الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون. هتف ولدي بسؤال فاجع، كطعنة خنجر، زلزل كياني:
- لماذا فعلتم بنا هكذا... يا أبت؟
أنظر إلى الوجه الأصفر، والعينين الحزينتين، واليدين المختلجتين، كجناحي طائر سقط بطلقة غادرة. تكبر مساحة الاصفرار، يخصب الحزن، ينتفض الطائر المصاب، أقول لنفسي مخاطباً خلفي: "كنت أريدك راية تخفق، سيفاً أشرعه وأغنية تصدح، ونسراً حراً.. لكن".
تتلاشى الملامح، تنطفىء المقلتان، يختفي الذراعان، ويعمّ ما يشبه.. العتمة:
- لا أدري يا بني، صدّقني هذه هي الحقيقة.
ريح سموم تلفحني، وينهار جدار ما في صدري:
- كيف ذلك؟ أخبرتني أن الطريق كان واضحاً، وتعرف تضاريسه وأديمه، قلت لي: أفنيت عمرك وأنت تسير رافع الرأس، نظيف اليد والجسد، فما اهتزت هامتك، وما تراجعت ولم تهجر مكانك في الميدان، وكانت خطواتك قوية وثابتة.. أنسيت يا أبت؟
صدري بحجم محيط، تحتله أنواء وعواصف عاتية:
- أنسى؟ هي ليست ذكريات، أو لحظات من المتعة أو الأسى، هل ينسى المرء حياته؟ في تلك الأيام كانت أميركا فتاة لم تنضج بعد، تبحث عن عاشق في ربوعنا، علّقنا جثّة سمسار تلك الفتاة الماجنة: جون فوستردالاس، على (خشبة). ملأنا كيساً حمل هداياها إلينا: دقيقاً وحليباً وأشياء أخرى، كان فارغاً عندما حشوناه بالقش والثياب البالية، رسمنا عليه صورة للسمسار، ولوّناها، وارتفعت أيدينا براياتنا في الساحات وفوق القمم، كان عندنا السمن والعسل والتبغ الأرجواني، فكيف نأكل الدقيق الأميركي؟
أحرقنا الجثة الملونة في الشوارع، ونثرنا رمادها فوق الوجوه السوداء، والصفراء، وكنّا مثلكم فتياناً وشباباً، وكان الحب طيباً وحبيباتنا كالسمن والعسل، ولم يكنّ عاريات ملوّنات كمن تعشقون.
أخال وجه الفتى يتماهى في وجهي، تختلط السمات والصفات، وتشتبك وتقتتل:
- إنّه الإخفاق، تنكرونه، لنرث عاره وبقاياه.
أحتوي البذرة وأغمسها في الرحم، أمد يدي وألمس الفم:
- كفى. لم نخفق ولا نملك ما تنوءون بحمله، لكنّها حكايتنا وعليكم أن تعرفوها، وتدركوا أننا فعلنا ما استطعنا، لم نكن حزانى كالنساء أو نستسلم ليأس أو خنوع كالجبناء، كنّا فوق الطريق، والشمس تجللنا أشعتها، ولم نعرف الخور، أو نتدثّر بالظلام.
هدأ الشاب، وقبل أن نغادر سور المقبرة المتهدم، وكنّا نستند إلى حجارته المتآكلة، انساب صوته ضعيفاً واهناً وحزيناً:
- علمتني ما لايقدم أو يؤخر، الرقص والتصفيق والهتاف والصراخ بأوهامك كالببغاء.
إلى جوار قبر أبي جلسنا. لم يكن القبر ثرياً في بنائه، أو مزيّناً بما يميز جيرانه، أغمض الحفيد عينيه، وراح يرتّل السور والآيات، ارتفع بي الترتيل الشجي والكلمات الدافئة على أجنحة من الصفاء، وأحسست بالمكان وكأنه واحة أمن واطمئنان، فأغمضت أنا الآخر عينيّ. سمعت أبي يهتف بي:
- ربما أكون قد أخطأت يا بني، لكنّك واجد العذر لي، فأنتم تملكون ما لم نكن نملك، كنّا قبلكم قبائل وأشلاء وعبيداً، ورغم ذلك قاومنا، دفعنا ثمن أن نبقى من نبضات قلوبنا وأفراح حبيباتنا، يكفينا أننا مهّدنا لكم الطريق وكلّ من سار على الدرب.. وصل.
قلت لابني:
- جدّك عاش أيام (سفربرلك) وحمل ميراث أبيه وأجداده، تنكّب بندقية صدئة، واستطاع أن يدمر دبابة للأعداء، وعلّمني أشياء كثيرة عن الحياة والأرض والديار والجار والنساء والأبناء والأحفاد، ولم أقل لذلك الجذر أنّه أخفق أو ضلَ، ولم أطالبه بجنّة عدن، فجنّة عدن يا بني نهاية، يسعى إليها الإنسان وليست بداية، فجدّك عمل ما رآه صالحاً وكذلك من سبقه، وقمت بما أوكل إليّ، لم يشأ الأنبياء والرسل القضاء على الشياطين، ولم تنجح العلوم الحديثة في استئصال الأوبئة والأمراض، ولن تظلّ القوى العظمى كما هي اليوم، فكلّ يجري إلى مستقرّ.
