نوم لزجٌ يعتصره، وفراش شوكيٌّ يدفعه للنهوض.
وجع متعدد الأشكال والأسباب، يتواقت، ويتناوب مع كل حركة من حركات جسده، أو أي عضوٍ فيه..
صخب الخارج لم يترك فضاء في الغرفة العتيقة قليلة الفضاءات، حتى لو لم تكن كل حاجات وأغراض رجل خمسيني وحيد منتصبةً أو معلقة أو ممدودة؛ كما هي حال سليم.
طقطق السرير طوال تحركه فيه، كما لو أنه يغالب الأصوات الداخلة عبر الجدران، والباب الوحيد، والنافذة اليتيمة المعلقة قرب السقف، الذي يضاعف بقربه وقتامته الشعور بالارتصاص؛ مما يحول، إضافة إلى وجع الرقبة المدمَّلة، دون بقاء العينين مفتحتين قبل النوم وبعده، أو آناء القلق الليلي المتكاثف.. ويحرمه من عادة قراءة خرائط السقف ومتاهاته؛ تلك العادة وريثة متعة متابعة أشكال الخشب والدخان، ومواقع انسراب الدلف، وثقوب الحشرات، وأصداء الحركات. بما تحمله من مشاعر الخوف والحذر من تراب، أو ماء يغافل التحديق، أو حيّات وأحياء أخرى، تتطاول على الأوقات الحميمة. على الرغم من كل ذلك فقد كان فيها ما يشعر بالإلفة، لأن حياة تسري غير بعيد عن الرأس المشحون بألف حلم وأمنية وهم.. خطا متثاقلاً يحاول لملمة همةٍ ورغبةٍ. الأصوات لازالت تتزاحم في رأسه، قادمة من جهة الساحة، متنفس الحارة الوحيد. لاشك أنها الآن، كما تصورها دائماً، تشبه رئة مدخنٍ مزمن..
بحث عن كبريت لإشعال سيجارة، لم يجد التبغ "هذا الصديق اللدود الذي لا يحترق بمفرده..!".
جلس على كرسي مقلقل، تناول الكأس من على الطاولة حائلة اللون، شرب بقايا الشاي، كان أسود بارداً، أحس بانتعاش، وبحركة في الأمعاء، ورغبة بالإقياء: كانت عادة غريبة أخرى لم يبرأ منها منذ أن كان يغرقه العمل، وحين كان يرفض تجديد الشاي، يهز المستخدم رأسه، وهو يراقبه، يدلق ما بقي في الكأس دفعة واحدة في فمه، ثم يلحس شفتيه ويناوله إياها؛ كان هذا يتكرر. ولم يتعودْه ذاك الرجل، ولم يكف عن سرد ذلك على سبيل التندّر، منذ المسؤول التالي.
***
عملية ضبط الإيقاعات، ودوزنة الطبول، واستظهار المحفوظات، لم تهدأ منذ وقت، لاشك أنه ليس قليلاً، ولم تنم طويلاً..
إنهم في طريقهم إليها، استعدوا لهذه المناسبة السنوية منذ موعدهم السابق، وها هو الموعد الجديد للاحتفال بمولودها الجديد. يعرف هذا من هرجهم وصياحهم، من تصويتهم المتأخر في الذهاب الصباحي، والمبكر في الإياب، بما لا يتناسب مع مواعيد العمل اليومي.
هو لم يعلم بالاحتفال من الدعوات التي وجهت؛ فليس له دعوة؛ دعوه قبل الآن، بنيّة غير مؤكدة السلامة، وضعوا تلك الدعوة على الباب الخشبي. لم يذهب، لأنه لم يقرأْها؛ فهو لايخرج إلاّ في العتمة، آلى على نفسه أن لا يرى أحداً، وأن لا يراه أحد..
ولكن هل يمكن أن يذهب حتى لو دعوه صادقين؟!
هل يقوى على حضور المراسم؟!
هل يستطيع تحمل احتفالها بأولاد..؟!
(يتضاحك بين ساعديه، يضرب الهواء بيديه الدقيقتين، يناغيه، يقترب بوجهه ليقبله بين عينيه: "ليستا خضراوين".. ارتدادٌ قابض، تصور غائم، "برودتها أوقفت حماستي، زوغان عينيها عن عيني أسدل الستار عن العرض البهيّ، لم تتأوه كما كانت تفعل أوكنت أتخيل، أيام الحب العذري، ليست ملامحي هذه التي تبرز على وجه الطفل، ليس ولدي..".
