في الفترة الأخيرة، لم تكن أحوال مصطفى المسعد السعداوي تبشر بالخير.. والعارفون بالأمر يقولون: مصطفى المسعد السعداوي كان مسكونا بالهم حتى العظم.. المسكين خرج من الخمارة وهو لا يرى ولا يسمع.. في البداية جلس قرب حاوية القمامة الكبيرة، وأخذ يغني أغنية حزينة كادت تبكي القطط التي أوقفت البحث عن طعامها إلى حين .. بعدها، وقف مصطفى المسعد السعداوي بصعوبة، ثم مضى ساحباً جسده إلى الفندق الذي كان يعرف فيه من بنات الهوى الكثيرات... خطوات مشى.. ثم استدعى الجدار بإشارة آمرة من اصبعه، وأخذ يسير إلى جانبه سيراً غريباً مدهشاً، حيث وضع بطنه وصدره ويديه على الجدار، وأخذ يحرك قدميه بالعرض.. وقتها ظن، أن فندق" الشرفة" أصبح أبعد من ذي قبل بآلاف المرات.. وحين وصل لاهثاً ممزقاً مبعثراً، جلس على الرصيف، أمام الفندق تماماً، محاولاً أن يلتقط شيئاً من أنفاسه الهاربة.. عندما مدّ، أو حاول أن يمدّ قامته مرة بعد مرة، وأبت أن تتجاوب مع محاولاته، زحف نحو الفندق معلنا استسلامه الأخير أمام قامته اللعينة.. ولأنه دخل الفندق على هذه الحال المزرية، فقد لفت الأنظار وأرسل القهقهات، قهقهات النزلاء طبعاً... ثم حين ألقى خطبة عصماء لا بداية لها ولا نهاية، عن إفلاسه بعد أن ضيع آخر قرش كان معه في خمارة" السعادة" رمي رمياً خارج الفندق... العارفون بالأمر قالوا: على الرصيف الذي تلقفه مثل الأم الرؤوم، أخذ مصطفى المسعد السعداوي يبكي، بعدها - هكذا دون مقدّمات - انفجر في ضحك ملعون لم يتوقف.. كان يضحك ويضحك.. يقف.. يتمايل مثل شرّابة الخرج ثم يضحك.. يقع على الأرض ثم يرفع نصف قامته، ويضحك.. ثم لا أحد يعرف ماذا حدث... *** نشر الخبر في سطرين.. واحدة من الصحف التي تهتم بالفضائح نشرته.. لكن مالف الموضوع من غياب تام في المعلومات، جعل الخبر منزوياً لا يؤبه له ..كل ما جاء في الخبر يقول: على الرصيف الواقع قرب أحد الفنادق المشبوهة في المدينة، وجدت جثة رجل مجهول الهوية... يظن أن في الأمر جريمة" بعدها وعدت الصحيفة قراءها أن تنشر كل جديد يمكن التوصل إليه... ولاشيء آخر... *** المعلومات المتوفرة لدى الضابط المناوب في المخفر اعتبرت سرية للغاية، وقد أوصى الرقيب وشدد على ضرورة حفظ السر، لاحاجة لتسريب أي خبر.. وكان الرقيب أحمد الرعشان يقرأ باستغراب ودهشة بعد ذهاب الضابط المناوب إلى بيته لينام هناك؟؟ كان المسكين الرعشان يحاول أن يجد معلومة واحدة مفيدة يمكن أن تشكل سراً.. ولأنه كان معروفاً بالغباء من قبل عناصر المخفر، والمخافر الأخرى في المدينة، وبشكل جعله يقتنع ويسلم بأنه غبي، فقد قام إلى المغسلة الوحيدة في المخفر وفتح الصنبور، ووضع رأسه الكبير تحت الماء المندلق ليغسل الغباء، أو ليصحو على أقل تقدير، لعله يفهم شيئاً من المكتوب في السطور، أو خلفها كما يقولون... بعدها، عاد الرقيب أحمد الرعشان وأخذ يقرأ تاركاً للماء حرية الانزلاق بهدوء فوق الصفحة.. وكل ما فهمه، وهو ما كان مكتوباً على كل حال، إن الجثة وجدت على الرصيف قريباً من فندق" الشرفة" وإن معاينة الجثة لم تصل إلى تحديد سبب