انخطف في الطريق المتعرجة، بعدما لم يعترض أي كائن متحرك نظراته التي أدارها في الجهات كلها خاصة جهتي الطريق العام. احتضنته الظلمة المتكاثفة وألبسته رداءً آخر، يتكفل بإخفائه عن العيون المتربصةِ المسافةَ التي تفصل شعشعة ذلك البيت عن أنوار الطريق الرئيسة. لكنها لا تستطيع إبعاد خطر حيّاتِ هذا الصيف القائظ، التي يمكن أن تحضر في أي حيّز يضع قدمه فيه؛ بيد أن توتره وحَذَرَه وانشغال تفكيره بأشياء كثيرة، تجعل التقدم ممكناً، بفواصلِ ترددٍ وتساؤلٍ وتصارعِ رغبتين أحلاهما مرة. *** - هل سيكون هناك؟! ما الذي يفعله ذلك الفظّ الثقيل؟! - وما الذي تفعله أنت؟! - أنا؟! حقاً! لا.. أنا قادم لأطمئن على البنت؛ اليوم كان امتحان الرياضيات، لابد من التأكد عن قرب إن كانت الدروس التي أعطيتها إياها قد أفادتها.. - وهو يطمئن عليها كذلك؛ أليس المدير الذي يحب طلابه/ أبناءه؟! - من مثله لا يعرف معنى البنوّة! - أليس هذا ظلماً؟! أليس هو من طلب منك إعطاءها الدروس؟! *** قابلني بحذر؛ قال متردداً: أعرفك تحب عمل الخير! قلت: من يكرهه؟ هنيئاً لمن يستطيع فعله دوماً! قال: صفاء ابنة توفيق (أبو سعيد) المستخدم، تحتاج بعض المساعدة في الرياضيات، أستاذها من قرية بعيدة ،وهي غير مرتاحة من طريقته في الشرح، وأنت لا يضرّك أن تزيد مواردك قليلاً. - أنت تعرف رأيي في الدروس الخصوصية، لو كنت أوافق على مثل هذا، كنت في حال أخرى. ولكن من أجل أبي سعيد لابأس، لكن دونما أجر. قال مدارياً وجهه، متجاوزاً إهانتي: هذا ليس مهماً، من أجلي أو من أجل أبي سعيد، ولَنْ يضيع أجرك؛ عند الله على الأقل. اختارني لثقته بي كما قال وأكد.. *** لبريق عينيها معنىً كيف لمثله أن يفهمه؟! وطفولة وجهها كيف لا تنخدش من جلافة منظره؟! وبراءة ملامحها وسكينة تفاصيلها ووداعة حديثها والتفاتتها وحركاتها كيف تصمد أمام جحوظ عينيه وفظاظة حضوره وجرشِ كلماته؟! إنه الكارثة الأخرى بعد أبي سعيد/ زوجها! ما الذي يريده منها؟! زوجته وأولاده في أحسن حال، أملاكه لا تقدر عليها تقارير وعيون الحساد، مركزه لا ينافسه عليه أحد في هذه البلدة، ومرشح لمراكز أعلى! ماذا يريد من زوجة مستخدم في مدرسته/ خادمٍ في منزله؟! وما الذي أريده أنا منها؟! من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها..! *** واقف على حدود الظلام ومشارف الضوء كبعوضة تنتظر غفلة الساهر. ركن الفرندة الواسعة يظهر من موقعه: صوته مسموع، ورأسه مرفوع، وكرشه مستقر. دخان يتصاعد من فتحات وجهه، حركة دؤوبة لأولاد منشغلين. فاجأه خروج أبي سعيد لاستكمال مهمة حراسة المدرسة ليلاً، حلف على الزائر أن يبقى؛ إذ لا غريب إلا الشيطان! الشيطان الذي لعنه محمود ألف مرة حين اضطر لمعانقة جذع الشجرة القريبة، لكي لا يلفت انتباه الحارس النبيه إلى جذعٍ دون أغصان في عقر داره. *** من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها.. أنا لست الصغير بين اخوتي، ولكني الوحيد القادر على تحملها. هي التي استطاعت إفراغ رأس أبي من الآمال، وحياته من لحظة هناء واحدة، وصلبه من الخير الذي أنتج عشرة أولاد، عدا من مات قبل الولادة