! "اختلفت معه، وفي الاجتماع التالي كنت مقابله، وفي الثالث كنا نتحدث بلغتين. بعد ذلك أعلن لي: لن تتزوجها أبدا، طالما كنت حيا! لن تصل أبدا إلى مدينة تكون هي فيها!" كانت جميع مفاتيح تلك المدن في يديه! روى لها ذلك في مملكة الصمت! كانت إذن تنفذ أمرا لاتعرفه يوم مرت بإحدى مدنه وتفادت أن تراه! لم يمت إذن أهل قيس وليلى أبدا! وصلوا أحياء إلى أبعد الأجيال عنهم، إلى أبعد الرجال عنهم! الحرمان من الحب عقاب في المنافسات السياسية على مدى الدهر! ألذلك أنشد في تلك الأيام: "ياويل درب لايضيعني"، فغضبت عليه؟ ألذلك كان يبدو كأنه يريد أن ينتحر؟ نظرت إليه. كان يرفع رأسه كي يبتلع الدموع. وفهمت أنه شهد مقتل المثل قبل الاحتفال بمقتلها. عبر، هو ومنافسه، السجن. فأين بدأت العداوة بينهما؟ كان قبلها يؤمن بالأساطير التي تنسج عنه، وكان ينشرها. لكنه خلال الاجتماعات به تبين بعد الأسطورة عن الحقيقة! خطؤه، أو مجده، أنه أعلن ذلك مبكرا، فافتتح معركة يصعب أن يجد لنفسه فيها مؤيدين. وكان الحب جرحه المفتوح. ضعفه المعلن. بعد ألف سنة أوقف على منصة قيس نفسها ونفذ فيه الحكم! في مملكة الصمت عرفت الصفحات الضائعة! كانت تتلقى نظرات مريبة. فتتساءل لماذا؟ قال لها أصدقاء، كأنما من الغيرة عليها: يجب أن تتزوجي! صمتت من التهذيب. فهل يتفق مشروع تحرر الإنسان، مع إلغاء الحب من الزواج؟ حضرت في تلك الأيام عرضا واسعا: مر أمامها رجال طوال وقصار، سمر وشقر، سمان ونحاف. ذهلت: "كم كان أبي إذن راقيا! لم يلزمني بمثل ذلك العرض!" كادت تعترف له وقت التقيا لقاء سريعا: وقت سمعت صوتك في التلفون تقول لي مرة أخرى: تتزوجيني؟ كبحت لساني في البرهة الأخيرة! لكنها صمتت. يجب أن يبقى مابينهما أعلى من الطوارئ. وماذا تقول له، ألا يعرف أن الخلاف مع مجموعة في الغربة مفزع، يحوك حول الخارج عليها الوحدة والشبهة؟ تصبح المدينة الكبيرة المليئة بالمتاحف والمسارح والكتب صغيرة كالسجن! نظر إليها زمنا. هل خمن مافكرت فيه؟ هو، كاد ينقل بالطائرة ويسلم لسجن بلده! "أصحابك حموني!" تبتسم. كيف يقال الفرد غير مهم؟ الفرد يحمي، والفرد يجعلك تتجاوز همك، والفرد قد يحاصرك! كانت محظوظة بالنوعين! حولها من يجرح ومن يداوي الجرح! ترى هل شكت له بينها وبين نفسها خيبتها وهي في غرفتها باكية كالأطفال في الليل؟ هل قويت بالوهم وهي تقول لنفسها: سيشق الأرض ويصل إلي إذا ناديته، سيرسل جنيا يطير بي إليه؟ هل كان الأمان، هو غير الآمن! تنظر إليه، فتقابل حبه فترخي عينيها. كم التقت به إذن في أرض مختلفة اللون عن الساحة التي نصب تمثالها فيها! تتذكر كم كانت ثمينة وهي بين يديه. كأنها تحفة قد تنكسر! كأنها إبداع استثنائي يحتاج المتعبدين! يقول لها: ألاتنظرين إلى نفسك في المرآة؟ تنظر إليه وتكاد تضحك من الصورة التي يراها. ثم تنسى ذلك وتندفع مبتعدة. فيتساءل: هل ستنتهي مما يشغلها ذات يوم؟ ومع ذلك يتابعها مبهورا وهي تخترع مشاريع ترسمها، يظنها خيالا حتى تنفذها. ثم يقول: والمشروع الموجود أمامك تجعلينه حلما بعيدا! تهربين كالسنجاب! فتهمس لنفسها: آه، حبه الثابت دون مدينة ثابتة تؤويه! يومذاك لم يقبل أن يلف له البائع الهدية التي اختارها لها. مشى في الطريق يحمل سنجابا مزهوا بذيله! وضعه على طاولتها. فتذكرت أنها لم تر في دمشق إلا سنجابا واحدا كان معروضا في واجهة مخزن على كتف الصالحية، يعرض اسطوانات ولوحات وتحفا صغيرة. والسنجاب ينظر من وراء الزجاج إلى المارين متأهبا للهرب. تعبره عندما تتناول من بائع زهر إلى جانبه حزمة مرغريت بربع ليرة. قال وهو يشير إلى السنجاب: أنت! سألته: بلونه؟ رد: بخفته في الهرب! قالت: رأيت مثل هذا السنجاب، بلونه نفسه. لكنه كان قطة! القطة المدللة، بنت البيت العربي! وفتشت ذاكرتها: هل صادفت السنجاب؟ لم أصادفه! فعلى أية شجرة رآه؟ آه، ظننتك قادما من الصحراء! يوم رأت السنجاب في غابة على طرف بحيرة دارت حول الشجرة وتابعته. وقصدت تلك الغابة لتقتفي أثر السناجب. في المساء الذي صادفت فيه السنجاب خابرها. دهشت! كيف عرف مقرها؟! لكنها لم تبح له بأنها التقت بسنجابه في ذلك اليوم في الغابة. بعد ربع قرن وصلت منه رسالة يذكر فيها السنجاب؟ قال: "وماتزال الصنوبرة تحن للسنجاب"! فرفعت عينيها، كما رفعهما مرة في إحدى المطارات! لا، لم تصادف قبل ذلك السنجاب إلا في الكتب! صادفت البلابل والشحارير! يوم مشيا في الغوطة كانت تلك أيام الزهر. والغوطة غابات متصلة تحتفل بزهر المشمش. كان حاجز البستان من الدكّ في مكان، ومن البيلسان في مكان. وكان شجر الجوز ينتصب عاريا معتدا بقامته. مشيا في درب، مواكبين الساقية. وعبرا معها البساتين. تركته مرات ووقفت على الحجر الذي يوزع الماء حصصا بين البساتين. وقتذاك غرد شحرور، فكادت توقف تنفسها كيلا يسمعه ويهرب. غرد الشحرور نشيدا ثم صمت برهة ثم غرد. هل قدر فترة صمت الشحرور ولذلك صفر مغردا مثله؟ كبحت ضحكتها. استمع إليه الشحرور، وعاد إلى نشيده. لم يبال به! لكنهما معا ألّفا أغنية مستمرة للأشجار، للبساتين، لزهر المشمش. نظر إليها: لك! التفتت نحوه: أنت أم الشحرور؟ لا، لم تفه يومذاك بكلمة! استمرت في المشي وابتعد تغريد الشحرور. كانت سوق الحور رشيقة، ترسم في البعد مايشبه ضباب الصباح. وخلفها في عمق البستان كان أصحابها حول دخان يتجمع يتعرج ويصعد حرا في هدوء. وعبق الحطب يفوح حتى الدرب الذي تمشي فيه. آه! تسلقت مرة مثل تلك الشجرة، وجلست على فرعها لتلتقط لها زميلاتها صورة. كانت يومذاك في رحلة مدرسية. لاشك أن في كثير من مجموعات الصور تلميذات استندن إلى شجرة لتلتقط لهن هناك صورة! وحول تلك النار، أيضا، التقطت صور، يخترقها الدخان! ذلك الشعير الأخضر كان يصل إلى خصرها في صورة أخرى قديمة! كانت صغيرة يخيل إليها وهي تعبره أنها تخترق غابة. أمام مجموعات الزهر الأصفر على طرف البستان المهملة التقطت صور كانت فيها تركب حمارا صغيرا زينت جبهته بالخرز الأزرق، وكان رأسها مزينا بشقائق النعمان. هي من هناك! كالجوز والحور. وهو؟ لماذا يتسرب إلى تلك الدروب، ويبحث عن تلك الأمكنة؟ أهو قادم من الصحراء؟ سائح؟ أم صاحب هوى؟ أم يقتفي أثرها هناك، كما تقتفي أثر السناجب في الغابات؟! لمس خطواتها. فهل يعرف أنه ترك إلى جانبها خطواته! لم تكن كتلك الورقة التي التقطها وخبأها في جيبه! كانت شفافة، وقد رأتها بعد ربع قرن هناك. مشت على حافة الساقية، بحثت عن الحجارة التي توزع حصص الماء على البساتين. وصادفت الجوز المعتد بجسمه الفارع، والحور الفضي، والدخان الذي يتعرج في هدوء. سمعت شحرورا يغرد، وملأت هي فترات صمته بالصفير. كانت الساقية فارغة من الماء، كان الجوز مريضا، اقتلعت أكثر البساتين، كان يصعب أن تجد دربا تمشي وحدها فيه. لكن لابأس! تناولت حبات العمر من الأرض، فحصتها في كفها، ثم نثرتها في الأرض المفلوحة. كم كانت تلك السنوات جميلة! كم كانت تلك البلاد جميلة! وكم كنا شبابا يومذاك! لماذا إذن حكم علينا بأن نعبر الثلج والمطر والريح، منفيين لارحالة إلى الحضارات الغريبة؟ لماذا.. في ذلك العمر؟! نظرت إلى رسالته على طاولتها. وكان الثلج يملأ النافذة. وهي تتساءل كيف عرف عنوانها. سألتها رفيقتها التي قرأت أول سطر في الرسالة: سنجابي؟ من يسميك سنجابا؟! ردت: هس! الرسالة ليست لي! اكتشفت فائدة التسمية التي تموّه الاسم! موّهته؟ نظرت إليها رفيقتها: صرت تفتحين رسائل أصدقائك السناجب؟ أم تستعيرينها مصادر للبحث الجامعي؟! نظرت إلى رفيقتها. "آه لاتعرفين كيف يكون الإنسان مهملا وحيدا وهو محبوب، فقيرا معدما وهو غني!" تأملتها رفيقتها دهشة: صرت ماهرة في الهمهمة؟! أجابت: ماهرة في خنق الشوق! لمس في جيبه الورقة. كان فمها مرسوما عليها. كانا يطلان على البحر. عشية فراق جديد يركب فيه كل منهما طائرة في اتجاه. بجواز سفر ملفق أو دون جواز سفر. هاهي بيروت التي كانت في نهاية السكة، بيروت التي بدت في عين الخضراء مدينة خارج الخرائط! تتكئ على بحر أزرق وهما يطلان معها على الروشة والبحر! في برهة كان يمكن أن يساقا وتقفل عليهما جدران السجن. وتمر شهور لايعرفان فيها اليوم من الآخر والليل من النهار. ويعلن أن شخصين خطرين سقطا في الفخ، وتعلق أوسمة على الصياد. كان البحر مدهشا بزرقته في ذلك اليوم. كان نيليا في مكان، فيروزيا في مكان، وكانت هي تشهق كلما هرعت إلى الشاطئ موجة فستقية مكللة بالزبد الأبيض. بعد الطعام مسحت شفتيها بورقة ووضعتها في الصحن. تناول تلك الورقة وهي مشغولة بلون قلب الموجة! وبحث فيما بعد طويلا بين الأقمشة عن ذلك اللون. بعد عشرين سنة أم أكثر، قال لها إنه التقط تلك الورقة وخبأها في جيبه؟ أم تراه التقط ورقة مثلها، في لقاء آخر؟ تغديا في بيت أصحابهما في الجبل. وكانت فيروز تغني. لم يحمل معه إلا أغنياتها! كان رحالة يسافر في الليل، كلما هبت عاصفة على بلد يقيم فيه تمزقت خيمته! يستدعونه ويطلبون أن يجيب على "بعض" الأسئلة. وكأنهم يكتشفونه يومذاك فقط! فيفهم أنه يجب أن يرحل. تصل إليه رسائل تحذره. ويتساءل وهو يعبر الحدود خلسة في الليل، ماشيا خلف الدليل: هل كانت هذه البلاد كلها حقا بلدا واحدا؟! وهل يعيش البدو فقط في الخيام؟! في تلك المرة، في ذلك البلد، سألوه عنها. فارتعش. ينشد حبها أمام أصحابه، لكن هذا المكان ليس لذلك النشيد! قلّب الرجل الجالس خلف الطاولة كتابا بين يديه: هذا خطها، وهذا الكتاب مهدى إليك منها! كيف فكوا توقيعها، كيف عرفوا خطها؟ ارتعش من الخوف عليها. يوم التقيا بعد أشهر كاد يلمسها متفقدا. نجت! اخترقا الكابوس إذن! لكن الدماء تسيل على أرض الشوارع. أضيف حنين جديد إلى بلد آخر غير فلسطين! حنينها! وهو المهاجر مرة ثالثة، في أية اتجاهات يوزع حنينه؟ سننتظر حتى يصحو العرب كي يعود كل منا إلى مدينته! حتى ذلك اليوم، سأسأل عن الأيدي التي تتلف في السجون. سأسأل عن الليالي التي يبددها الأرق، عن الدم المسفوح والدمع! نظرت إليه. نجونا نحن من امتحان الكرامة! لكن أصحابنا هناك! فلاتحدثني عن الحب! هل تذكرهم؟ كنا معا في أول الربيع، وفي أول الربيع نتساءل في الصباح، هل نلبس الجاكيت أم نتركه. في الباص لم أنظر إلى الطريق. كنت من المشغولين بالأحاديث والألعاب. فلم أر المطر المنهمر إلا وقت وصلنا إلى الجبل. حمل كل منا زوادته وبحث مع مجموعته عن ثنية في الجبل تؤويه من المطر. فجأة رأيتك تتسلل إلينا. هل اتفقت مع ذلك الذي اشتريت معه خمرا من الدير، خبأتماه بجريدة؟ زوّرت قصيدة قيس، ودفعتني إلى مكان ليلى! لكن قيسا لم يكن يعرف شعر ليلى الطويل، ولم يعتب لأنها قصته! بعد المطر وجدنا أول زنبق في الربيع. غنينا، ودبكنا. ضحكنا. تدفق الفرح. أعرف أنك كنت تنظر إلي وأنا أنظر إلى الجبل! بحثت معنا عن الزنبق، وقلت: لايحتاج إلى بحث! أصحابنا في تلك الرحلة بقوا هناك! فلاتحدثني عن الحب! كنت خبيرا بالغربة والتهجير. أنا كنت أجربهما أول مرة في أول العمر. في تلك الغرفة على الجبل، بين أصحاب جدد، رأيت شابة تنظر إليك في وله. وكنت أحبها. أمسكت بيدها ومشيت معها خارج البيت، بين الصخور. جمعنا الزعتر البري. وتأملتها وهي تغسله في عناية وتضعه على الطاولة التي ستتناول عليها طعامك. تعرف أنك تحبه! رويت لي في إحدى المدن، فيما بعد، أنها تسللت إلى غرفتك في الليل. كانت صبية نضرة وجميلة، أحبتك. لم أبح لك بأنها كتبت لي: "غدا أتزوج! أحببته، وأحببتك! أتركه لك!" كانت رسالتها مبقعة بالدمع. لكنها دموع شباب لاتهدده أحزان لايستطيع دفعها. شباب يستطيع أن يمشي في الطرقات التي مشى فيها أمس، ولايتلفت حذرا. وإذا اغترب يستطيع أن يرسل الرسائل إلى أهله وأصحابه مزهوا بالمدن التي يزورها. تتركك لي؟ ماأنضرها؟ طويت سرها. لم أبح به! بعد الزعتر البري وصل مساء واهن ساحر. تركنا ذلك البيت على الجبل والصبية وفيروز فيه. كان الشارع مغريا. لايعرف الرغبة في المشي إلا من يحرم منه! بدأت العتمة تطوي ألوان المساء وترتبها في صندوق الليل. بعد خطوات تبينت أن المشي معك مستحيل! وجهك نحوي طول الطريق! في بلاد أخرى تبعد الشبهة عن الفارين أن يمشوا متعانقين. لكن الحب في هذا البلد يجذب الشك! استدرت وقلت لك يعود كل منا الى مأواه! قال: تهربين؟ وبدا الحزن فيه. ففتشت يده الأولى ثم يده الثانية. وقالت: لايوجد مصباح! هدأ ولان! تذكره بليلة هربها منه! انزلقت من المجموعة وعادت الى البيت. في تلك الأيام كانت تنام ملء عينيها. لماذا ارتعشت؟ غمر ضوء ساطع وجهها! ثم تبينته واقفا خلف النافذة يوجه ضوء الكشاف عليها! حدقت فيه فيما بعد متسائلة: كيف يستطيع أن يجمع العقل إلى الجنون؟! كان غضبها كالعاصفة يهب كلما جن. لكنها وهي تواكب البحيرة ماشية، وحيدة، غريبة، اعترفت لنفسها بأنه كان مبهرا بجنونه. ورغم البرد خلعت قفازيها من الدفء. لم تتساءل مع من هو الآن؟ من التي تهواه اليوم؟ كانت في مساحة لايمكن أن يوجد فيها سواهما. وعندما كان العالم يبدو لها مقفرا وباردا وتبدو صغيرة ضائعة فيه، كانت تردد: هو في مكان ما! ولابد أن يظهر في البرهة الضرورية! كانت إسرائيل موجودة في جميع تلك الأزمنة بينهما. كانت تبني مدنا، وتعلّم صغارها أن العرب همجيون وخطرون ومتخلفون، أرضهم لها وقتلهم حلال. وكان العرب يظنون أنهم أباطرة البلاد، وأن المصير لايجسر على تكرار سنة 1948. كان يشغل الزعماء السياسيين الشعب المشاغب، الأحزاب المنافسة، قدرة مخافر الحدود على مراقبة المسافرين، شطب الأسماء من قوائم طالبي العمل أو الموظفين، تنظيف الجيش والتعليم من العناصر الخطرة. وإياك أن تهمس هذا خطأ أو هذا صواب! في إحدى تلك السنوات حدث احتلال إسرائيلي جديد، فسمح العرب للمنفيين بالعودة إلى المدن التي لم تحتل بعد. عاد. هاهو دون الأسرة التي اختارها ودون الأسرة التي ورثها! نفذ إذن ماكتبه لها في رسالة منذ عشر سنوات: "لن أموت قبل أن أرى الأعزاء علي!" لم يقبل جنسية غريبة! هكذا نحن، تسلبنا بلادنا الجنسية الموروثة، ونرفض الجنسية المهداة! فنعيش دون أوراق ثبوتية في عالم يرتبنا بلون المنشأ، ولون الاتجاه! صحا الزعماء العرب بعد الهزائم؟ مرحبا! فقدوا من مزقوه، جميع المنفيين، والمبعدين، والمسجونين! فليحاربوا بالمدللين المنافقين! تطلب إسرائيل أن يسجدوا لها كما طلبوا منا أن نسجد لهم! كسبت الوقت الذي انشغلوا فيه عنها بنا! وكسبت ضعفنا وموتنا! مع ذلك لم يصحوا! ولن! يوم عبرت البوابة إلى مملكة الصمت كانت الطرقات ماتزال مقطوعة بين مدينته ومدينتها. فجرّته إلى مطل على الشوارع التي كان يمكن أن يمشيا فيها، وقالت: لاتحزن! لن نستطيع أن نمشي هناك ولو سمح لنا بذلك! فالمدن التي عرفناها لم تعد موجودة! فقدنا مدينة المشاة! لن يهف الياسمين وزهر النارنج! لن تشعر بأنك ملك الأرصفة! لن ترى أسراب العصافير الدورية! لايوجد غراب يسرق الجبن، ولاأحد اليوم يعرف "الشوحة"! وفوق نافذتك لن تعشش الستيتية! لكننا في مملكة الصمت. هنا، نستطيع أن نمشي كما نشاء! تعال! مشى معها تحت السرو، وعبرا أشخاصا بملابس بيضاء ناصعة. ثم توقف. لاتوجد أمكنة في مملكة الصمت تجمعهما! لانهر يجلسان على ضفته، ولاسكة قطار تمشي أمامه عليها وهو يتبعها! ولاصخور يخيل إليها أنه نزل من كهوفها! آه، كانت الحياة التي تفرقهما هي التي تجمعهما! خسراها ولن يكسبا هذه! من يستطيع أن يكسب الموت! أغمض عينيه. لو تعود تلك الأيام .. لو تعود المدن المفقودة! لو! هل فقدناها؟ لا! بل فقدها من بعدنا! مساكين! في ذلك المساء عاد حاملا زجاجة عطر. صبها على يديها. فالتفتت عنه كيلا يرى بريق عينيها. أخرج صورتها القديمة من جيبه، وبكى! على أي شهيد أو قتيل تبكي؟ على المدن، على السنوات أم على نضارة الشباب المسفوك في الغربة! نظرت إليه: تركت هناك السلسلة الذهبية التي علقت لي فيها حجرا صافيا شفافا كالدمعة! خرجت من البيت مسرعة! لم أتناولها! لو بقيت برهة أخرى لما نجوت! أحاطت بيتي عشرات السيارات العسكرية! تبتسم؟ لماذا؟ خطرة على أمن الدولة! تسخر؟ لكن ذلك حدث حقا! يتكرر ذلك مرة في هذا البلد العربي ومرة في ذاك! من الحدود تجر فتيات إلى هذا الجانب أو إلى ذاك. إذا أردن الخروج منعن منه، وإذا أردن الدخول منعن! في هذه البرهة لست كذلك، لكني كنت، وقد أكون! أمر، لكن شخصا يحدق في أوراقي مرتابا: تمر؟! كيف تمر؟! لذلك تأملت في تأن جنة حواء، وخيل إلي أن مخافر الحدود بدأت من هناك! أنت، قل لي، كيف نجوت بقلبك ولهفتك من تلك الأعاصير؟ في العالم الذي شيع فيه الحب وكفّن، ودفن، كيف استطعت أن تحمي الحب؟ أكان ذلك حب امرأة، أم حب زمن مزين بريش الطاووس والأجراس والخرز الأزرق! تكاد تسأله عن ذلك لكنها تصمت! لذلك جلست على الأرض. هزت الودع في كفها ورمته وبدأت تقرأه وتفحصه. منذ متى ياسنجابي تقرئين الودع؟ هل تقرئين الكف أيضا؟ راقبها مسحورا. وقال لنفسه: كانت تمارس السحر إذن، لذلك جرتني وراءها ثلث قرن! قالت له: وقت كان الزمن الخاطف يبدو طويلا في الغربة، كانت رفيقاتي يشربن القهوة لينقبن في خطوط الفنجان باحثات عن القدر. فكنت أفتح الباب وأخرج فتبدو الدنيا واسعة حتى في الثلج والسماء عالية حتى في الشتاء. لكن تعال الآن لنتبع الصدف إلى البحر! ابتسم: فلنتبعه! وسارا على طرقات من ماء وهواء في مملكة الصمت. ورأته طفلا يرفع يديه كأنهما تستطيعان حماية رأسه من القصف. قيل: الأمان في الملجأ فقط. فأين الملجأ! والبلاد غفت في وهمها، والملوك يقتفون أثر المشاغبين! مرت الطائرات فوق رأسه، وهرب منها. اندفع مع الناس. ظن مثلهم أن العراء هو المكان الآمن. لكن الأمان كان هربا فقط في اتجاه تقودهم إليه الطائرات! "عندي كان غير ذلك! ظنت أمي أن أطباق النحاس تحمي من القنابل والرصاص، فوضعتها بيني وبين الجدار. قدرت أن الطائرات والمدافع من جهة ذلك الجدار! لكن القنبلة سقطت من أعلى فوق بيت الجيران!" في أول نشيد كتبه أطلق الغضب المغلول خلال البحث عن ملجأ من الطائرات، والطفل يهرب من أرضه ومدينته ومن كل ماأحبه. كتب ذلك النشيد لنفسه وهو يجرب اللغة التي تعلمها في المدرسة. لم يكن في المدرسة غير تلك القصيدة، فدفعوه ليقرأها عندما زار زعيم البلد المدرسة في عيد من الأعياد الوطنية. فاستمتع بيده الناعمة السمينة، المرصعة بخاتم، يد امتدت الى ذقنه ورفعت وجهه: شاطر! موهوب! سيكون شاعرا عظيما، فاعتنوا به! كانت يومذاك بين صفوف تلاميذ المدرسة الذين وضعوا في استقبال ملك بلدها! أوقفت في الصف الأول لأنها بيضاء، على رأسها شريطة بيضاء، وفي قدميها جوربان أبيضان قصيران. مر الملك بين صفوف التلاميذ. يومذاك أيضا كان يقدم أصحاب الملابس المرتبة المكوية والوجوه الجميلة، أو الأولاد المحظوظون بأهل مهمين. توقف ملك البلد قربها ونظر إليها نظرة طويلة فالتفتت إليه المعلمة: سنعنى بها، ياملك الزمان! هكذا رصدت لكل منهما عناية خاصة. بدأت بأوراق مزخرفة اسمها مرحى، وبسجل الشرف المذهب المعلق على الحائط، وانتهت بسجلات في المرافئ والحدود! في أيام المرحى وسجل الشرف المذهّب كان زمن تلك المدن دون نهاية. شمس وماء! لاجوع ولابذخ. في الشوارع سيارات قليلة، أكثرها باصات. في الشوارع مشاة، والمقاهي رخيصة، ظليلة، والبساتين على بعد خطوات: في نهاية الطريق، على كتف المدرسة، خلف البيت، في سفح الجبل، حول بيت الأصحاب. والسواقي تقطع الطرقات، وحيث يتجمع الماء بط ووز، وفي السماء شحارير وأسراب من الدوري والغربان. هل قطعت كل ذلك دبابة وقفت على زاوية الطريق ذات فجر؟ "كنت ذاهبة إلى المدرسة. ففاجأتني دبابة. في التقاطع رأيت دبابة أخرى. المدرسة مغلقة. والمديرة مضطربة تقول للتلاميذ: عودوا إلى بيوتكم في هدوء! كنت صغيرة. فتفرجت على ذلك في فضول. لي لم يكن ذلك يعني السجون وسجلات الحدود." قال لها: "كانت الهجرات بحثا عن العشب، أو الدفء. أصبحت بحثا عن الحرية." كم هجرة أو تهجيرا رأى في عمره؟ التهجير من اسكندرون. من فلسطين. من القدس. من الجنوب. من الجولان، من المدن المحتلة. من الأنظمة الظالمة. هربا من السجون. من التعذيب. إلى الخليج ومن الخليج! وإلى بلاد الأرض بحثا عن الملجأ والعمل! يومذاك لم تنزل الدبابات إلى الشارع. نزل البصّاصون. الشارع خطر، والبيت خطر. لامأوى ولاأمان! مداهمات واعتقالات. موت "تحت التعذيب". نزع الجنسية. والصحف تعد الانتصارات والإنجازات والتقدم والرخاء. شوارع، أبنية، جسور، أنفاق، بوابات عالية، نفاق، تصفيق، شعارات، زينات، احتفالات، طبول، صفوف من الأطفال والتلاميذ والشباب والكهول على حافة الطرقات، في المداخل، على السلالم، في القاعات، لهز الأعلام والورود والهتافات. "العدو على طول الحدود؟ فليكن! يجب أن أسوي مسألة الداخل أولا!" ممن؟ من المشاغبين! بعد سنوات طويلة، انطلقت العصابات في الطرقات. رددت هي أيضا: "يجب أن نصفي مسألة الداخل أولا!" كيف اتفق النقيضان؟ كيف؟ أوقفوه: أنت مع من؟ لم يتذكروا أن اسمه كان في سجل الشرف.. لماذا تصر على تعريف ذلك الزمان؟ دعه! فليكن زمن الصغائر! فليكن زمن جني ثمار الشوك! يجنيها من لم يزرعها؟ نحن؟ دع الزمن! سأدعه! وأنا أشكره! لأني أخذت ظلامه الواضح، ولم تلحقني فوضاه إلا في الهزيع الأخير! اسكت! لاهزيع أخير بعد! تمسك بيده وتمشي في مدن الأمس، في شوارع الأمس، تعبر أنهار الأمس، ويجلسان على الضفة تحت الأشجار. شوشك يومذاك صوت الماء! كان هو الملك الثرثار. تركناه حيث يقفز على الجذوع ويلعب بالضفاف، ويتحدث بصوت عال، وقصدنا النبع. ماء صاف شفاف، فوق صخور مرقشة بالسواد، يرتعش دون صوت. وفوقنا صخرة كبيرة جميلة، ونحن فوق ذرى الشجر. وذرى الصخور تمسك بالأفق. عدنا إلى الطفولة التي كنا نرغب فيها التسلق لنرى ماحولنا من مرتفع. من فوق رأينا أصحابنا جالسين حول طاولة من الخشب على كراس من القش. وكان هو بينهم. يوم انطلق البصاصون إلى الشوارع، وهجعوا في الزوايا، فاجأوه وخطفوه. أعرف أنك بكيت عليه! أعرف أنك لم تنامي في تلك الليالي، لأني لم أنم. "في أيامنا يغبطون المحظوظ بالموت في فراشه!" "وهل مات هو على صهوة الخيل؟ قتل مقيدا معذبا في السجن!" قالت له يوم صادفها في إحدى المدن: صادفت صورة من صوري بين جمع. كانت مصائرهم كلهم محزنة! ماتوا شبابا. بعضهم قتل في السجن، بعضهم اغتيل، بعضهم استشهد، وبعضهم طقّ من الغم! لعلني الوحيدة التي تعيش حتى اليوم! أكانت تلك الصورة هي التي التقطت لنا في رحلة، في معرض الكتب، في اللقاء العربي، في الاستقبال؟ كنت فيها خلفك! تسللت في نهاية الاحتفال. هربت مني. عرفت أنك تعودين مشيا. فسبقتك. مازال ظهري يحمل أثر تلك الليلة! تكورت على نفسي خلف باب البناء وانتظرتك. سمعت جارك يقول، كأنه شعر بي: من هناك؟ فردت عليه جارتك: قد تكون قطة! كورت نفسي كي تسعني زاوية تسع قطة! منذ تلك الليلة أشعر بألم في ظهري، وأحنو عليه لأنه يذكرني بك! "ياللمجنون!" علق في إطار خلف مكتبه ورقة كتبتها مرة له! كانت صارمة في توازنها. لذلك كان يرعبها جنونه! يكاد يسألها في أي عمر تعلمت أن تكبحي التعبير عن الحب وتخنقي الشوق؟ ألا تدركين حقا ماذا خسرت؟ تقول لنفسها: لاتعد الخسائر! ولكن هل منها عرض العواطف! يقول لها وهما يمشيان في مملكة الصمت: آه، ياسنجابي! لو تعرفين أن الإنسان يستمتع بحبه وهو يتحدث عنه وينشره على حبال الهواء والضوء وعلى باقات البنفسج! لذلك أنشد قيس هواه! تجيبه: هنا نختلف! يردد: نختلف؟! يضحك. نختلف وقد جرفتنا ريح عاصفة واحدة؟! ترد: ريح عاصفة لم توحد المدن ولم تجمع الناس! ومازلنا نحلم بأيام العثمانيين، أيام لم تكن بيننا حدود! مشيا تحت السرو حتى المنعطف فوقف وسألها: تتزوجيني؟ ياللمجنون! لايعرف بعد أن ماحرما منه في الحياة لايستعاد! لايستعاد شيء أبدا في مملكة الصمت! رفعت عينيها لتبتلعا الدموع، وعندئذ فهم أنه في سجن واسع، لامخرج منه.. وقرب شجرة السرو سقطت بعض الدموع
قال: لو تزوجنا، أكان كل منا هكذا؟ أنا وحيد وأنت وحيدة؟ وحيد، وكل اولئك الناس حوله؟ أعرف أن نساء متنوعات لحقنه. وهل يرد امرأة تقصده؟! الشهامة! وأنا هل كنت وحيدة، والأيام أقصر مما أريد؟ آه، تعلم التنجيم إذن فعرف أن الانسان قد يكون وحيدا وسط المجموعة!
نظرت إليه كما كانت تنظر إليه تماما. بملء عينيها! لم تر شعره الأبيض. بل رأته كما كان يوم عرفته. ابتسمت. مازال يتحدث في حماسة، مازال يظهر الوله ويطلق الهوى! كان هكذا يومذاك. لذلك لم يستطع أن يمشي على سكة القطار في عين الخضراء، ومشت هي عليها تحت ظلال الجوز! كانت النزهة مرتبة كي يكونا معا طوال النهار. وكان الربيع في أوله. وربيع دمشق يومذاك واضح الحدود. من جهة شمس دافئة وزهر وبراعم، ومن جهة برودة منعشة منذ تميل الشمس. والنسيم يحمل من الصباح إلى المساء عبق الزهر ولايملّ. على يسارهما صخور تعشش في كهوفها روح الإنسان القديم. صخور تشد الروح إلى السماء الزرقاء الصافية العميقة. وصخور ينساب عليها النبع. وصخور ملثمة بالأشجار على ضفتي النهر. وكانت الأغصان تمس صفحة الماء المندفع بمثل لهفته. أكانت تحرضه على البوح؟
توقفت على سكة القطار، متوازنة، ونظرت إليه برهة. كان رشيقا، يزيد الحب من جماله. كان فاتنا بصدقه، بشعره الأسود، بنحافته. وكانت كلماته تنساب، تتدافع، تتألم، ترجو وتحلم. فتوهم أن في يدها فقط مفتاح البوابة إلى سعادته. قالت: رضوان؟ توقف دهشا؟ ماذا قلت؟ من رضوان؟ رجل تحبينه؟ ضحكت: لاأعرفه! رفع رأسه إلى رقعة السماء المطلة بين الصخور والأشجار: ياربي! أكان يشكوها الى رقعة السماء العميقة الزرقة؟ أم إلى إله قديم مختبئ في الكهوف؟ سارت على سكة القطار، وتكاثفت فوقها الأشجار. تبعها على الحصى المفروش على السكة، ثم واكبها. التفتت إليه مرة أخرى وتساءلت: هل سيبقى منه شيء حتى المساء إذا ظل يحترق باللهفة والشوق؟ ارتعش الليل في ذلك اليوم من الرطوبة لكنها لم تشعر ببرد الليل.
مشيا. من طرف بينهما وبين النهر مجمعات من أشجار الحور، ومن الطرف الآخر تظهر بوابات بيوت طينية مغمورة بالشجر ويثغو أحيانا خروف وتطل أحيانا فتاة. كانت تسبقه وهي تمشي على السكة. ثم التفتت إليه فواجهته وهو على بعد خطوات. وقفا ينظر كل منهما إلى الآخر. رأت في عينيه بريق دموع. وبدا في ذلك الخندق الأخضر إنسانا نزل من الجبل ووقف أمامها وسيما طلق اللغة، نظيف الملابس، ناصع الأسنان. فكادت تقول له: مشيت مثل ذاك الذي سكن في كهوف هذا الجبل، لكن يومذاك لم تكن هناك حدود. وربما لم تكن كلمة "التسلل" موجودة في اللغة!
هل سألها هناك أيضا، وهي تمشي على السكة وهو يواكبها على الحصى: تتزوجيني؟ وهل قالت له يومذاك: ليتنا نتبع طريق السكة إلى بيروت، كأنها تدعوه الى مدينة خارج الخرائط؟ يصعب عليها أن تربط الأمكنة إلا بالسعادة الواسعة التي كانت تنشرها صحبته. "كنت تلبسين يومذاك تنورة واسعة زرقاء، وقميصا أبيض! وكان شعرك يرف مع حركتك!" قالت: "كان ذلك هو طراز الفتيات في تلك الأيام!"
كانت الحياة سهلة يومذاك، لباس الناس بسيط، وفي البلد مقاه تكتنفها الأشجار والأزهار. كانت البيوت تناسب طول الإنسان. كانت الأنهار تعيش والأشجار تعانق المدينة. كانت الأحلام هي الكبيرة لاالبنايات. وكانت أحلامها هي تمتد، لاتحبسها حدود. كانت ايمانا بأن الغد كبستان من زهر المشمش. من يستعجل الزواج يومذاك! تحمي نفسها مم، ممن؟ ولم يكن في مشروعها، وقت يحين الزواج، أن تهاجر من البلاد. قالت: "هل تترك هذه الصخور مكانها؟" لم تكن ذاقت الوحدة، وضعف الإنسان وقت يلين فيقبل ماظن أنه لن يقبله، ويدفع بعد ذلك الثمن.
ماذا جمعهما فيما بعد، وكل منهما بعيد عن الآخر؟ أن الرجل الذي تركاه جالسا على كرسي من القش قرب النهر ليمشيا على السكة، مات مقتولا في سجن؟ أنهما التقيا في التفكير به، وكل منهما في طرف من الأرض؟
كان يخرج من غرفته كلما سمع خطواتها وهي تعبر الممر إلى أرض الدار التي تظللها شجرة مشمش هندي. لا، ليس "كلما"! كان يتلكأ عندما يغضب منها! وكان أحيانا يفتح نافذته ليعكس الزجاج صورتها فيراها من غرفته! عرفت ذلك يوم رأت بنت الجيران تراقبه بزجاج النافذة!
كانت تصادف أحيانا بعض الفتيات في أرض الدار، وتفهم أنهن بنات الجيران أتين ليستعرن، في الظاهر، شيئا من صاحبة البيت. وفي الحقيقة كي يجلسن قليلا ويتحدثن معه. لكن ذلك لايعنيها! لماذا يعنيها؟ مابينهما أعمق من أن يخترقه حب آخر. هل كانا يختلفان هنا؟ هل كان يريد أن يكون مابينهما حبا عاديا فيه غيرة وانتظار وغضب، وينتهي بزواج؟
للزمن قرار آخر! وصلتها منه رسالة، مرة. وجد شبيهتها! نسخة أخرى في الشكل واللون والحركة! أحبته تلك الغريبة، وقبل حبها زمنا. كتب في رسالته: "تركتها هائمة تمشي على الأرض!" فغضبت: لايحتاج الرجال نذلا آخر! تركها هائمة؟ غضبت عليه! لم تشعر بالغيرة، بل بالحزن على الفتاة!