الوفاة، وإن صاحب الجثة غير معروف الهوية. وقد قام أحد عناصر المخفر، وهو الشرطي نايف أسعد الشمندوري، بتفتيش جيوب المتوفى، ولم يجد أي شيء... وقد نقلت الجثة، لتحفظ في براد من برادات أحد المشافي، إلى حين الوصول إلى معرفة هوية المتوفى، ومكان إقامته، لإبلاغ أهله.. وقام الرقيب أحمد الرعشان مرة أخرى، بالذهاب إلى الصنبور، ووضع رأسه تحت الماء المندلق.. *** حين هبط الليل، أو حسب رأي أم عدنان صاحبة البيت: عندما بدأ الناس يستريحون من ضجيج الأولاد العفاريت.. كان الشعور الذي سيطر عليها غريباً، إذ ما تعودت أن يغيب مصطفى المسعد السعداوي كل هذا الوقت.. الرجل كما تعرف، مقطوع من شجرة، وليس له أحد في هذه الدنيا . وهو مثلها تماماً، لا يخالط أحداً، ولا يخالطه أحد... أم عدنان هذه، وهي في الخمسين من عمرها كما تدعي، كانت تسرّ إلى حد كبير، حين تكتشف أن مصطفى المسعد السعداوي كان يراقب كل حركاتها وسكناتها من ثقب الباب في غرفته... وكانت تتقصد، ربما دون سوء نية، القيام بحركات تجعله يشتعل وراء بابه المغلق.. وكانت في سرها تضحك، وتشفق على هذا المسكين الذي يعيش - مثلها تماماً - في وحدة قاتلة.. أم عدنان التي شغلها غياب مصطفى المسعد السعداوي، فكرت أن تذهب إلى المخفر، كانت قد خططت ورسمت في ذهنها أن تقول: ان مصطفى المسعد السعداوي الذي أستأجر غرفة في بيتها منذ خمس سنوات، إلى جانب مستأجرين آخرين في الغرف الأخرى طبعاً، كان يدفع الأجرة الشهرية بانتظام، لكنه في المدة الأخيرة، لم يعد كما كان، حيث أخذت أحواله المادية تتغير.. هذا التغير ظهر جلياً واضحاً في أمور كثيرة... من هذه الأمور، على سبيل المثال لا الحصر، أن مصطفى المسعد السعداوي، لم يعد يحمل لها أكياس الفاكهة كما كان يفعل من قبل.. كما أنه لم يعد يدفع الأجرة بانتظام.. ولأن أحواله المادية قد أثرت على تصرفاته، فقد بدا شاردا واجماً غريباً ... كان يأتي ويذهب ورأسه في الأرض... أحياناً كانت تلمح بعض الدموع في عينيه.. وللحقيقة فقد ساءها أنه لم يعد ينظر إلى حركاتها وسكناتها من خلف الباب- هذا الشيء طبعاً لن تذكره في المخفر -. الشيء الوحيد الذي بقي على حاله ولم يتغير، هو حضوره عند الساعة الثانية بعد الظهر تماماً، كأنه ساعة لا تقدم ولا تؤخر.. "هذا شيء مقدس" تقول أم عدنان....صحيح أنه يخرج كثيراً إلى أماكن لم تكن تعرفها، ليعود مخموراً - هنا تذكرت، أنه حاول الاعتداء عليها عدة مرات وأنها كانت تصده متمنية أن يتمادى لكنه كان يتركها وهو يصفر لحناً لا بداية له ولا نهاية - لكن عودته عند الثانية بعد الظهر لم تتغير ولم تتبدل.. هذا ما فكرت أم عدنان أن تقوله في المخفر، لكنها بعد أخذ ورد، وطول تفكير، آثرت السلامة وبقيت في البيت تنتظر عودة مصطفى المسعد السعداوي، متمنية من كل قلبها أن يقتحم غرفتها ضاحكاً هازئاً من كل أفكارها السوداء... *** وحدها سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم، كانت مصرة على التواصل مع زمن مضى وانقضى.. سنوات لا تعد ولا تحصى مرت وهي تنتظر، أهل القرية أصروا على أنها مجنونة، إذ لا