وبعدها. وكان يقول عند كل زغرودة من القابلة: الحمد لله! وتضحك أساريره. وحين يسألونه: ألهذه الدرجة تحب الذكور؟! يتنهد ويقول: لا أريد جنس حواء. وينظر إليها، يهزّ رأسه ويصمت.. حين استدار إلى القبلة، ونام، برزت على وجهه علامة الارتياح؛ لقد تمنى الموت طويلاً، وإن كان يؤمن أنها قصاص منه في الدنيا، سيوفر عليه الكثير في الآخرة. تقاذفها الأولاد وأولادهم، واستقرت عندي؛ أسكنتها إحدى الغرف وتصاممت عن شكواها واعتراضاتها وحدة لسانها، وتغافلت عن معاركها المتواصلة مع حميدة زوجتي، والتي لا يمكن لأيّ وسيط قوي أو ضعيف، نزيه أو متعاطف، أن يوقف سعير الحرب بينهما. أحياناً، أقول في سري: الحق مع حميدة، فأمي من طينة فريدة: تقاتل الدجاجات إن بضن أم (قطعن)؛ إن أكلن أم امتنعن، إن رغبت إحداهن في أن تكون أماً، شنت عليها حرباً من الشتائم والدعوات، وأغطستها في برميل ماء لتبريدها، وإن قضت بذلك. تحارب الفئران والقطط والكلاب والبعوض الذي لا يتركها تنام، ولا تدعه يستقر، ولا يمكن أن يتم أيُّ من طقوس الحياة في البيت دون أن يحسب حسابٌ لوجودها؛ حتى لقائي الغريزي مع حميدة، يجري تحت هيمنة شبحها فما إن أقوم إلى الحمام في أية ساعةٍ من الليل، محاذراً إصدار أي صوت، حتى تظهر على باب غرفتها، تهمهم وتدمدم، وأغض الطرف عن نظرات زوجتي التي تذكرني بالدليل؛ زوجتي المحترمة، والتي تصغرها بنصف قرن تقريباً، لا ترضى للحق أن يستقر إلى جانبها، فسرعان ما ترد الصاع صاعين، وتواجه الحملة بأشرس منها. وهي لا تنسى أن تُحضر لي كل حين وجبة، فيها كل ما يخطر على بال أية زوجة من أساليب وأقوال وأفعال تجعل اللحظات أشواكاً، والأمكنة مسامير، والرؤى ضباباً أسود مقيماً. وتقوم بكل هذا، غير عابئة بتهديدي وإنذاراتي التي تعددت، وخرسي الذي يستمر أياماً، فهي صاحبة البيت، ولا فضل لـ أحدٍ عليها، حتى أنا الذي تحول البيت /بيتي، الذي بنيته بأموال المصارف، إلى ساحة عراك لا تهدأ إلا استعداداً لحرب أخرى.. ودخلتْ صفيةُ البنتُ الكبرى وأخواتها الخمسةُ الحلبةَ إلى جانب أمَّهن حيناً، وأخرى إلى جانب أمي، وقد ينقسمن ليزداد أوار النار. حين أخرج من البيت، أسمع الجوقة تردد مقطعاً واحداً مُشَدّداً: إلى أين؟! وحين أعود تواجهني النغمة ذاتها: أين كنت؟! ولا أجيب في الحالين، فيستتبع ذلك بملاحق من التذمّر والشكوى والحنق والرقص غير المنظّم، والذي لا ينتهي إلا بعد إجهاد وتعب، وعجز عن الفوز بحملي على الكلام. مسلسل اعتدت حلقاته التي لا تنتهي، ولم يرحني صمتي أو هروبي إلى الكتب والقراءات، حتى أني كرهت جنس النساء، وصوت النساء، وحديث النساء حتى كلام شهرزاد المباح. أمي، والناس الحريصون على مستقبلي، يلحون علي أن أتزوج مرة أخرى ليحيى ذِكْري، وليسمع صوت ذكوري في هذا البيت الذي لا يدور في فضائه غير الفحيح.. إنني أشتاق صوتاً ذكورياً، ولكنْ: ألا يعني هذا إحضار واحدة أخرى من جنسهن؟! إن هذا لوحدهِ كفيل بإبعاد أية فكرة من قبيل ذلك، أو أية خطوة قد تؤدي إلى التقرب من إحداهن؛ حتى زملائي وزميلاتي في المدرسة يستغربون حالي ويتهمونني بالتعصب الذي لا يشرفني. ولكن الحساسية تجاه