يوم التقيا صدفة في مطار من المطارات، كان يودع رجلا، وكانت هي تعبر المطار إلى بلد آخر. نهض ملهوفا عندما رآها. وبرقت الدموع في عينيه. أهناك قال لها إنه ترك شبيهتها وهناك قالت له إنها لامته لأنه جرح فتاة تحبه؟ كانا يكتبان قصة بالعمر، بالأمكنة، كأنهما يصفّانها قطعة، قطعة. لم يتبيناها كاملة إلا هنا في مملكة الصمت. جلسا على حجر، وتناول يدها. قلّبها بين كفيه وقبلها. ركع أمامها. لم تكن أية قطعة منها أقل قداسة من الأخرى. فلماذا تشد قبضتيها وتبعد قدميها! كان هناك إنسانا تجاوز مايستوقف الرجال أو يقيدهم. كان لايخجل بأن يبوح بحبه كله، ويكشف ليالي شوقه وحزنه. كانت هي أغنيته التي ينشدها أمام الغرباء. فهل أراد أن يحيي قيس ليلى؟ منذ تلك الأزمنة خجل الناس بالحب وأخفوه، وأهانوه كي يظهروا أنهم أكبر منه! فهل تحمل حبك على كتفك من بلد إلى بلد، كي يعيش قيس العرب في العصر؟
في مملكة الصمت عرفت أنصاف الحقائق الأخرى، أنصاف الصور الأخرى، ووضعت الجزء إلى جانب الجزء. لم تفرقهما إذن جروح الحرية، والحدود، والرياح التي عصفت بالبلاد! فرقتهما أيضا الخلافات بين أهل البيت! فهل كان ينشد حلما مبهجا، ويرسم صورة ملونة على أفق قاتم؟ ويبعث أمامها قيس وليلى في الزمن المعاصر؟ ويعلن أن أراغون وإلسا موجودان هنا أيضا؟ كان يعرض البطاقات البريدية إذا وصلته منها وقت يعرف أحدهما عنوان الآخر. ويعرض الرسائل التي تكتبها إليه وتبرأ بها من ثلج الغربة وسمائها المنخفضة. في ذلك المقطع من الحياة كانت تعرف عنوانه. لكنها وقت نزلت من القطار في المدينة التي يوجد فيها تفادته. كانت وحيدة، ومريضة. نزلت في الفندق الذي كان يسهر فيه. اختارت طاولة في قاعة صغيرة لاترى من قاعة الطعام الكبيرة. لبست ثوبا في مثل لون قلب الموجة، وشعرت بأنه يجلس هناك صامتا معها. تناولت القليل من الطعام، شربت القليل من عصير البرتقال، ثم صعدت إلى غرفتها. وفي الصباح مشت أنيقة إلى السفارة المقصودة فجددت جواز سفرها. صمدت للأسئلة، فبدت مغتربة غنية، ليست من المشبوهين في زمن القلاقل، الذين لاتمدد لهم الجوازات. وعادت إلى الفندق. عبرت الردهة التي يعبرها، وجلست في القاعة الصغيرة وقلبها يرتعش. هل كانت تخاف من السعادة إذا رأته؟ هل كانت تتفادى ليالي الأرق التي ستتبعها؟ يوم صادفته في مدينة أخرى انزلق لسانها فعرف أنه كان قربها في الفندق نفسه. آه، ماذا فعلت! من ذلك الفندق، وهي جالسة في القاعة الصغيرة اتصل بها في تلك الليلة، إلى البلد الآخر ليطلب أن تزوره! ثم عاد فجلس خائبا في قاعة المطعم الكبيرة! "كنت في الفندق نفسه وأنا أصغي إلى دقات هاتفك؟!" تركها برهة وابتعد إلى المغاسل ليخفي انفعاله. ثم عاد إليها وأثر الألم في وجهه، والبريق في عينيه. عاتبها. تريدين أن تحمليني كما تحمل صورة في الجيب وكما يحمل تمثال صغير في الحقيبة! ترحلين بي في اتجاهاتك، لكنك لاتتوقفين لتكوني مع الأصل الحي! ماذا تقول له؟ كانت الحياة تندفع في اتجاه آخر. "يعلم الله متى تعودين إلى بلدك!" ترد على نفسها: "ذات يوم سأعود إلى بلدي! لكنه لن يعود!" سألها لماذا؟ لماذا؟ فلم ترد عليه! كانت على كل حال مريضة، لم تزر حتى النهر الذي تحبه، لم تصعد الطريق ذا الفوانيس، لم تقصد المقهى الصغير ذي المقاعد الخشب! لم تسع إلى شيئ تحبه يومذاك! تذكرت أنه قال لها مرة وهو يتبع خطوطها مبهورا: ألم تتأملي نفسك في المرآة؟ لكنها، لم تترك صورتها في المرآة! وكان هو وقتذاك جالسا في مطعم الفندق، كالمنفيين، يدخن ويتحدث ويخرج من جيبه صورتها ويعرضها لأصدقائه القدماء. آه، لايعرف أن حبه دون أرض يعشش فيها! لم ترسم مجموعة من الرجال الغرباء الحدود قبل مولدهما كي تقسم البلاد، بل كي تمنعها من العبور إلى مدينته وتمنعه من العبور إلى مدينتها!
أخرج الصورة من جيبه يوم التقيا. ورأت نفسها شابة مضيئة العينين، ترفع رأسها، كما طلب المصور، لينهمر الضوء على وجهها، وليتألق شعرها. كانت أفراح الحياة هناك، في حركة الرأس وفي العينين. كانت في تلك الصورة كشحرور لاعمر له، لانهاية له. سألت نفسها وهي تنظر إلى الصورة: أنا؟ قال: أخذتها منك، وأوصلتك بالتكسي إلى البيت الذي ستلتقين فيه بأصدقائك لتسافروا منه في الفجر! كنت تلبسين ثوبا أخضر.. وكانت رائحة الصابون تفوح منك، وبشرتك مازالت دافئة من الماء. آه كيف تتذكر التفاصيل؟ عذابه أنه يحفظ التفاصيل! تحيط به الصور، يسمع الكلمات والأصوات، يحس بالمشاعر التي مضت! قال: أي شقاء! تساءلت: شقاء أن تبقى الأيام شابة، والأصوات نضرة؟! كان يقصد أمرا آخر! لكنه لم يحك لها عنه يومذاك. لم يقل لها إن الانتقام في العصور كلها يختار بقعة القلب النضرة! "اختلفت معه، وفي الاجتماع التالي كنت مقابله، وفي الثالث كنا نتحدث بلغتين. بعد ذلك أعلن لي: لن تتزوجها أبدا، طالما كنت حيا! لن تصل أبدا إلى مدينة تكون هي فيها!" كانت جميع مفاتيح تلك المدن في يديه! روى لها ذلك في مملكة الصمت! كانت إذن تنفذ أمرا لاتعرفه يوم مرت بإحدى مدنه وتفادت أن تراه! لم يمت إذن أهل قيس وليلى أبدا! وصلوا أحياء إلى أبعد الأجيال عنهم، إلى أبعد الرجال عنهم! الحرمان من الحب عقاب في المنافسات السياسية على مدى الدهر!
ألذلك أنشد في تلك الأيام: "ياويل درب لايضيعني"، فغضبت عليه؟ ألذلك كان يبدو كأنه يريد أن ينتحر؟ نظرت إليه. كان يرفع رأسه كي يبتلع الدموع. وفهمت أنه شهد مقتل المثل قبل الاحتفال بمقتلها. عبر، هو ومنافسه، السجن. فأين بدأت العداوة بينهما؟ كان قبلها يؤمن بالأساطير التي تنسج عنه، وكان ينشرها. لكنه خلال الاجتماعات به تبين بعد الأسطورة عن الحقيقة! خطؤه، أو مجده، أنه أعلن ذلك مبكرا، فافتتح معركة يصعب أن يجد لنفسه فيها مؤيدين. وكان الحب جرحه المفتوح. ضعفه المعلن. بعد ألف سنة أوقف على منصة قيس نفسها ونفذ فيه الحكم!
في مملكة الصمت عرفت الصفحات الضائعة! كانت تتلقى نظرات مريبة. فتتساءل لماذا؟ قال لها أصدقاء، كأنما من الغيرة عليها: يجب أن تتزوجي! صمتت من التهذيب. فهل يتفق مشروع تحرر الإنسان، مع إلغاء الحب من الزواج؟ حضرت في تلك الأيام عرضا واسعا: مر أمامها رجال طوال وقصار، سمر وشقر، سمان ونحاف. ذهلت: "كم كان أبي إذن راقيا! لم يلزمني بمثل ذلك العرض!" كادت تعترف له وقت التقيا لقاء سريعا: وقت سمعت صوتك في التلفون تقول لي مرة أخرى: تتزوجيني؟ كبحت لساني في البرهة الأخيرة! لكنها صمتت. يجب أن يبقى مابينهما أعلى من الطوارئ. وماذا تقول له، ألا يعرف أن الخلاف مع مجموعة في الغربة مفزع، يحوك حول الخارج عليها الوحدة والشبهة؟ تصبح المدينة الكبيرة المليئة بالمتاحف والمسارح والكتب صغيرة كالسجن! نظر إليها زمنا. هل خمن مافكرت فيه؟ هو، كاد ينقل بالطائرة ويسلم لسجن بلده! "أصحابك حموني!" تبتسم. كيف يقال الفرد غير مهم؟ الفرد يحمي، والفرد يجعلك تتجاوز همك، والفرد قد يحاصرك! كانت محظوظة بالنوعين! حولها من يجرح ومن يداوي الجرح! ترى هل شكت له بينها وبين نفسها خيبتها وهي في غرفتها باكية كالأطفال في الليل؟ هل قويت بالوهم وهي تقول لنفسها: سيشق الأرض ويصل إلي إذا ناديته، سيرسل جنيا يطير بي إليه؟ هل كان الأمان، هو غير الآمن! تنظر إليه، فتقابل حبه فترخي عينيها. كم التقت به إذن في أرض مختلفة اللون عن الساحة التي نصب تمثالها فيها!