أحد يمكن أن يصدق أنها ما تزال منتظرة عودة مصطفى المسعد السعداوي بعد كل هذه السنوات.. ومن هو مصطفى المسعد السعداوي هذا حتى تنتظره.. الكل يعرفون أنّ مصطفى المسعد السعداوي الرجل القصير البدين الأجرب الذي باع أرضه ومضى تاركاً كل شيء بعد موت والدته، لا يساوي شيئاً بين الرجال . صحيح أن مصطفى المسعد السعداوي كان يحب سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم، وصحيح أيضاً أنه وعدها وعداً قاطعاً بالزواج بعد عودته من المدينة سالماً غانماً... لكن هذا لا يعني أن تنتظر كل هذه السنوات.. فهذا أمر يخرج عن المنطق، لذلك فقد كان الظن قوياً، بأن مصطفى المسعد السعداوي، لم يغادر القرية، إلا بعد أن فعل فعلته مع البنت سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم.. لذلك فهي تنتظر.. وماذا عليها أن تفعل غير ذلك.. مثل هذا الأمر شاع مدة في القرية، وشاع غيره، لكن شيئاً فشيئاً، نسي أهل القرية مصطفى المسعد السعداوي، وبقيت قصة سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم تحكى هكذا دون تحديد، وكأنها واحدة من حكايات الجدات في الليالي الجميلة.. وكانت سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم تنتظر، وتقسم أن مصطفى المسعد السعداوي لابد أن يعود... *** روى صاحب خمارة" السعادة" أبو جورج المشتاوي هامساً هادئاً عن غياب مصطفى المسعد السعداوي الكثير، ومما قاله بكثير من الحزن والأسى أن غياب مصطفى المسعد السعداوي يشغل القلب والبال. فالرجل كان في آخر ليلة، غريباً إلى حد بعيد، حتى أنه أخذ يغني ويرقص، ويبكي ويضحك بشكل جعل كل السكارى في حيرة من أمرهم... وحين حاول أحدهم أن يقنعه بالجلوس ثار وهاج وماج، وأخذ يبكي بحرقة.. وقتها - قال أبو جورج المشتاوي - حدث مصطفى المسعد السعداوي كل المتواجدين في الخمارة، عن قرية بعيدة مازالت تسكن في الخاطر، وعن بنت اسمها سلمى... بنت تشبه القمر في تمامه.. كما تحدث مطولاً عن عمله الذي طرد منه دون وجه حق بعد أن بقي خادماً مطيعاً لصاحب الشركة - مثل الخاتم في الاصبع - سنوات وسنوات.. لكن صاحب شركة الاستيراد والتصدير، وهو رجل حقير سافل منحط، كما روى مصطفى المسعد السعداوي، استغنى عن خدماته وطرده دون أسباب تدعو إلى ذلك.. وعلى الأرجح، هذا ما أوضحه مصطفى المسعد السعداوي، أن صاحب الشركة قامت قيامته، حين رآه السعداوي يمد يده إلى المناطق المحرمة عند السكرتيرة التي انسحبت غاضبة بعد أن حاصرتها نظرات السعداوي.. لذلك كان لا بد من الاستغناء عن خدماته، والاحتفاظ بغنج السكرتيرة ودلالها.. يومها - تابع أبو جورج المشتاوي هامساً - تعاطف رواد" السعادة" مع طيب الذكر مصطفى المسعد السعداوي وتحلقوا حوله وأخذوا يخففون عنه، ووصل الأمر بواحد منهم إلى حد إخراج رزمة من النقود وضعها تحت تصرف السعداوي الذي رفض أخذها باباء يحسد عليه، وهذا ما جعله يكبر كثيراً في عيون الرفاق السكارى .. وروى أبو جورج المشتاوي - بصوت مرتفع هذه المرة - أن الأيام جعلت مصطفى المسعد السعداوي مسكوناً بالحزن والهم.. لذلك لعن أبو جورج