أية امرأة، تجعل أمر الدفاع عن نفسي متعذراً. وحين طلب مني المدير ذلك الطلب (الإنساني)، استعذت بالله، وحاولت التهرب والاعتذار، لأنني لا أطيق الجلوس إلى أنثى، وإن كانت في مثل عمر ابنتي صفية، وهذا ليس حباً في متأكدة أمي التي فرحت لهذه السيرة. وليس خوفاً من زوجتي التي طار صوابها؛ لقد ضحكتُ كثيراً من أفكار النساء، وعقول النساء، وأوهامهن، وأضحك الآن من نفسي وأفكاري وحالي؛ من يراني هنا الآن ماذا سيقول؟! هل سيجد لي أي عذر؟! سيظنون أني ألاحق الفتاة، سيحكون وينتقدون، لكنهم يظلمونني إن فعلوا ذلك، أنا لم آت من أجلها، يمكن أن أحلف لهم صادقاً. ولكن هل يمكنني أن أفسر لهم وجودي؟! هل يمكن أن أقول أنني آتٍ من أجل يا الله.. هل هذا معقول؟! وهل يُصدق؟! وهل أصدق نفسي؟! ما الذي يستحق التضحية والمغامرة والعناء؟! نظراتها؟! هل أنت مراهق؟! وهل نسيت حالها؟! ثم إنها تجلس إليه الآن، ألا تنظر إليه النظرة ذاتها؟! وإلى سواه أيضاً؟! وماذا تسمي امرأة ترضى أن تظل مع رجل آخر؟! لماذا لا تطرده؟! إذا كان أبو سعيد خجل أن يفعل ذلك، أو ضعف أو تردد، كيف تقبل هي؟! ستقول: هي لا تستطيع أن تفعل مثل هذا، الحق على أبي سعيد، وليسا وحيدين، هناك أولاد؛ وكيف يقبل على شيبته أن يظل معها؟! وكيف تقبل أنت بسمعتك واتزانك وإخلاصك أن تذهب إليها؟! أنا لا أريد منها شيئاً، لا أريد، لا أريد.. إذن ماذا تفعل هنا؟ وماذا تسمي وقوفك في الظل كلص عتيق؟! - أنا لا أفعل شيئاً، لا أريد شيئاً، أنا ذاهب.. ذاهب..! لكن إلى أين أذهب؟! إلى جحيم الأسئلة وجنون الغيرة وشوك الاستفزاز.. ألف مرة فكرت بطريقة للخروج من هذه الدوامة التي وجدت نفسي فيها منذ السنة الأولى لزواجنا، أحسست حينئذٍ أني بدأت أعضُّ أصابعي التي أمسكت - وهي تحاول التعلق بجذع آمن- شيئاً رخواً نتناً، وإلى هذا اليوم، أحس أن هذه الرائحة تلاحقني من كل جهة وأي صوب.. وفي كل مرة يراودني هذا التفكير، أنظر حولي، لأرى أي جحرٍ أندس فيه. وأفكر: ماذا سيحدث إن تركت كل شيء ومشيت، ماذا سيقول الناس؟! وكيف أترك كومة اللحوم المشتهاة؟! والتي لا أحتاج حدة نظر لألاحظ عدد الفوهات المصوبة، والأصابع الجاهزة للإطلاق، فأغرق في الطمي أكثر بصراخ مولود جديد، لا تصطدم أصابع القابلة المتلهفة للتبشير، بأي نتوءٍ صغير يشرع ضحكتها، وأجد شوك الدائرة يتزايد، وضرورة تحضير دفاعات أخرى وتحصينات جديدة تتضاعف، وأفكر في كلام أمي حين تكون غاضبة على اخوتي وعليّ: لا خير في الصبيان.. لو كانت لي بنت واحدة لسترت آخرتي. وكنت أقول، إذ أتذكر اخوتي وقرار تراجعهم عن الاستعداد لتمويل البعثة في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق الطائرة - معها حق؛ الصبي أناني لا يشبع. لكني، بعد تناثر هذه الموجة وحين أفكر في أقوال أبي، وحين أتذكر أن أمي وحميدة وصفية وأخواتها إناث، أقول: ولا خير في البنت أيضاً.. تُرى أية مرارة أوصلتني إلى هذه القناعة؟! وأي صبي حالم طموح كنت؟! وأية قدرة على الحب والعطاء والثقة والانطلاق تلاشت؟! حتى صرت أشك أني أحب نفسي؛ وهل هذه النفس التي ترضى أن تقف مثل هذا الموقف، وفي هذا المكان، ومن