للموت رهبةٌ وخوف، انشغال وتوتر، تأمل واجم وأفكار سود وصدى قاتم؛ لكن عادة سليم جعلت للموت طعماً مختلفاً..
إذا كان هذا يعمم على حالات الموت المتعددة التي تحدث، ونحضر طقوسها، أو نسمع بها، فكيف سيكون الحال اليوم، وفي هذا الظرف الاستثنائي؟
فقد ماتت أخيراً!
لاشك في هذا، فالخبر وصل إلى كل بيت، والناس بدؤوا يتقاطرون إلينا معزّين وعارضين المساعدة، وسليم في الصالون يستقبل الوافدين، وأنا هنا في هذه الغرفة أبادل القبلات بأحسن منها!
***
لم تكن علاقة سليم بأمه، كأية علاقة بين أم وولدها؛ عرفت هذا منذ الليلة الأولى لزواجنا، وما حدث وقتها: حين راحت تضرب الباب والنافذة بقوة فور أن أصبحنا وحيدين، وفي كل مرة يخرج سليم، ليهدئها ويرجوها أن لا تسمع الجيران المتيقظين. وما إن يغلق الباب من جديد، حتى تعود إلى هياجها وصياحها. حتى صارت ليلتنا تلك سيرة مخزية وذكرى جحيمية.
على الرغم من أنها - كما أكد سليم والجيران في ما بعد- هي التي ألحت عليه أن يتزوج، وسعت بكل الحجج والتبريرات، ووساطات الأقارب، لكي يصبح رجلاً صاحب أسرة وأولاد تراهم قبل أن تموت. ولم تبدِ أي اعتراض على اختياره لي. وقد حاولتُ مراراً أن أبرر الأمر، وأضع له أسبابه الوجيهة: فهو وحيدها وكل شيء في حياتها- هكذا كانت تقول- بعد أن غاب والده دون رجعة، ولم يمضِ من مشوارهما المشترك غير سنين قليلة؛ وهي أمه التي سخّرت حياتها، وضحت بكل شيء من أجله؛ حتى طلبات الزواج العديدة، كما كانت تكرر دائماً، بمناسبة أو من دونها. لكن هذا لم يمنع من أن يجعل ما بيني وبينها، لا يختلف عما يُعرف عن علاقة اثنتين في مثل وضعينا؛ فهي أمُّه، وهو وحيدها، وأنا شماعتهما التي تنوء تحت أحمالهما. لذا فإن نفوري لم أستطع مقاومته، رغما ما سببه لي من خلاف مع سليم، وما تعرضت جراءه لإهانات..
ليس هذا مهماً الآن، فقد ماتت وانتهى الأمر، لكن المهم شيء آخر، فهل سيبقى سليم على عادته الغريبة تلك؟ أم أن هذا الظرف الخاص سيلقي بثقله عليه ويشغله عنها؟
وعادة سليم التي قاومتها وحاولت تغييرها في البداية، جعلت الإحساس لدى سماع خبر الموت يختلف عن الإحساس المتوقّع أو المألوف، فالموت كارثة الإنسان المحدقة، أنّى كان وحيثما حلّ. ومجرد حضورها في القرية أو المنطقة أو العالم الذي أصبح صغيراً، يجعل من الناس المختلفين بتفكيرهم أو سلوكهم أو أوضاعهم، متساوين في خوفهم واستلابهم وعبادتهم وإخلاصهم وتقواهم؛ أما عند سليم فالأمر مختلف إلى درجة الغرابة والشذوذ كما فكرت طويلاً.
كانت أم سليم تقول:
(في ما مضى، وحين كان يموت واحدٌ من العائلة المهمة التي تملك الماء والسماء والهواء، كان ممنوعاً على جميع الناس الاغتسال، أو غسل الثياب. ويعتبر حبل الغسيل شاهداً على الجريمة التي تستحق العقاب. أما إذا كان الميت خارج تلك العائلة، فكل شيء جائز، حتى حفلاتهم وأعراسهم وولائمهم التي لا تنتهي؛ والدك لم تكن تلك الأوامر تعجبه، فيقول لي حين يسمع بوفاة تخصهم: ردّي الغسيل!
حاولت كثيراً أن أمْنَعَه أو أن نخبىء الأمر، ونغسل الغسيل داخل البيت. لكن حبل غسيلنا كان يمتلىء عن آخره؛ هددوه، وعاقبوه، وما نفع ذلك؛ أبوك كان عنيداً. وماذا كانت النتيجة؟ انهار سقف محفارة التراب الأبيض البعيدة، حيث كان يحفر وحيداً فوق رأسه "اليابس قضاء وقدراً" ومات. هذا ما قالوه: وأقنعوا الناس به).