المشتاوي - صاحب خمارة " السعادة " - هذه الأيام.. وتمنى أن يكون مصطفى المسعد السعداوي بخير.. وطلب من رواد" السعادة" أن يسألوا عن صاحبهم الغائب وأن يستفسروا عن أحواله في كل مكان... . وختم أبو جورج حديثه بشرب نخب مصطفى المسعد السعداوي، وهو ماشارك فيه كل السكارى... *** بواب فندق" الشرفة" أبو الرشيد، وهو في السبعين من العمر، قال محدثاً واحداً من النزلاء: ان مصطفى المسعد السعداوي كان عاشقاً لواحدة من بنات الهوى في الفندق اسمها لبنى.. لكن مدير الفندق لم يعجبه مصطفى المسعد السعداوي في شيء، وكان يكره الأرض التي يمشي عليها، لأنه - كما كان يقول - كريه، ثقيل الظل، تشم رائحة عرقه المقرفة من بعيد.. وادعى صاحب الفندق أن لبنى أخبرته بذلك.. كما أخبرته، أنها كانت تحاول التملص والتخلص منه في كل مرة يأتي فيها إلى الفندق لكنها كانت ترضخ أمام إلحاحه وإصراره على مقابلتها، والمهم أنه كان يدفع أكثر من الآخرين.. ومن ادعاءات مدير الفندق، كما روى البواب أبو رشيد، أن السعداوي كان لصاً لا يجد غير السرقة مهنة يمتهنها... وإلا كيف كان له أن يصرف كل هذه النقود على لبنى... البواب أبو الرشيد قال ان مصطفى المسعد السعداوي كان رجلاً حقيقياً، وإنساناً ذا قلب من ذهب. وفي إحدى المرات- قال أبو الرشيد- عندما وجدني مصطفى المسعد السعداوي حزيناً مهموماً، سألني بلطف حتى بحت له بكل ما في قلبي من هم، عندها ناولني كل ما كان في جيبه وطلب مني أن أشتري الدواء لحفيدي المريض.. يومها -أقسم على ذلك -رأيت الدموع في عينيه. ولأنه أعطاني كل شيء، فقد انصرف دون أن يقابل محبوبته لبنى.. ذهب وهو يصفر ويهز رأسه.. في المرة الأخيرة -قال أبو الرشيد- ألقوه مثل الكلب خارج الفندق.. مسكين كم كان منظره محزناً يومها.. تمنيت أن أمنعهم، لكن ماذا باستطاعتي أن أفعل.. كلمة واحدة مني ستجعل مدير الفندق يقطع رزقي ويطردني من عملي، عندها ماذا سأفعل بابنتي وأولادها.. مات زوجها وتركها لي، الله يرحمه.. وتنهد أبوالرشيد ظاناً أن الرجل، الذي أخذ يشخر منذ فترة، كان يسمعه.. *** صاحب شركة "النهار" للاستيراد والتصدير تحدث في اجتماع ضم رؤساء الأقسام وسكرتيرته التي تشبه قطعة الزبدة، عن مصطفى المسعد السعداوي الذي سرح من عمله، قال: الرجل لا عيب فيه يشهد الله، لكنه في الفترة الأخيرة أصبح كثير النسيان والشرود، وكما تعلمون، عملنا لا يحتمل النسيان والشرود.. وتحدث مطولاً عن تقديره واحترامه لمصطفى المسعد السعداوي، لكن التقدير شيء، والعمل شيء آخر تماماً.. وقبل أن ينتقل صاحب شركة " النهار" لمناقشة الموضوعات التي تهم الشركة، قال ان التعويض الكبير الذي صرفه لمصطفى المسعد السعداوي يمكن أن يساعده في فتح مشروع لابأس به. وقال انه نصح السعداوي أن يبحث عن" كشك" في مكان ما ليستأجره ويبيع بعض الأشياء البسيطة... وقد وعده مصطفى المسعد السعداوي أن يفعل.. لكن الرجل غاب منذ فترة وماعدنا نعرف عنه أي شيء.. أرجو أن يكون قد وفق في حياته الجديدة.. بعدها انتقل صاحب شركة" النهار" لمناقشة الموضوعات التي تخص الاستيراد والتصدير..