أجل تلك الغاية، يمكن أن تُحب؟! *** الوقت يوالي انضغاطه فوق رأسه مضاعفاً إحساسه بالضآلة، والظلام يتكاثف في الجهات الأخرى، كأنما يسد عليه المنافذ، ويبرر استسلامَه، لعجزهِ عن التصرف، كما لو كان عالقاً في فخ قد تؤدي أية حركة إلى انغراز الأسنان في جسده أكثر، فجعل يشاغل الحال، محدقاً صوبها، يراقب أدنى حركة منها، ويترصد أي ملح يمكن أن يستنتجه.. ويفكر ويتساءل: ما الذي يجعلك منجذباً إليها؟! ما كنت تبحث عنه وتنتظره من حميدة أماناً من كمائن الحياة وسهام الترصد؟! أليست هذه الصفات هي ما تجعلها تحجم عن طرد هذا الضيف الثقيل، أو التصرف حياله أي سلوك ينم عن نفور أو امتعاض، بعد خروج أبي سعيد إلى مهمته في حراسة المدرسة فترة الامتحان؟! ألا تظن أنها تحتاج بعض القساوة والخشونة لطرده؟! تلك التي لا تَعْدمها حميدة، لو تصرفت حميدة مع أي مخلوق مثل هذا التصرف المهذب؛ مع أي مخلوق آخر؛ رئيسك، أو صديقك، أو مدرس ابنتك، هل كنت ترضى عنها؟! ألا تقيم الدنيا ولا تقعدها فوق رأسها!! وأنت؛ ألا تحتاج قدراً كبيراً من الشراسة لصد الرياح التي تقتلعك؟! لو كنت قاسياً مع أمك، وسيداً على زوجتك، وخشناً مع بناتك هل كنت في مثل هذي الحال؟! وهل كنت تعيش في دوامة الصليل والفحيح واللدغ..؟! آه.. ما الذي يصوّت قربك الآن؟! هل هذا فحيح؟! هل يلاحقك الفحيح إلى هنا؟! هل الحق على الأفاعي أم عليك؟! هل هذا الوقت المكان لها أم لك؟! وإذا ما لدغتك إحداها، ماذا ستفعل؟! ماذا سيحل بك؟! ماذا سيقول عنك الناس؟! هل سيترحم عليك أحد؟! هل سينقذك سوى المدير إن سمع صراخك أو اصطدم بجسدك بعد انتهاء فصول زيارته! ومتى ستنتهي هذه الفصول الدهرية؟! وماذا ستفعل أثناء خروجه، هل ستحتضن جذعاً آخر؟! أم تتكور جوار هذا الحائط الحجري القديم الذي يمكن أن تستوطنه قبيلة من الحيات، أو بين هذه الشجيرات الكثيفة التي يتفصّد منها الفحيح..! وماذا ستفعل إذا ما نجوت؟! هل يمكن أن يُزار أحد بعد هذا الوقت؟! وهل ستستقبلك بالبراءة ذاتها والوداعة عينها؟! أم أنها ستغير من هذه الصفات وتستعير صفاتٍ أخرى من زوجتك أو أمك أو بناتك؟! وعندها.. ألن يكن معها الحق؟! هل تلومها؟! وماذا ستفعل بخيبتك؟! الصليل يتصاعد، والفحيح يتضاعف قرب قدميه، في رأسه، في كل خلايا جسده. تحول المكان والوقت إلى أزيز، وطنين، وأصوات حشرات من كل الأنواع التي تمتاز كلها بسمية قاتلة.. سيعود أدراجه، لن يبقى أكثر، لن يعرض نفسه لموت رخيص، ألا يكفي أن الحياة نفسها رخيصة؟! أدار ظهره، مشى بتثاقل، نظر نظرة أخيرة، كان الجلف يتحرك، البراءة والوداعة واللطف تتضاعف أثناء توديعه. توقف محمود، ماذا سيفعل بعد أن حان ما كان ينتظره؟! هل سيذهب محله؟! هل هذا يليق؟! وفي مثل هذا الوقت.؟! لا.. انتهى الأمر، ما فات فات، لن يحتضن جذعاً، ولن يندس في جُحْرٍ شجري، سيذهب خارج هذا الجحيم.. عليه أن يسرع، ماذا لو لمحه، أو شاهده، سيخسر أكثر فأكثر.. سيركض.. عليه الآن أن يركض كي يسبق ذاك الذي خبر الطريق.. ماذا أوقعه؟! حجرٌ أم غصنٌ نافر أم أفعى؟! ما الذي يسري في دمه؛ رعبٌ أم ندمٌ أم سم زعاف؟! ما الذي يضج في خلاياه كلها؟!