تتذكر كم كانت ثمينة وهي بين يديه. كأنها تحفة قد تنكسر! كأنها إبداع استثنائي يحتاج المتعبدين! يقول لها: ألاتنظرين إلى نفسك في المرآة؟ تنظر إليه وتكاد تضحك من الصورة التي يراها. ثم تنسى ذلك وتندفع مبتعدة. فيتساءل: هل ستنتهي مما يشغلها ذات يوم؟ ومع ذلك يتابعها مبهورا وهي تخترع مشاريع ترسمها، يظنها خيالا حتى تنفذها. ثم يقول: والمشروع الموجود أمامك تجعلينه حلما بعيدا! تهربين كالسنجاب! فتهمس لنفسها: آه، حبه الثابت دون مدينة ثابتة تؤويه!
يومذاك لم يقبل أن يلف له البائع الهدية التي اختارها لها. مشى في الطريق يحمل سنجابا مزهوا بذيله! وضعه على طاولتها. فتذكرت أنها لم تر في دمشق إلا سنجابا واحدا كان معروضا في واجهة مخزن على كتف الصالحية، يعرض اسطوانات ولوحات وتحفا صغيرة. والسنجاب ينظر من وراء الزجاج إلى المارين متأهبا للهرب. تعبره عندما تتناول من بائع زهر إلى جانبه حزمة مرغريت بربع ليرة. قال وهو يشير إلى السنجاب: أنت! سألته: بلونه؟ رد: بخفته في الهرب! قالت: رأيت مثل هذا السنجاب، بلونه نفسه. لكنه كان قطة! القطة المدللة، بنت البيت العربي! وفتشت ذاكرتها: هل صادفت السنجاب؟ لم أصادفه! فعلى أية شجرة رآه؟ آه، ظننتك قادما من الصحراء!
يوم رأت السنجاب في غابة على طرف بحيرة دارت حول الشجرة وتابعته. وقصدت تلك الغابة لتقتفي أثر السناجب. في المساء الذي صادفت فيه السنجاب خابرها. دهشت! كيف عرف مقرها؟! لكنها لم تبح له بأنها التقت بسنجابه في ذلك اليوم في الغابة. بعد ربع قرن وصلت منه رسالة يذكر فيها السنجاب؟ قال: "وماتزال الصنوبرة تحن للسنجاب"! فرفعت عينيها، كما رفعهما مرة في إحدى المطارات!
لا، لم تصادف قبل ذلك السنجاب إلا في الكتب! صادفت البلابل والشحارير! يوم مشيا في الغوطة كانت تلك أيام الزهر. والغوطة غابات متصلة تحتفل بزهر المشمش. كان حاجز البستان من الدكّ في مكان، ومن البيلسان في مكان. وكان شجر الجوز ينتصب عاريا معتدا بقامته. مشيا في درب، مواكبين الساقية. وعبرا معها البساتين. تركته مرات ووقفت على الحجر الذي يوزع الماء حصصا بين البساتين. وقتذاك غرد شحرور، فكادت توقف تنفسها كيلا يسمعه ويهرب. غرد الشحرور نشيدا ثم صمت برهة ثم غرد. هل قدر فترة صمت الشحرور ولذلك صفر مغردا مثله؟ كبحت ضحكتها. استمع إليه الشحرور، وعاد إلى نشيده. لم يبال به! لكنهما معا ألّفا أغنية مستمرة للأشجار، للبساتين، لزهر المشمش. نظر إليها: لك! التفتت نحوه: أنت أم الشحرور؟ لا، لم تفه يومذاك بكلمة! استمرت في المشي وابتعد تغريد الشحرور. كانت سوق الحور رشيقة، ترسم في البعد مايشبه ضباب الصباح. وخلفها في عمق البستان كان أصحابها حول دخان يتجمع يتعرج ويصعد حرا في هدوء. وعبق الحطب يفوح حتى الدرب الذي تمشي فيه. آه! تسلقت مرة مثل تلك الشجرة، وجلست على فرعها لتلتقط لها زميلاتها صورة. كانت يومذاك في رحلة مدرسية. لاشك أن في كثير من مجموعات الصور تلميذات استندن إلى شجرة لتلتقط لهن هناك صورة! وحول تلك النار، أيضا، التقطت صور، يخترقها الدخان! ذلك الشعير الأخضر كان يصل إلى خصرها في صورة أخرى قديمة! كانت صغيرة يخيل إليها وهي تعبره أنها تخترق غابة. أمام مجموعات الزهر الأصفر على طرف البستان المهملة التقطت صور كانت فيها تركب حمارا صغيرا زينت جبهته بالخرز الأزرق، وكان رأسها مزينا بشقائق النعمان.
هي من هناك! كالجوز والحور. وهو؟ لماذا يتسرب إلى تلك الدروب، ويبحث عن تلك الأمكنة؟ أهو قادم من الصحراء؟ سائح؟ أم صاحب هوى؟ أم يقتفي أثرها هناك، كما تقتفي أثر السناجب في الغابات؟! لمس خطواتها. فهل يعرف أنه ترك إلى جانبها خطواته! لم تكن كتلك الورقة التي التقطها وخبأها في جيبه! كانت شفافة، وقد رأتها بعد ربع قرن هناك. مشت على حافة الساقية، بحثت عن الحجارة التي توزع حصص الماء على البساتين. وصادفت الجوز المعتد بجسمه الفارع، والحور الفضي، والدخان الذي يتعرج في هدوء. سمعت شحرورا يغرد، وملأت هي فترات صمته بالصفير. كانت الساقية فارغة من الماء، كان الجوز مريضا، اقتلعت أكثر البساتين، كان يصعب أن تجد دربا تمشي وحدها فيه. لكن لابأس! تناولت حبات العمر من الأرض، فحصتها في كفها، ثم نثرتها في الأرض المفلوحة. كم كانت تلك السنوات جميلة! كم كانت تلك البلاد جميلة! وكم كنا شبابا يومذاك!
لماذا إذن حكم علينا بأن نعبر الثلج والمطر والريح، منفيين لارحالة إلى الحضارات الغريبة؟ لماذا.. في ذلك العمر؟! نظرت إلى رسالته على طاولتها. وكان الثلج يملأ النافذة. وهي تتساءل كيف عرف عنوانها. سألتها رفيقتها التي قرأت أول سطر في الرسالة: سنجابي؟ من يسميك سنجابا؟! ردت: هس! الرسالة ليست لي! اكتشفت فائدة التسمية التي تموّه الاسم! موّهته؟ نظرت إليها رفيقتها: صرت تفتحين رسائل أصدقائك السناجب؟ أم تستعيرينها مصادر للبحث الجامعي؟! نظرت إلى رفيقتها. "آه لاتعرفين كيف يكون الإنسان مهملا وحيدا وهو محبوب، فقيرا معدما وهو غني!" تأملتها رفيقتها دهشة: صرت ماهرة في الهمهمة؟! أجابت: ماهرة في خنق الشوق!
لمس في جيبه الورقة. كان فمها مرسوما عليها. كانا يطلان على البحر. عشية فراق جديد يركب فيه كل منهما طائرة في اتجاه. بجواز سفر ملفق أو دون جواز سفر. هاهي بيروت التي كانت في نهاية السكة، بيروت التي بدت في عين الخضراء مدينة خارج الخرائط! تتكئ على بحر أزرق وهما يطلان معها على الروشة والبحر! في برهة كان يمكن أن يساقا وتقفل عليهما جدران السجن. وتمر شهور لايعرفان فيها اليوم من الآخر والليل من النهار. ويعلن أن شخصين خطرين سقطا في الفخ، وتعلق أوسمة على الصياد. كان البحر مدهشا بزرقته في ذلك اليوم. كان نيليا في مكان، فيروزيا في مكان، وكانت هي تشهق كلما هرعت إلى الشاطئ موجة فستقية مكللة بالزبد الأبيض. بعد الطعام مسحت شفتيها بورقة ووضعتها في الصحن. تناول تلك الورقة وهي مشغولة بلون قلب الموجة! وبحث فيما بعد طويلا بين الأقمشة عن ذلك اللون.
بعد عشرين سنة أم أكثر، قال لها إنه التقط تلك الورقة وخبأها في جيبه؟ أم تراه التقط ورقة مثلها، في لقاء آخر؟ تغديا في بيت أصحابهما في الجبل. وكانت فيروز تغني. لم يحمل معه إلا أغنياتها! كان رحالة يسافر في الليل، كلما هبت عاصفة على بلد يقيم فيه تمزقت خيمته! يستدعونه ويطلبون أن يجيب على "بعض" الأسئلة. وكأنهم يكتشفونه يومذاك فقط! فيفهم أنه يجب أن يرحل. تصل إليه رسائل تحذره. ويتساءل وهو يعبر الحدود خلسة في الليل، ماشيا خلف الدليل: هل كانت هذه البلاد كلها حقا بلدا واحدا؟! وهل يعيش البدو فقط في الخيام؟! في تلك المرة، في ذلك البلد، سألوه عنها. فارتعش. ينشد حبها أمام أصحابه، لكن هذا المكان ليس لذلك النشيد! قلّب الرجل الجالس خلف الطاولة كتابا بين يديه: هذا خطها، وهذا الكتاب مهدى إليك منها! كيف فكوا توقيعها، كيف عرفوا خطها؟ ارتعش من الخوف عليها.