في الفترة الأخيرة، لم تكن أحوال مصطفى المسعد السعداوي تبشر بالخير.. والعارفون بالأمر يقولون: مصطفى المسعد السعداوي كان مسكونا بالهم حتى العظم.. المسكين خرج من الخمارة وهو لا يرى ولا يسمع.. في البداية جلس قرب حاوية القمامة الكبيرة، وأخذ يغني أغنية حزينة كادت تبكي القطط التي أوقفت البحث عن طعامها إلى حين ..
بعدها، وقف مصطفى المسعد السعداوي بصعوبة، ثم مضى ساحباً جسده إلى الفندق الذي كان يعرف فيه من بنات الهوى الكثيرات... خطوات مشى.. ثم استدعى الجدار بإشارة آمرة من اصبعه، وأخذ يسير إلى جانبه سيراً غريباً مدهشاً، حيث وضع بطنه وصدره ويديه على الجدار، وأخذ يحرك قدميه بالعرض.. وقتها ظن، أن فندق" الشرفة" أصبح أبعد من ذي قبل بآلاف المرات.. وحين وصل لاهثاً ممزقاً مبعثراً، جلس على الرصيف، أمام الفندق تماماً، محاولاً أن يلتقط شيئاً من أنفاسه الهاربة..
عندما مدّ، أو حاول أن يمدّ قامته مرة بعد مرة، وأبت أن تتجاوب مع محاولاته، زحف نحو الفندق معلنا استسلامه الأخير أمام قامته اللعينة.. ولأنه دخل الفندق على هذه الحال المزرية، فقد لفت الأنظار وأرسل القهقهات، قهقهات النزلاء طبعاً... ثم حين ألقى خطبة عصماء لا بداية لها ولا نهاية، عن إفلاسه بعد أن ضيع آخر قرش كان معه في خمارة" السعادة" رمي رمياً خارج الفندق...
العارفون بالأمر قالوا: على الرصيف الذي تلقفه مثل الأم الرؤوم، أخذ مصطفى المسعد السعداوي يبكي، بعدها - هكذا دون مقدّمات - انفجر في ضحك ملعون لم يتوقف.. كان يضحك ويضحك.. يقف.. يتمايل مثل شرّابة الخرج ثم يضحك.. يقع على الأرض ثم يرفع نصف قامته، ويضحك.. ثم لا أحد يعرف ماذا حدث...
***
نشر الخبر في سطرين.. واحدة من الصحف التي تهتم بالفضائح نشرته.. لكن مالف الموضوع من غياب تام في المعلومات، جعل الخبر منزوياً لا يؤبه له ..كل ما جاء في الخبر يقول: على الرصيف الواقع قرب أحد الفنادق المشبوهة في المدينة، وجدت جثة رجل مجهول الهوية... يظن أن في الأمر جريمة" بعدها وعدت الصحيفة قراءها أن تنشر كل جديد يمكن التوصل إليه... ولاشيء آخر...
المعلومات المتوفرة لدى الضابط المناوب في المخفر اعتبرت سرية للغاية، وقد أوصى الرقيب وشدد على ضرورة حفظ السر، لاحاجة لتسريب أي خبر.. وكان الرقيب أحمد الرعشان يقرأ باستغراب ودهشة بعد ذهاب الضابط المناوب إلى بيته لينام هناك؟؟
كان المسكين الرعشان يحاول أن يجد معلومة واحدة مفيدة يمكن أن تشكل سراً.. ولأنه كان معروفاً بالغباء من قبل عناصر المخفر، والمخافر الأخرى في المدينة، وبشكل جعله يقتنع ويسلم بأنه غبي، فقد قام إلى المغسلة الوحيدة في المخفر وفتح الصنبور، ووضع رأسه الكبير تحت الماء المندلق ليغسل الغباء، أو ليصحو على أقل تقدير، لعله يفهم شيئاً من المكتوب في السطور، أو خلفها كما يقولون...