انخطف في الطريق المتعرجة، بعدما لم يعترض أي كائن متحرك نظراته التي أدارها في الجهات كلها خاصة جهتي الطريق العام. احتضنته الظلمة المتكاثفة وألبسته رداءً آخر، يتكفل بإخفائه عن العيون المتربصةِ المسافةَ التي تفصل شعشعة ذلك البيت عن أنوار الطريق الرئيسة. لكنها لا تستطيع إبعاد خطر حيّاتِ هذا الصيف القائظ، التي يمكن أن تحضر في أي حيّز يضع قدمه فيه؛ بيد أن توتره وحَذَرَه وانشغال تفكيره بأشياء كثيرة، تجعل التقدم ممكناً، بفواصلِ ترددٍ وتساؤلٍ وتصارعِ رغبتين أحلاهما مرة.
***
- هل سيكون هناك؟! ما الذي يفعله ذلك الفظّ الثقيل؟!
- وما الذي تفعله أنت؟!
- أنا؟! حقاً! لا.. أنا قادم لأطمئن على البنت؛ اليوم كان امتحان الرياضيات، لابد من التأكد عن قرب إن كانت الدروس التي أعطيتها إياها قد أفادتها..
- وهو يطمئن عليها كذلك؛ أليس المدير الذي يحب طلابه/ أبناءه؟!
- من مثله لا يعرف معنى البنوّة!
- أليس هذا ظلماً؟! أليس هو من طلب منك إعطاءها الدروس؟!
قابلني بحذر؛ قال متردداً: أعرفك تحب عمل الخير!
قلت: من يكرهه؟ هنيئاً لمن يستطيع فعله دوماً!
قال: صفاء ابنة توفيق (أبو سعيد) المستخدم، تحتاج بعض المساعدة في الرياضيات، أستاذها من قرية بعيدة ،وهي غير مرتاحة من طريقته في الشرح، وأنت لا يضرّك أن تزيد مواردك قليلاً.
- أنت تعرف رأيي في الدروس الخصوصية، لو كنت أوافق على مثل هذا، كنت في حال أخرى. ولكن من أجل أبي سعيد لابأس، لكن دونما أجر.
قال مدارياً وجهه، متجاوزاً إهانتي:
هذا ليس مهماً، من أجلي أو من أجل أبي سعيد، ولَنْ يضيع أجرك؛ عند الله على الأقل.
اختارني لثقته بي كما قال وأكد..
لبريق عينيها معنىً كيف لمثله أن يفهمه؟!
وطفولة وجهها كيف لا تنخدش من جلافة منظره؟!
وبراءة ملامحها وسكينة تفاصيلها ووداعة حديثها والتفاتتها وحركاتها كيف تصمد أمام جحوظ عينيه وفظاظة حضوره وجرشِ كلماته؟!
إنه الكارثة الأخرى بعد أبي سعيد/ زوجها!
ما الذي يريده منها؟!
زوجته وأولاده في أحسن حال، أملاكه لا تقدر عليها تقارير وعيون الحساد، مركزه لا ينافسه عليه أحد في هذه البلدة، ومرشح لمراكز أعلى!
ماذا يريد من زوجة مستخدم في مدرسته/ خادمٍ في منزله؟!
وما الذي أريده أنا منها؟!
من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها..!
واقف على حدود الظلام ومشارف الضوء كبعوضة تنتظر غفلة الساهر. ركن الفرندة الواسعة يظهر من موقعه: صوته مسموع، ورأسه مرفوع، وكرشه مستقر. دخان يتصاعد من فتحات وجهه، حركة دؤوبة لأولاد منشغلين.
فاجأه خروج أبي سعيد لاستكمال مهمة حراسة المدرسة ليلاً، حلف على الزائر أن يبقى؛ إذ لا غريب إلا الشيطان! الشيطان الذي لعنه محمود ألف مرة حين اضطر لمعانقة جذع الشجرة القريبة، لكي لا يلفت انتباه الحارس النبيه إلى جذعٍ دون أغصان في عقر داره.
من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها..
أنا لست الصغير بين اخوتي، ولكني الوحيد القادر على تحملها. هي التي استطاعت إفراغ رأس أبي من الآمال، وحياته من لحظة هناء واحدة، وصلبه من الخير الذي أنتج عشرة أولاد، عدا من مات قبل الولادة وبعدها. وكان يقول عند كل زغرودة من القابلة: الحمد لله! وتضحك أساريره.
وحين يسألونه: ألهذه الدرجة تحب الذكور؟!
يتنهد ويقول: لا أريد جنس حواء.