يوم التقيا بعد أشهر كاد يلمسها متفقدا. نجت! اخترقا الكابوس إذن! لكن الدماء تسيل على أرض الشوارع. أضيف حنين جديد إلى بلد آخر غير فلسطين! حنينها! وهو المهاجر مرة ثالثة، في أية اتجاهات يوزع حنينه؟ سننتظر حتى يصحو العرب كي يعود كل منا إلى مدينته! حتى ذلك اليوم، سأسأل عن الأيدي التي تتلف في السجون. سأسأل عن الليالي التي يبددها الأرق، عن الدم المسفوح والدمع! نظرت إليه. نجونا نحن من امتحان الكرامة! لكن أصحابنا هناك! فلاتحدثني عن الحب! هل تذكرهم؟ كنا معا في أول الربيع، وفي أول الربيع نتساءل في الصباح، هل نلبس الجاكيت أم نتركه. في الباص لم أنظر إلى الطريق. كنت من المشغولين بالأحاديث والألعاب. فلم أر المطر المنهمر إلا وقت وصلنا إلى الجبل. حمل كل منا زوادته وبحث مع مجموعته عن ثنية في الجبل تؤويه من المطر. فجأة رأيتك تتسلل إلينا. هل اتفقت مع ذلك الذي اشتريت معه خمرا من الدير، خبأتماه بجريدة؟ زوّرت قصيدة قيس، ودفعتني إلى مكان ليلى! لكن قيسا لم يكن يعرف شعر ليلى الطويل، ولم يعتب لأنها قصته! بعد المطر وجدنا أول زنبق في الربيع. غنينا، ودبكنا. ضحكنا. تدفق الفرح. أعرف أنك كنت تنظر إلي وأنا أنظر إلى الجبل! بحثت معنا عن الزنبق، وقلت: لايحتاج إلى بحث! أصحابنا في تلك الرحلة بقوا هناك! فلاتحدثني عن الحب!
كنت خبيرا بالغربة والتهجير. أنا كنت أجربهما أول مرة في أول العمر. في تلك الغرفة على الجبل، بين أصحاب جدد، رأيت شابة تنظر إليك في وله. وكنت أحبها. أمسكت بيدها ومشيت معها خارج البيت، بين الصخور. جمعنا الزعتر البري. وتأملتها وهي تغسله في عناية وتضعه على الطاولة التي ستتناول عليها طعامك. تعرف أنك تحبه! رويت لي في إحدى المدن، فيما بعد، أنها تسللت إلى غرفتك في الليل. كانت صبية نضرة وجميلة، أحبتك. لم أبح لك بأنها كتبت لي: "غدا أتزوج! أحببته، وأحببتك! أتركه لك!" كانت رسالتها مبقعة بالدمع. لكنها دموع شباب لاتهدده أحزان لايستطيع دفعها. شباب يستطيع أن يمشي في الطرقات التي مشى فيها أمس، ولايتلفت حذرا. وإذا اغترب يستطيع أن يرسل الرسائل إلى أهله وأصحابه مزهوا بالمدن التي يزورها. تتركك لي؟ ماأنضرها؟ طويت سرها. لم أبح به!
بعد الزعتر البري وصل مساء واهن ساحر. تركنا ذلك البيت على الجبل والصبية وفيروز فيه. كان الشارع مغريا. لايعرف الرغبة في المشي إلا من يحرم منه! بدأت العتمة تطوي ألوان المساء وترتبها في صندوق الليل. بعد خطوات تبينت أن المشي معك مستحيل! وجهك نحوي طول الطريق! في بلاد أخرى تبعد الشبهة عن الفارين أن يمشوا متعانقين. لكن الحب في هذا البلد يجذب الشك! استدرت وقلت لك يعود كل منا الى مأواه! قال: تهربين؟ وبدا الحزن فيه. ففتشت يده الأولى ثم يده الثانية. وقالت: لايوجد مصباح! هدأ ولان! تذكره بليلة هربها منه! انزلقت من المجموعة وعادت الى البيت. في تلك الأيام كانت تنام ملء عينيها. لماذا ارتعشت؟ غمر ضوء ساطع وجهها! ثم تبينته واقفا خلف النافذة يوجه ضوء الكشاف عليها! حدقت فيه فيما بعد متسائلة: كيف يستطيع أن يجمع العقل إلى الجنون؟! كان غضبها كالعاصفة يهب كلما جن. لكنها وهي تواكب البحيرة ماشية، وحيدة، غريبة، اعترفت لنفسها بأنه كان مبهرا بجنونه. ورغم البرد خلعت قفازيها من الدفء.
لم تتساءل مع من هو الآن؟ من التي تهواه اليوم؟ كانت في مساحة لايمكن أن يوجد فيها سواهما. وعندما كان العالم يبدو لها مقفرا وباردا وتبدو صغيرة ضائعة فيه، كانت تردد: هو في مكان ما! ولابد أن يظهر في البرهة الضرورية!
كانت إسرائيل موجودة في جميع تلك الأزمنة بينهما. كانت تبني مدنا، وتعلّم صغارها أن العرب همجيون وخطرون ومتخلفون، أرضهم لها وقتلهم حلال. وكان العرب يظنون أنهم أباطرة البلاد، وأن المصير لايجسر على تكرار سنة 1948. كان يشغل الزعماء السياسيين الشعب المشاغب، الأحزاب المنافسة، قدرة مخافر الحدود على مراقبة المسافرين، شطب الأسماء من قوائم طالبي العمل أو الموظفين، تنظيف الجيش والتعليم من العناصر الخطرة. وإياك أن تهمس هذا خطأ أو هذا صواب! في إحدى تلك السنوات حدث احتلال إسرائيلي جديد، فسمح العرب للمنفيين بالعودة إلى المدن التي لم تحتل بعد.
عاد. هاهو دون الأسرة التي اختارها ودون الأسرة التي ورثها! نفذ إذن ماكتبه لها في رسالة منذ عشر سنوات: "لن أموت قبل أن أرى الأعزاء علي!" لم يقبل جنسية غريبة! هكذا نحن، تسلبنا بلادنا الجنسية الموروثة، ونرفض الجنسية المهداة! فنعيش دون أوراق ثبوتية في عالم يرتبنا بلون المنشأ، ولون الاتجاه!
صحا الزعماء العرب بعد الهزائم؟ مرحبا! فقدوا من مزقوه، جميع المنفيين، والمبعدين، والمسجونين! فليحاربوا بالمدللين المنافقين! تطلب إسرائيل أن يسجدوا لها كما طلبوا منا أن نسجد لهم! كسبت الوقت الذي انشغلوا فيه عنها بنا! وكسبت ضعفنا وموتنا! مع ذلك لم يصحوا! ولن!
يوم عبرت البوابة إلى مملكة الصمت كانت الطرقات ماتزال مقطوعة بين مدينته ومدينتها. فجرّته إلى مطل على الشوارع التي كان يمكن أن يمشيا فيها، وقالت: لاتحزن! لن نستطيع أن نمشي هناك ولو سمح لنا بذلك! فالمدن التي عرفناها لم تعد موجودة! فقدنا مدينة المشاة! لن يهف الياسمين وزهر النارنج! لن تشعر بأنك ملك الأرصفة! لن ترى أسراب العصافير الدورية! لايوجد غراب يسرق الجبن، ولاأحد اليوم يعرف "الشوحة"! وفوق نافذتك لن تعشش الستيتية! لكننا في مملكة الصمت. هنا، نستطيع أن نمشي كما نشاء! تعال!
مشى معها تحت السرو، وعبرا أشخاصا بملابس بيضاء ناصعة. ثم توقف. لاتوجد أمكنة في مملكة الصمت تجمعهما! لانهر يجلسان على ضفته، ولاسكة قطار تمشي أمامه عليها وهو يتبعها! ولاصخور يخيل إليها أنه نزل من كهوفها! آه، كانت الحياة التي تفرقهما هي التي تجمعهما! خسراها ولن يكسبا هذه! من يستطيع أن يكسب الموت! أغمض عينيه. لو تعود تلك الأيام .. لو تعود المدن المفقودة! لو!
هل فقدناها؟ لا! بل فقدها من بعدنا! مساكين! في ذلك المساء عاد حاملا زجاجة عطر. صبها على يديها. فالتفتت عنه كيلا يرى بريق عينيها. أخرج صورتها القديمة من جيبه، وبكى! على أي شهيد أو قتيل تبكي؟ على المدن، على السنوات أم على نضارة الشباب المسفوك في الغربة! نظرت إليه: تركت هناك السلسلة الذهبية التي علقت لي فيها حجرا صافيا شفافا كالدمعة! خرجت من البيت مسرعة! لم أتناولها! لو بقيت برهة أخرى لما نجوت! أحاطت بيتي عشرات السيارات العسكرية! تبتسم؟ لماذا؟ خطرة على أمن الدولة! تسخر؟ لكن ذلك حدث حقا! يتكرر ذلك مرة في هذا البلد العربي ومرة في ذاك! من الحدود تجر فتيات إلى هذا الجانب أو إلى ذاك. إذا أردن الخروج منعن منه، وإذا أردن الدخول منعن! في هذه البرهة لست كذلك، لكني كنت، وقد أكون! أمر، لكن شخصا يحدق في أوراقي مرتابا: تمر؟! كيف تمر؟! لذلك تأملت في تأن جنة حواء، وخيل إلي أن مخافر الحدود بدأت من هناك!