بعدها، عاد الرقيب أحمد الرعشان وأخذ يقرأ تاركاً للماء حرية الانزلاق بهدوء فوق الصفحة.. وكل ما فهمه، وهو ما كان مكتوباً على كل حال، إن الجثة وجدت على الرصيف قريباً من فندق" الشرفة" وإن معاينة الجثة لم تصل إلى تحديد سبب الوفاة، وإن صاحب الجثة غير معروف الهوية. وقد قام أحد عناصر المخفر، وهو الشرطي نايف أسعد الشمندوري، بتفتيش جيوب المتوفى، ولم يجد أي شيء... وقد نقلت الجثة، لتحفظ في براد من برادات أحد المشافي، إلى حين الوصول إلى معرفة هوية المتوفى، ومكان إقامته، لإبلاغ أهله.. وقام الرقيب أحمد الرعشان مرة أخرى، بالذهاب إلى الصنبور، ووضع رأسه تحت الماء المندلق..
حين هبط الليل، أو حسب رأي أم عدنان صاحبة البيت: عندما بدأ الناس يستريحون من ضجيج الأولاد العفاريت.. كان الشعور الذي سيطر عليها غريباً، إذ ما تعودت أن يغيب مصطفى المسعد السعداوي كل هذا الوقت.. الرجل كما تعرف، مقطوع من شجرة، وليس له أحد في هذه الدنيا . وهو مثلها تماماً، لا يخالط أحداً، ولا يخالطه أحد... أم عدنان هذه، وهي في الخمسين من عمرها كما تدعي، كانت تسرّ إلى حد كبير، حين تكتشف أن مصطفى المسعد السعداوي كان يراقب كل حركاتها وسكناتها من ثقب الباب في غرفته... وكانت تتقصد، ربما دون سوء نية، القيام بحركات تجعله يشتعل وراء بابه المغلق.. وكانت في سرها تضحك، وتشفق على هذا المسكين الذي يعيش - مثلها تماماً - في وحدة قاتلة..
أم عدنان التي شغلها غياب مصطفى المسعد السعداوي، فكرت أن تذهب إلى المخفر، كانت قد خططت ورسمت في ذهنها أن تقول: ان مصطفى المسعد السعداوي الذي أستأجر غرفة في بيتها منذ خمس سنوات، إلى جانب مستأجرين آخرين في الغرف الأخرى طبعاً، كان يدفع الأجرة الشهرية بانتظام، لكنه في المدة الأخيرة، لم يعد كما كان، حيث أخذت أحواله المادية تتغير.. هذا التغير ظهر جلياً واضحاً في أمور كثيرة...
من هذه الأمور، على سبيل المثال لا الحصر، أن مصطفى المسعد السعداوي، لم يعد يحمل لها أكياس الفاكهة كما كان يفعل من قبل.. كما أنه لم يعد يدفع الأجرة بانتظام.. ولأن أحواله المادية قد أثرت على تصرفاته، فقد بدا شاردا واجماً غريباً ... كان يأتي ويذهب ورأسه في الأرض... أحياناً كانت تلمح بعض الدموع في عينيه.. وللحقيقة فقد ساءها أنه لم يعد ينظر إلى حركاتها وسكناتها من خلف الباب- هذا الشيء طبعاً لن تذكره في المخفر -.
الشيء الوحيد الذي بقي على حاله ولم يتغير، هو حضوره عند الساعة الثانية بعد الظهر تماماً، كأنه ساعة لا تقدم ولا تؤخر.. "هذا شيء مقدس" تقول أم عدنان....صحيح أنه يخرج كثيراً إلى أماكن لم تكن تعرفها، ليعود مخموراً - هنا تذكرت، أنه حاول الاعتداء عليها عدة مرات وأنها كانت تصده متمنية أن يتمادى لكنه كان يتركها وهو يصفر لحناً لا بداية له ولا نهاية - لكن عودته عند الثانية بعد الظهر لم تتغير ولم تتبدل.. هذا ما فكرت أم عدنان أن تقوله في المخفر، لكنها بعد أخذ ورد، وطول تفكير، آثرت السلامة وبقيت في البيت تنتظر عودة مصطفى المسعد السعداوي، متمنية من كل قلبها أن يقتحم غرفتها ضاحكاً هازئاً من كل أفكارها السوداء...