وينظر إليها، يهزّ رأسه ويصمت..
حين استدار إلى القبلة، ونام، برزت على وجهه علامة الارتياح؛ لقد تمنى الموت طويلاً، وإن كان يؤمن أنها قصاص منه في الدنيا، سيوفر عليه الكثير في الآخرة. تقاذفها الأولاد وأولادهم، واستقرت عندي؛ أسكنتها إحدى الغرف وتصاممت عن شكواها واعتراضاتها وحدة لسانها، وتغافلت عن معاركها المتواصلة مع حميدة زوجتي، والتي لا يمكن لأيّ وسيط قوي أو ضعيف، نزيه أو متعاطف، أن يوقف سعير الحرب بينهما.
أحياناً، أقول في سري: الحق مع حميدة، فأمي من طينة فريدة:
تقاتل الدجاجات إن بضن أم (قطعن)؛ إن أكلن أم امتنعن، إن رغبت إحداهن في أن تكون أماً، شنت عليها حرباً من الشتائم والدعوات، وأغطستها في برميل ماء لتبريدها، وإن قضت بذلك.
تحارب الفئران والقطط والكلاب والبعوض الذي لا يتركها تنام، ولا تدعه يستقر، ولا يمكن أن يتم أيُّ من طقوس الحياة في البيت دون أن يحسب حسابٌ لوجودها؛ حتى لقائي الغريزي مع حميدة، يجري تحت هيمنة شبحها فما إن أقوم إلى الحمام في أية ساعةٍ من الليل، محاذراً إصدار أي صوت، حتى تظهر على باب غرفتها، تهمهم وتدمدم، وأغض الطرف عن نظرات زوجتي التي تذكرني بالدليل؛ زوجتي المحترمة، والتي تصغرها بنصف قرن تقريباً، لا ترضى للحق أن يستقر إلى جانبها، فسرعان ما ترد الصاع صاعين، وتواجه الحملة بأشرس منها. وهي لا تنسى أن تُحضر لي كل حين وجبة، فيها كل ما يخطر على بال أية زوجة من أساليب وأقوال وأفعال تجعل اللحظات أشواكاً، والأمكنة مسامير، والرؤى ضباباً أسود مقيماً. وتقوم بكل هذا، غير عابئة بتهديدي وإنذاراتي التي تعددت، وخرسي الذي يستمر أياماً، فهي صاحبة البيت، ولا فضل لـ أحدٍ عليها، حتى أنا الذي تحول البيت /بيتي، الذي بنيته بأموال المصارف، إلى ساحة عراك لا تهدأ إلا استعداداً لحرب أخرى.. ودخلتْ صفيةُ البنتُ الكبرى وأخواتها الخمسةُ الحلبةَ إلى جانب أمَّهن حيناً، وأخرى إلى جانب أمي، وقد ينقسمن ليزداد أوار النار.
حين أخرج من البيت، أسمع الجوقة تردد مقطعاً واحداً مُشَدّداً: إلى أين؟! وحين أعود تواجهني النغمة ذاتها: أين كنت؟!
ولا أجيب في الحالين، فيستتبع ذلك بملاحق من التذمّر والشكوى والحنق والرقص غير المنظّم، والذي لا ينتهي إلا بعد إجهاد وتعب، وعجز عن الفوز بحملي على الكلام.
مسلسل اعتدت حلقاته التي لا تنتهي، ولم يرحني صمتي أو هروبي إلى الكتب والقراءات، حتى أني كرهت جنس النساء، وصوت النساء، وحديث النساء حتى كلام شهرزاد المباح.
أمي، والناس الحريصون على مستقبلي، يلحون علي أن أتزوج مرة أخرى ليحيى ذِكْري، وليسمع صوت ذكوري في هذا البيت الذي لا يدور في فضائه غير الفحيح..
إنني أشتاق صوتاً ذكورياً، ولكنْ: ألا يعني هذا إحضار واحدة أخرى من جنسهن؟! إن هذا لوحدهِ كفيل بإبعاد أية فكرة من قبيل ذلك، أو أية خطوة قد تؤدي إلى التقرب من إحداهن؛ حتى زملائي وزميلاتي في المدرسة يستغربون حالي ويتهمونني بالتعصب الذي لا يشرفني. ولكن الحساسية تجاه أية امرأة، تجعل أمر الدفاع عن نفسي متعذراً. وحين طلب مني المدير ذلك الطلب (الإنساني)، استعذت بالله، وحاولت التهرب والاعتذار، لأنني لا أطيق الجلوس إلى أنثى، وإن كانت في مثل عمر ابنتي صفية، وهذا ليس حباً في متأكدة أمي التي فرحت لهذه السيرة.