أنت، قل لي، كيف نجوت بقلبك ولهفتك من تلك الأعاصير؟ في العالم الذي شيع فيه الحب وكفّن، ودفن، كيف استطعت أن تحمي الحب؟ أكان ذلك حب امرأة، أم حب زمن مزين بريش الطاووس والأجراس والخرز الأزرق! تكاد تسأله عن ذلك لكنها تصمت! لذلك جلست على الأرض. هزت الودع في كفها ورمته وبدأت تقرأه وتفحصه. منذ متى ياسنجابي تقرئين الودع؟ هل تقرئين الكف أيضا؟ راقبها مسحورا. وقال لنفسه: كانت تمارس السحر إذن، لذلك جرتني وراءها ثلث قرن! قالت له: وقت كان الزمن الخاطف يبدو طويلا في الغربة، كانت رفيقاتي يشربن القهوة لينقبن في خطوط الفنجان باحثات عن القدر. فكنت أفتح الباب وأخرج فتبدو الدنيا واسعة حتى في الثلج والسماء عالية حتى في الشتاء. لكن تعال الآن لنتبع الصدف إلى البحر! ابتسم: فلنتبعه! وسارا على طرقات من ماء وهواء في مملكة الصمت.
ورأته طفلا يرفع يديه كأنهما تستطيعان حماية رأسه من القصف. قيل: الأمان في الملجأ فقط. فأين الملجأ! والبلاد غفت في وهمها، والملوك يقتفون أثر المشاغبين! مرت الطائرات فوق رأسه، وهرب منها. اندفع مع الناس. ظن مثلهم أن العراء هو المكان الآمن. لكن الأمان كان هربا فقط في اتجاه تقودهم إليه الطائرات!
"عندي كان غير ذلك! ظنت أمي أن أطباق النحاس تحمي من القنابل والرصاص، فوضعتها بيني وبين الجدار. قدرت أن الطائرات والمدافع من جهة ذلك الجدار! لكن القنبلة سقطت من أعلى فوق بيت الجيران!"
في أول نشيد كتبه أطلق الغضب المغلول خلال البحث عن ملجأ من الطائرات، والطفل يهرب من أرضه ومدينته ومن كل ماأحبه. كتب ذلك النشيد لنفسه وهو يجرب اللغة التي تعلمها في المدرسة. لم يكن في المدرسة غير تلك القصيدة، فدفعوه ليقرأها عندما زار زعيم البلد المدرسة في عيد من الأعياد الوطنية. فاستمتع بيده الناعمة السمينة، المرصعة بخاتم، يد امتدت الى ذقنه ورفعت وجهه: شاطر! موهوب! سيكون شاعرا عظيما، فاعتنوا به!
كانت يومذاك بين صفوف تلاميذ المدرسة الذين وضعوا في استقبال ملك بلدها! أوقفت في الصف الأول لأنها بيضاء، على رأسها شريطة بيضاء، وفي قدميها جوربان أبيضان قصيران. مر الملك بين صفوف التلاميذ. يومذاك أيضا كان يقدم أصحاب الملابس المرتبة المكوية والوجوه الجميلة، أو الأولاد المحظوظون بأهل مهمين. توقف ملك البلد قربها ونظر إليها نظرة طويلة فالتفتت إليه المعلمة: سنعنى بها، ياملك الزمان!
هكذا رصدت لكل منهما عناية خاصة. بدأت بأوراق مزخرفة اسمها مرحى، وبسجل الشرف المذهب المعلق على الحائط، وانتهت بسجلات في المرافئ والحدود!
في أيام المرحى وسجل الشرف المذهّب كان زمن تلك المدن دون نهاية. شمس وماء! لاجوع ولابذخ. في الشوارع سيارات قليلة، أكثرها باصات. في الشوارع مشاة، والمقاهي رخيصة، ظليلة، والبساتين على بعد خطوات: في نهاية الطريق، على كتف المدرسة، خلف البيت، في سفح الجبل، حول بيت الأصحاب. والسواقي تقطع الطرقات، وحيث يتجمع الماء بط ووز، وفي السماء شحارير وأسراب من الدوري والغربان.
هل قطعت كل ذلك دبابة وقفت على زاوية الطريق ذات فجر؟ "كنت ذاهبة إلى المدرسة. ففاجأتني دبابة. في التقاطع رأيت دبابة أخرى. المدرسة مغلقة. والمديرة مضطربة تقول للتلاميذ: عودوا إلى بيوتكم في هدوء! كنت صغيرة. فتفرجت على ذلك في فضول. لي لم يكن ذلك يعني السجون وسجلات الحدود."
قال لها: "كانت الهجرات بحثا عن العشب، أو الدفء. أصبحت بحثا عن الحرية." كم هجرة أو تهجيرا رأى في عمره؟ التهجير من اسكندرون. من فلسطين. من القدس. من الجنوب. من الجولان، من المدن المحتلة. من الأنظمة الظالمة. هربا من السجون. من التعذيب. إلى الخليج ومن الخليج! وإلى بلاد الأرض بحثا عن الملجأ والعمل!
يومذاك لم تنزل الدبابات إلى الشارع. نزل البصّاصون. الشارع خطر، والبيت خطر. لامأوى ولاأمان! مداهمات واعتقالات. موت "تحت التعذيب". نزع الجنسية. والصحف تعد الانتصارات والإنجازات والتقدم والرخاء. شوارع، أبنية، جسور، أنفاق، بوابات عالية، نفاق، تصفيق، شعارات، زينات، احتفالات، طبول، صفوف من الأطفال والتلاميذ والشباب والكهول على حافة الطرقات، في المداخل، على السلالم، في القاعات، لهز الأعلام والورود والهتافات.
"العدو على طول الحدود؟ فليكن! يجب أن أسوي مسألة الداخل أولا!" ممن؟ من المشاغبين! بعد سنوات طويلة، انطلقت العصابات في الطرقات. رددت هي أيضا: "يجب أن نصفي مسألة الداخل أولا!" كيف اتفق النقيضان؟ كيف؟ أوقفوه: أنت مع من؟ لم يتذكروا أن اسمه كان في سجل الشرف..
لماذا تصر على تعريف ذلك الزمان؟ دعه! فليكن زمن الصغائر! فليكن زمن جني ثمار الشوك! يجنيها من لم يزرعها؟ نحن؟ دع الزمن! سأدعه! وأنا أشكره! لأني أخذت ظلامه الواضح، ولم تلحقني فوضاه إلا في الهزيع الأخير! اسكت! لاهزيع أخير بعد!
تمسك بيده وتمشي في مدن الأمس، في شوارع الأمس، تعبر أنهار الأمس، ويجلسان على الضفة تحت الأشجار. شوشك يومذاك صوت الماء! كان هو الملك الثرثار. تركناه حيث يقفز على الجذوع ويلعب بالضفاف، ويتحدث بصوت عال، وقصدنا النبع. ماء صاف شفاف، فوق صخور مرقشة بالسواد، يرتعش دون صوت. وفوقنا صخرة كبيرة جميلة، ونحن فوق ذرى الشجر. وذرى الصخور تمسك بالأفق. عدنا إلى الطفولة التي كنا نرغب فيها التسلق لنرى ماحولنا من مرتفع. من فوق رأينا أصحابنا جالسين حول طاولة من الخشب على كراس من القش. وكان هو بينهم. يوم انطلق البصاصون إلى الشوارع، وهجعوا في الزوايا، فاجأوه وخطفوه. أعرف أنك بكيت عليه! أعرف أنك لم تنامي في تلك الليالي، لأني لم أنم. "في أيامنا يغبطون المحظوظ بالموت في فراشه!" "وهل مات هو على صهوة الخيل؟ قتل مقيدا معذبا في السجن!"
قالت له يوم صادفها في إحدى المدن: صادفت صورة من صوري بين جمع. كانت مصائرهم كلهم محزنة! ماتوا شبابا. بعضهم قتل في السجن، بعضهم اغتيل، بعضهم استشهد، وبعضهم طقّ من الغم! لعلني الوحيدة التي تعيش حتى اليوم!
أكانت تلك الصورة هي التي التقطت لنا في رحلة، في معرض الكتب، في اللقاء العربي، في الاستقبال؟ كنت فيها خلفك! تسللت في نهاية الاحتفال. هربت مني. عرفت أنك تعودين مشيا. فسبقتك. مازال ظهري يحمل أثر تلك الليلة! تكورت على نفسي خلف باب البناء وانتظرتك. سمعت جارك يقول، كأنه شعر بي: من هناك؟ فردت عليه جارتك: قد تكون قطة! كورت نفسي كي تسعني زاوية تسع قطة! منذ تلك الليلة أشعر بألم في ظهري، وأحنو عليه لأنه يذكرني بك!
"ياللمجنون!" علق في إطار خلف مكتبه ورقة كتبتها مرة له! كانت صارمة في توازنها. لذلك كان يرعبها جنونه! يكاد يسألها في أي عمر تعلمت أن تكبحي التعبير عن الحب وتخنقي الشوق؟ ألا تدركين حقا ماذا خسرت؟ تقول لنفسها: لاتعد الخسائر! ولكن هل منها عرض العواطف! يقول لها وهما يمشيان في مملكة الصمت: آه، ياسنجابي! لو تعرفين أن الإنسان يستمتع بحبه وهو يتحدث عنه وينشره على حبال الهواء والضوء وعلى باقات البنفسج! لذلك أنشد قيس هواه! تجيبه: هنا نختلف! يردد: نختلف؟! يضحك. نختلف وقد جرفتنا ريح عاصفة واحدة؟! ترد: ريح عاصفة لم توحد المدن ولم تجمع الناس! ومازلنا نحلم بأيام العثمانيين، أيام لم تكن بيننا حدود!
مشيا تحت السرو حتى المنعطف فوقف وسألها: تتزوجيني؟ ياللمجنون! لايعرف بعد أن ماحرما منه في الحياة لايستعاد! لايستعاد شيء أبدا في مملكة الصمت! رفعت عينيها لتبتلعا الدموع، وعندئذ فهم أنه في سجن واسع، لامخرج منه.. وقرب شجرة السرو سقطت بعض الدموع