وحدها سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم، كانت مصرة على التواصل مع زمن مضى وانقضى.. سنوات لا تعد ولا تحصى مرت وهي تنتظر، أهل القرية أصروا على أنها مجنونة، إذ لا أحد يمكن أن يصدق أنها ما تزال منتظرة عودة مصطفى المسعد السعداوي بعد كل هذه السنوات.. ومن هو مصطفى المسعد السعداوي هذا حتى تنتظره.. الكل يعرفون أنّ مصطفى المسعد السعداوي الرجل القصير البدين الأجرب الذي باع أرضه ومضى تاركاً كل شيء بعد موت والدته، لا يساوي شيئاً بين الرجال .
صحيح أن مصطفى المسعد السعداوي كان يحب سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم، وصحيح أيضاً أنه وعدها وعداً قاطعاً بالزواج بعد عودته من المدينة سالماً غانماً...
لكن هذا لا يعني أن تنتظر كل هذه السنوات.. فهذا أمر يخرج عن المنطق، لذلك فقد كان الظن قوياً، بأن مصطفى المسعد السعداوي، لم يغادر القرية، إلا بعد أن فعل فعلته مع البنت سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم.. لذلك فهي تنتظر.. وماذا عليها أن تفعل غير ذلك.. مثل هذا الأمر شاع مدة في القرية، وشاع غيره، لكن شيئاً فشيئاً، نسي أهل القرية مصطفى المسعد السعداوي، وبقيت قصة سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم تحكى هكذا دون تحديد، وكأنها واحدة من حكايات الجدات في الليالي الجميلة.. وكانت سلمى بنت سطام التيناوي المعروف بالأشرم تنتظر، وتقسم أن مصطفى المسعد السعداوي لابد أن يعود...
روى صاحب خمارة" السعادة" أبو جورج المشتاوي هامساً هادئاً عن غياب مصطفى المسعد السعداوي الكثير، ومما قاله بكثير من الحزن والأسى أن غياب مصطفى المسعد السعداوي يشغل القلب والبال. فالرجل كان في آخر ليلة، غريباً إلى حد بعيد، حتى أنه أخذ يغني ويرقص، ويبكي ويضحك بشكل جعل كل السكارى في حيرة من أمرهم... وحين حاول أحدهم أن يقنعه بالجلوس ثار وهاج وماج، وأخذ يبكي بحرقة.. وقتها - قال أبو جورج المشتاوي - حدث مصطفى المسعد السعداوي كل المتواجدين في الخمارة، عن قرية بعيدة مازالت تسكن في الخاطر، وعن بنت اسمها سلمى... بنت تشبه القمر في تمامه.. كما تحدث مطولاً عن عمله الذي طرد منه دون وجه حق بعد أن بقي خادماً مطيعاً لصاحب الشركة - مثل الخاتم في الاصبع - سنوات وسنوات.. لكن صاحب شركة الاستيراد والتصدير، وهو رجل حقير سافل منحط، كما روى مصطفى المسعد السعداوي، استغنى عن خدماته وطرده دون أسباب تدعو إلى ذلك.. وعلى الأرجح، هذا ما أوضحه مصطفى المسعد السعداوي، أن صاحب الشركة قامت قيامته، حين رآه السعداوي يمد يده إلى المناطق المحرمة عند السكرتيرة التي انسحبت غاضبة بعد أن حاصرتها نظرات السعداوي.. لذلك كان لا بد من الاستغناء عن خدماته، والاحتفاظ بغنج السكرتيرة ودلالها..
يومها - تابع أبو جورج المشتاوي هامساً - تعاطف رواد" السعادة" مع طيب الذكر مصطفى المسعد السعداوي وتحلقوا حوله وأخذوا يخففون عنه، ووصل الأمر بواحد منهم إلى حد إخراج رزمة من النقود وضعها تحت تصرف السعداوي الذي رفض أخذها باباء يحسد عليه، وهذا ما جعله يكبر كثيراً في عيون الرفاق السكارى ..