وليس خوفاً من زوجتي التي طار صوابها؛ لقد ضحكتُ كثيراً من أفكار النساء، وعقول النساء، وأوهامهن، وأضحك الآن من نفسي وأفكاري وحالي؛ من يراني هنا الآن ماذا سيقول؟! هل سيجد لي أي عذر؟! سيظنون أني ألاحق الفتاة، سيحكون وينتقدون، لكنهم يظلمونني إن فعلوا ذلك، أنا لم آت من أجلها، يمكن أن أحلف لهم صادقاً. ولكن هل يمكنني أن أفسر لهم وجودي؟! هل يمكن أن أقول أنني آتٍ من أجل
يا الله.. هل هذا معقول؟! وهل يُصدق؟! وهل أصدق نفسي؟! ما الذي يستحق التضحية والمغامرة والعناء؟!
نظراتها؟!
هل أنت مراهق؟! وهل نسيت حالها؟! ثم إنها تجلس إليه الآن، ألا تنظر إليه النظرة ذاتها؟! وإلى سواه أيضاً؟! وماذا تسمي امرأة ترضى أن تظل مع رجل آخر؟! لماذا لا تطرده؟! إذا كان أبو سعيد خجل أن يفعل ذلك، أو ضعف أو تردد، كيف تقبل هي؟!
ستقول: هي لا تستطيع أن تفعل مثل هذا، الحق على أبي سعيد، وليسا وحيدين، هناك أولاد؛ وكيف يقبل على شيبته أن يظل معها؟!
وكيف تقبل أنت بسمعتك واتزانك وإخلاصك أن تذهب إليها؟! أنا لا أريد منها شيئاً، لا أريد، لا أريد..
إذن ماذا تفعل هنا؟ وماذا تسمي وقوفك في الظل كلص عتيق؟!
- أنا لا أفعل شيئاً، لا أريد شيئاً، أنا ذاهب.. ذاهب..! لكن إلى أين أذهب؟! إلى جحيم الأسئلة وجنون الغيرة وشوك الاستفزاز..
ألف مرة فكرت بطريقة للخروج من هذه الدوامة التي وجدت نفسي فيها منذ السنة الأولى لزواجنا، أحسست حينئذٍ أني بدأت أعضُّ أصابعي التي أمسكت - وهي تحاول التعلق بجذع آمن- شيئاً رخواً نتناً، وإلى هذا اليوم، أحس أن هذه الرائحة تلاحقني من كل جهة وأي صوب..
وفي كل مرة يراودني هذا التفكير، أنظر حولي، لأرى أي جحرٍ أندس فيه. وأفكر: ماذا سيحدث إن تركت كل شيء ومشيت، ماذا سيقول الناس؟!
وكيف أترك كومة اللحوم المشتهاة؟! والتي لا أحتاج حدة نظر لألاحظ عدد الفوهات المصوبة، والأصابع الجاهزة للإطلاق، فأغرق في الطمي أكثر بصراخ مولود جديد، لا تصطدم أصابع القابلة المتلهفة للتبشير، بأي نتوءٍ صغير يشرع ضحكتها، وأجد شوك الدائرة يتزايد، وضرورة تحضير دفاعات أخرى وتحصينات جديدة تتضاعف، وأفكر في كلام أمي حين تكون غاضبة على اخوتي وعليّ: لا خير في الصبيان.. لو كانت لي بنت واحدة لسترت آخرتي.
وكنت أقول، إذ أتذكر اخوتي وقرار تراجعهم عن الاستعداد لتمويل البعثة في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق الطائرة - معها حق؛ الصبي أناني لا يشبع. لكني، بعد تناثر هذه الموجة وحين أفكر في أقوال أبي، وحين أتذكر أن أمي وحميدة وصفية وأخواتها إناث، أقول: ولا خير في البنت أيضاً.. تُرى أية مرارة أوصلتني إلى هذه القناعة؟! وأي صبي حالم طموح كنت؟! وأية قدرة على الحب والعطاء والثقة والانطلاق تلاشت؟! حتى صرت أشك أني أحب نفسي؛ وهل هذه النفس التي ترضى أن تقف مثل هذا الموقف، وفي هذا المكان، ومن أجل تلك الغاية، يمكن أن تُحب؟!