اتركه لها، اتركهما واخرج..!)
فتح الباب بسرعة، وبلمحة بصرٍ صار في الشارع..!
الشوارع مقفرة كما في كل مرة يخرج فيها أو يعود، لكن الوقت مختلف؛ كان يحدث ذلك في الظلام، أما الآن فالنهار ملبد بالغيوم والصقيع. لم يخرج مساء أمس، كان الشارع مضاءً.
تنقل بين شارع وشارع، بين حي وآخر، بين صف من الحوانيت وصف مواز؛ لم يعترض مسيره أحد، ولم يُعثره عائق؛ فالبيارق مرفوعة، والأقواس المزينة واللافتات عالية، اللوحات المضيئة تتراقص؛ أسماء كثيرة جديدة، أسماء غير معروفة تماماً بالنسبة إليه، وغير بعيدة عنه؛ لوقعها صدىً يتردد في قاع الذاكرة، فتعود شزرات صور وهياكل وأقوال.. إنها أسماء لأناسٍ يعرفهم، كان يعرفهم حق المعرفة:
"غريب، هل صار أبناؤهم ما صاروا؟! كم يمر الزمن". أحس بوهنٍ وضياعٍ ويأس: "كنا معاً!".
هزّ رأسه مرات....
لو كان تزوج منها، لكان لأولادهما أمكنة تليق.. لو كان تزوج من سواها، لكان لأولاده سجلات ومواقع وربما لوحات:
"لو كنت أعرف أن هذا سيحصل لي.. ما خرجت من قبوي..!!".
ألا تخجل من قبوكَ هذا؟! لماذا لا تتركه لأصحابه؟! أمن أجل الأجرة الزهيدة التي تدفعها؟! يا للؤمك يا سليم! لماذا لا تخرج إلى الحياة؛ يا لغبائك يا مناضل؟! الأراضي منبسطة، والمدينة تتوسع، والموافقات رهن الإشارة، والأيدي المليئة الممدودة لا تعد؛ اغتنمْها قبل أن تغير الريح اتجاهها..!
موجات ريح تصر آن عبورها الزينات واللافتات المثقَّبة، والرداء المهلهل، فتصر المفاصل والأسنان والأفكار:
- لماذا (لا تأخذها)؟!
- يكفيني ما نحن عليه، ويكفيها..!
- هل أنت متأكد من مشاعرها؟!
- كل ما لديها من خيري..!
- وما ليس لديك أليس بسببها؟!
- لن تفرقوا بيننا؛ غيارى حاسدون..!
- اخرج من قبوك تحظَ بها..!
- حين أخرج منه سأخرج من حياتها؛ لأني حينئذٍ لا أستحقها!
شتيمة عجوز عمياء تخلفت عن الركب الاحتفالي، قهقهة واثقة قادمة من داخل أحد البيوت في غياب أصحابها المحتفلين، آهاتٌ تتردد من زوايا ميتةٍ يختلط فيها العذاب بالنشوة:
"هل تأوهت معه؟! لا شك أنها كانت تتصورني؛ هل يصح أن تنساني؟! أنا مفجر طاقاتها، مبدع انطلاقتها وأحلامها، محفز مواهبها و.. من منهم حظي برضاها؟! من منهم اغتصبها؟!
كانوا يتنافسون عليها وينافسونني، وكنت في أوقات استراحتي القليلة أصلح ذات البين..".
- لماذا لم تصلح هندامك؟!
تكاد الأفكار تسرقه من نفسه، والطرقات تعثره؛ أم أن أقدامه نسيت أبجدية السير تحت أشرعة الضوء، وعلى إيقاع الحياة.
في ما مضى لم يتعود أن يفكر بحاجاته؛ كانت مقضاةً ولم يفكر برغباته؛ كان لها اتجاه واحد، منبع واحد، وغاية واحدة: رضاها! أما الآن فعليه أن يفكر في كل شيء، ويحضر أي شيء بنفسه:
"مقطوع من شجرة، ومقطوع عن الجذر، أين المفر؟!".
ترك قريته البعيدة، انشغل عن أهله. ومن جاء بهم إلى هنا ينشغلون الآن عنه؛ مات الذين يذكرون، ونسي من ظلَّ هناك! لكن أولياءها لم ينسوه، تذكروه في الليالي القاسية تذكر المنتقم!