وروى أبو جورج المشتاوي - بصوت مرتفع هذه المرة - أن الأيام جعلت مصطفى المسعد السعداوي مسكوناً بالحزن والهم.. لذلك لعن أبو جورج المشتاوي - صاحب خمارة " السعادة " - هذه الأيام.. وتمنى أن يكون مصطفى المسعد السعداوي بخير.. وطلب من رواد" السعادة" أن يسألوا عن صاحبهم الغائب وأن يستفسروا عن أحواله في كل مكان... . وختم أبو جورج حديثه بشرب نخب مصطفى المسعد السعداوي، وهو ماشارك فيه كل السكارى...
بواب فندق" الشرفة" أبو الرشيد، وهو في السبعين من العمر، قال محدثاً واحداً من النزلاء: ان مصطفى المسعد السعداوي كان عاشقاً لواحدة من بنات الهوى في الفندق اسمها لبنى.. لكن مدير الفندق لم يعجبه مصطفى المسعد السعداوي في شيء، وكان يكره الأرض التي يمشي عليها، لأنه - كما كان يقول - كريه، ثقيل الظل، تشم رائحة عرقه المقرفة من بعيد.. وادعى صاحب الفندق أن لبنى أخبرته بذلك.. كما أخبرته، أنها كانت تحاول التملص والتخلص منه في كل مرة يأتي فيها إلى الفندق لكنها كانت ترضخ أمام إلحاحه وإصراره على مقابلتها، والمهم أنه كان يدفع أكثر من الآخرين.. ومن ادعاءات مدير الفندق، كما روى البواب أبو رشيد، أن السعداوي كان لصاً لا يجد غير السرقة مهنة يمتهنها... وإلا كيف كان له أن يصرف كل هذه النقود على لبنى...
البواب أبو الرشيد قال ان مصطفى المسعد السعداوي كان رجلاً حقيقياً، وإنساناً ذا قلب من ذهب. وفي إحدى المرات- قال أبو الرشيد- عندما وجدني مصطفى المسعد السعداوي حزيناً مهموماً، سألني بلطف حتى بحت له بكل ما في قلبي من هم، عندها ناولني كل ما كان في جيبه وطلب مني أن أشتري الدواء لحفيدي المريض.. يومها -أقسم على ذلك -رأيت الدموع في عينيه. ولأنه أعطاني كل شيء، فقد انصرف دون أن يقابل محبوبته لبنى.. ذهب وهو يصفر ويهز رأسه.. في المرة الأخيرة -قال أبو الرشيد- ألقوه مثل الكلب خارج الفندق.. مسكين كم كان منظره محزناً يومها.. تمنيت أن أمنعهم، لكن ماذا باستطاعتي أن أفعل.. كلمة واحدة مني ستجعل مدير الفندق يقطع رزقي ويطردني من عملي، عندها ماذا سأفعل بابنتي وأولادها.. مات زوجها وتركها لي، الله يرحمه.. وتنهد أبوالرشيد ظاناً أن الرجل، الذي أخذ يشخر منذ فترة، كان يسمعه..
صاحب شركة "النهار" للاستيراد والتصدير تحدث في اجتماع ضم رؤساء الأقسام وسكرتيرته التي تشبه قطعة الزبدة، عن مصطفى المسعد السعداوي الذي سرح من عمله، قال: الرجل لا عيب فيه يشهد الله، لكنه في الفترة الأخيرة أصبح كثير النسيان والشرود، وكما تعلمون، عملنا لا يحتمل النسيان والشرود.. وتحدث مطولاً عن تقديره واحترامه لمصطفى المسعد السعداوي، لكن التقدير شيء، والعمل شيء آخر تماماً..
وقبل أن ينتقل صاحب شركة " النهار" لمناقشة الموضوعات التي تهم الشركة، قال ان التعويض الكبير الذي صرفه لمصطفى المسعد السعداوي يمكن أن يساعده في فتح مشروع لابأس به. وقال انه نصح السعداوي أن يبحث عن" كشك" في مكان ما ليستأجره ويبيع بعض الأشياء البسيطة... وقد وعده مصطفى المسعد السعداوي أن يفعل.. لكن الرجل غاب منذ فترة وماعدنا نعرف عنه أي شيء.. أرجو أن يكون قد وفق في حياته الجديدة.. بعدها انتقل صاحب شركة" النهار" لمناقشة الموضوعات التي تخص الاستيراد والتصدير..