الوقت يوالي انضغاطه فوق رأسه مضاعفاً إحساسه بالضآلة، والظلام يتكاثف في الجهات الأخرى، كأنما يسد عليه المنافذ، ويبرر استسلامَه، لعجزهِ عن التصرف، كما لو كان عالقاً في فخ قد تؤدي أية حركة إلى انغراز الأسنان في جسده أكثر، فجعل يشاغل الحال، محدقاً صوبها، يراقب أدنى حركة منها، ويترصد أي ملح يمكن أن يستنتجه.. ويفكر ويتساءل: ما الذي يجعلك منجذباً إليها؟! ما كنت تبحث عنه وتنتظره من حميدة أماناً من كمائن الحياة وسهام الترصد؟! أليست هذه الصفات هي ما تجعلها تحجم عن طرد هذا الضيف الثقيل، أو التصرف حياله أي سلوك ينم عن نفور أو امتعاض، بعد خروج أبي سعيد إلى مهمته في حراسة المدرسة فترة الامتحان؟!
ألا تظن أنها تحتاج بعض القساوة والخشونة لطرده؟! تلك التي لا تَعْدمها حميدة، لو تصرفت حميدة مع أي مخلوق مثل هذا التصرف المهذب؛ مع أي مخلوق آخر؛ رئيسك، أو صديقك، أو مدرس ابنتك، هل كنت ترضى عنها؟! ألا تقيم الدنيا ولا تقعدها فوق رأسها!!
وأنت؛ ألا تحتاج قدراً كبيراً من الشراسة لصد الرياح التي تقتلعك؟! لو كنت قاسياً مع أمك، وسيداً على زوجتك، وخشناً مع بناتك هل كنت في مثل هذي الحال؟! وهل كنت تعيش في دوامة الصليل والفحيح واللدغ..؟!
آه.. ما الذي يصوّت قربك الآن؟! هل هذا فحيح؟! هل يلاحقك الفحيح إلى هنا؟! هل الحق على الأفاعي أم عليك؟! هل هذا الوقت المكان لها أم لك؟! وإذا ما لدغتك إحداها، ماذا ستفعل؟! ماذا سيحل بك؟! ماذا سيقول عنك الناس؟! هل سيترحم عليك أحد؟! هل سينقذك سوى المدير إن سمع صراخك أو اصطدم بجسدك بعد انتهاء فصول زيارته!
ومتى ستنتهي هذه الفصول الدهرية؟!
وماذا ستفعل أثناء خروجه، هل ستحتضن جذعاً آخر؟! أم تتكور جوار هذا الحائط الحجري القديم الذي يمكن أن تستوطنه قبيلة من الحيات، أو بين هذه الشجيرات الكثيفة التي يتفصّد منها الفحيح..!
وماذا ستفعل إذا ما نجوت؟! هل يمكن أن يُزار أحد بعد هذا الوقت؟! وهل ستستقبلك بالبراءة ذاتها والوداعة عينها؟! أم أنها ستغير من هذه الصفات وتستعير صفاتٍ أخرى من زوجتك أو أمك أو بناتك؟!
وعندها.. ألن يكن معها الحق؟! هل تلومها؟! وماذا ستفعل بخيبتك؟!
الصليل يتصاعد، والفحيح يتضاعف قرب قدميه، في رأسه، في كل خلايا جسده. تحول المكان والوقت إلى أزيز، وطنين، وأصوات حشرات من كل الأنواع التي تمتاز كلها بسمية قاتلة..
سيعود أدراجه، لن يبقى أكثر، لن يعرض نفسه لموت رخيص، ألا يكفي أن الحياة نفسها رخيصة؟!
أدار ظهره، مشى بتثاقل، نظر نظرة أخيرة، كان الجلف يتحرك، البراءة والوداعة واللطف تتضاعف أثناء توديعه.
توقف محمود، ماذا سيفعل بعد أن حان ما كان ينتظره؟!
هل سيذهب محله؟! هل هذا يليق؟! وفي مثل هذا الوقت.؟!
لا.. انتهى الأمر، ما فات فات، لن يحتضن جذعاً، ولن يندس في جُحْرٍ شجري، سيذهب خارج هذا الجحيم..
عليه أن يسرع، ماذا لو لمحه، أو شاهده، سيخسر أكثر فأكثر.. سيركض.. عليه الآن أن يركض كي يسبق ذاك الذي خبر الطريق..
ماذا أوقعه؟! حجرٌ أم غصنٌ نافر أم أفعى؟!
ما الذي يسري في دمه؛ رعبٌ أم ندمٌ أم سم زعاف؟!
ما الذي يضج في خلاياه كلها؟!