الأصوات تأتي من كل الجهات، يسيرون في الشوارع الهامة قبل أن يعودوا إلى الساحة الرئيسة، حيث الساعة منتصبة دون أن تدور عقاربها منذ تدشينها..!
(كانوا يدورون بالعروس في طرقات القرية كلها قبل أن تدخل بيت عريسها الذي قد لا يبعد أكثر من سماكة جدار واحد!).
إنهم مبتهجون يرقصون لزينة الحياة الدنيا؛ الأولاد وأشياء أخرى، هي، يؤكدون أنها منتشية، وهم مسرورون بالولادة دليل خصوبة وفروسية وأصالة:
"خصوبتها وفروسية من؟!
آه لو يصدقونني..!"
"آهٍ لو لم يصدقوني..!".
غير بعيد عن أطياف البهجة، وعلى أصداء الهتافات والطبول، وأنغام الأناشيد والمزامير، وقف محتضناً جذع شجرة. كان يبحث بنظراته عنها.. كان يترصد طيفها، يتسقط نأمة منها، رغم اعتقاده أنها لن تقول شيئاً.
وقع المطر على أغصان الشجرة الفتيّة، وخيوطه الواصلة بين السماء والأرض، أحالا الحالة إلى شبه وهم، والمشهد إلى شفيف حلم، أحس أن نبضه تسارع؛ هل هو القلب التعب؟! أم تخيُّلها وضحكتها تغرّد على شبكة الخيوط المتلاحقة، وخفق الأعلام الملونة، والأصوات واللافتات التي تؤرجح الوقت والمتعة.
دفءٌ لذيذ بدأ ينغل في مساماته:
كانت أياماً ماتعة. حب وهيام وولع، ولا شبع!
قرقرةٌ في جوفه؛ الجوع أم آثار الشاي البارد؟! أم التساؤل القارس: لماذا؟!
تغضُّنٌ يعرج الخيوط المائية: ما الذي يلزمك البقاء هنا؟!
الآخرون ملزمون أو مستفيدون، لم أنت هنا؟!
حركات أقدامه وجسده كله زادت. هل المشاركة مع إيقاعات المحتفلين تحت المطر؟! أم الحنق الذي يتضاعف في خلاياه؟! أم آثار البرد والبلل المتساقطين من بين وريقات شجرة الزينة؟!
(ما الذي يبقيك تحت سطوة المطر والبرد، وهيمنة القلق؟).
"إنها تستحق، لا أستطيع نكران ذلك، لا أستطع نسيانها؛ لم أعد مراهقاً ولم أزل أهيم بها؛ لم يعد لي موسمٌ ولم يبق لي سواها؛ لديها الكثيرون وليس لها سواي..".
أحس تعباً في ظهره، وتحجراً في عنقه، مدَّ يده إليه، كان بارداً رطباً.. هل هو الرقاد المتطاول؟ أم وسادة القش الخشن؟ أم سرير الخشب الذي يتآكله السوس، أم أنها آثار نير الفلاحة التي وُعد بها يوم كان لاهياً:
(هذا وعد الأولياء الذين لهم الليل والأراضي البور)! من كان مثلك كيف له أن يفكر بها؟! أمامها كل هذه القامات والانحناءات، فهل من المعقول أن تتذكرك بعد؟! حتى إن رأتك، فلن تنال منها إلا قهقهة وسخرية.
هذه قوافلهم تتشرذم، إنهم يعودون، عليك بالإسراع قبل أن يروك، فتتحول إلى فرجة ومشجب..
لا يحتاج هذا السيرك إلاّ رجلاً على هيئتك..).
لم يستطع الاستمرار منكباً؛ رائحة القش المتعفن، وأنفاسه التي تحرق وجهه، والغطاء الرطب العفن الذي لفه حول رأسه، دفعه كل هذا لأن ينقلب على قفاه، لم يستطع أن يبلع لعابه، أحس برغبة بالإقياء، وجعٌ في عنقه، وثقل في عينيه، وصوت تحفّر الخشب المتقاطع مع نبضات قلبه، وأصوات العائدين من المهرجان؛ كل ذلك جعله ينسى أنه مستلق على ظهره. وقذف ما كان في فمه نحو الأعلى..!