وهذا سليم عند سماعه خبر الموت ينتفض ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.. ثم ينظر إليّ نظرة خصبة، وطيف ابتسامة يوشيّ وجهه المحمرّ، ويتابع: كلنا على هذا الطريق.. يا حسرتي.. !! وأعلم أن وليمة عامرة وليلة حمراء في طريقها إلينا.
قاومت هذا الأمر كثيراً، وفكرت في أن أعرض قضيته على طبيب، أو آخذ رأي أحدٍ فيها . ولكني خجلت، وخفت، وفكرت بالعاقبة إن علم سليم بذلك.ثم ندمتُ لأني فكرت في مثل تلك الأفكار؛ فقد بدا في ما بعد، أن الأمر لابأس به على أقل تقدير، بل ربما اقتنعت أنه افضل وسيلة لمواجهة مواقف محبطة ومأساوية. ومغالبة الشعور بالعدمية والفناء والخسران، كما يحدث في حالات الموت. وأحس الآن أنه جميل و وماتع ، دون أي اعتبار آخر؛ فالموت حق، والحي أفضل من الميت!! لكن ماذا سيحدث اليوم؟ وماذا سيكون موقف سليم المنشغل الآن باستقبال الملتاعين الحزانى، وتحضير الجنازة، ومتابعة أمور الإخبار، وتحديد ساعة الدفن، والشيخ الذي سيقوم بتقديم النصائح لأمه للمرة الأخيرة، والتي لن تسمعها، كما كل الكلام الذي تردد على مسامعها، في عمرها الذي طال كثيراً، حتى حسبتُ أنه لن ينتهي.
صحيح أن سليماً حين اكتشف وفاتها في الصباح، لم ينظر في عينيّ، ولم أر على وجهه طيف تلك الابتسامة التي أشتهيها..
لكن أقول: الميت أمه؛ فهل من المنطقي والمعقول أن يكون الحال معادلاً لكل مناسبات الموت الأخرى؟! وهل من المعقول أن يفكر الآن بمثل هذا الأمر؟! وهل لديه الوقت والرغبة في ذلك؟!.
ولكني أعرف سليماً. فما كان يقوم به، والحالة التي تسكنه تلك الليالي، والهياج الذي يستولي عليه، تجعلني أظن أن مثل هذا لا يغيب عن تفكيره. وهل سيقول لي إن فكر به ولو للحظات؟!
تُرى، هل تغافل عن الأمر ليختبرني؟! ليرى إن كنت أكره أمه، أو أحبها؟!
لا.. لا أعتقد ذلك؛ فهو متأكد من مشاعري نحوها إلى أبعد حد، وليس الأمر يحتاج إلى أي اختبار.
ربما يكون قد خجل أن يبوح به أو يعلنه، وهل كان عليّ أنا أن أسأله؟! هل ينتظر ذلك ويحسبني نسيت؟!
أنا لم أنس؛ وهل يعقل أن أنساه، وفي مثل هذه المناسبة النادرة؟!. لكنني ترددت من أجل مشاعره هو؛ مهما يكن فقد كانت أمه، على الرغم من سلوكها الغريب، وطبعها الحاد، ولسانها الأكثر حدة. هل أستعد لهذا دون أن أسأله؟!
ولكن ماذا يقول الناس، إن لاحظوا ذلك، هل هو احتفال بموتها؟! كما علّقوا في مرات عديدة، وهل أتناسى الموضوع، ونغيّر الطقس هذه المرة؟! لكني لا أستطيع أن أتناساه؛ بل إن شعوراً دافئاً يستولي على كياني، وهسيساً عذباً يطوف على مسمعي، وأطيافاً زاهية ملونة ترفرف أمام ناظري، ورغبة حارة خصبة تدغدغني، فأكاد أضحك، لولا ضرورة الولولة والنواح، وضرورة اعتصار الأعضاء الداخلية والخارجية لترسل بعض السوائل التي تبيّض الوجه. الآن أنا راغبة أكثر من أي وقت مضى؛ أحس أنها مناسبتي وحدي، ولا يمكن أن أفكر بتفويتها.
ولكني حائرة ومتوترة وضائعة وخائفة من نتائج أي تصرف..
تُرى هل أفاتحه بالأمر؟! أم أنتظر؟!