نهض ابني وابتعد، فلحقت به، فكّرت أني قد أهبه الراحة التي لم أشعر بها، عانيت طويلاً ولم أتمتع بهذا الإحساس مطلقاً.
على خطوة من ضريح يتوهّج بالألوان، ويرفل بالخطوط المذهبة والفضية، توقفنا، تنقلت نظراتنا، فوق الأضرحة المتناثرة، بدا أنّها تغطي وجه الأرض ولا مكان لزائر جديد، أمسك الفتى بيدي وهمس:
- أنت تعلم أني لن أكون آخر المساومين..
أهال الشاب، أكواماً من التراب فوق جثتي، لم أكن ناقماً أو غاضباً أو حزيناً، ذلك حقه، فلقد فعلت ما يفعل، دفنت سيف جدي العتيق، وبندقية أبي الصدئة وجثمانه، تحت أكوام مماثلة، ذلك يحدث دائماً. إنّها حكاية الحياة والموت المستمرة، ولا نهاية منظورة في الأفق.
تناهى إليّ، بعد أن غمرني الصمت والظلام، والبرودة، صوت" الولد" ما كان شجياً، ولم يصاحبه الأسى، أو يلتصق بنبراته الغضب، أو اللوم والعتاب، كان أشبه بصوت الناقوس وكان رنينه ذا صدى، فحسبت أنّ المقبرة وسورها المتهالك، والفضاء، والخلاء الممتد بعيداً إلى ما لا تخوم، وكل ما حجبته عنّي تلال الحجارة والتراب، يحمل الصدى ويردده، كأنما وقعت الواقعة، ونفخ في الصور: - هذا ميراثك يا أبت، منذ أُول المقتولين إلى.. مرج الزهور. إنني أحمله، لكن صدقني، فأنا لا أعرف ما أفعل، وهنا يكمن الخطأ، أو الطامة الكبرى، فالموت يترصد الأنفاس، والجريمة في اسمي ولوني وتفاصيل أيامي. أولادي صفر الوجوه، وامرأتي قاصر، وذوو القربى أيدي سبأ، والغيلان يرمحون بين المشارق والمغارب، والسماسرة يبيعون لحمي، وارتفاع هامتي، وقوائم الراحلين.
هل يبكي الأموات؟ ما اشتقت إلى الدموع، وأكره العبرات من أي مقلة سُكبت، لكنّي والصوت يخترق أسوار الحياة، إلى أنفاق الموت، شعرت برغبة الثكالى إلى النحيب، لكنّ عينيّ مغمضتان، وأنفاسي ساكنة، وفمي مغلق، فكيف أعبر عما بي، وأريح وارثي القابع في شفا جرف هار؟
افتقدت الصوت والصدى، رويداً رويداً، ثم.. لم أعد أسمع شيئاً..
مضى.. زمن طويل والصمت يكسو المقبرة كرداء، لا تراتيل أو آهات، لا وقع أقدام، لا شهداء أو موتى، ماذا يحدث في عالم الأحياء؟ سكن الآباء والأجداد منذ أصبحت من عدادهم، وددت لو تحدّث أحدهم إليّ: أبو ذر، مصطفى، عنترة، علي، إبراهيم، عروة، طارق بن زياد، وجميع الأسماء من أجدادي الأثرياء أو الفقراء، العظماء أو الصعاليك، الشهداء أو حملة الأوبئة والعاهات، أصحاب القصور أو الأكواخ، الذين يعشقون النساء والجواري والغلمان، والذين تضوع ألقابهم بالغار والعفّة والإيمان. لا أحد.. لا صوت.. لا موتى.. هل يقاطعني آبائي وأجدادي؟ ربّما.. لكن الأبناء والأحفاد.. أين هم؟ إلا يموتون أو يستشهدون؟ ألا يزورون قبور موتاهم؟
جاءني صوت ولدي، إنّه صوتي، تذكّرت النبرات والشجن، والدفء الممزوج بالبرودة، والصوت يدنو من ضريحي.. ويستقر فوقه:
- هنا يا بني جميع أجدادك، وهذا قبر أبي، جدّك الأخير . هم عاصروا القوى الغاشمة والامبراطوريات، وعبرت بهم جيوش لا حصر لها، جيوش الفرس والروم والأحباش، المغول والفرنجة واليهود، عرفوا القياصرة والأكاسرة، هولاكو وتيمورلنك وريتشارد قلب الأسد، ملوك الطوائف وأمراء المماليك وسلاطين بني عثمان، الإمبراطورية العثمانية، والمملكة التي لاتغرب عنها الشمس، والاتحاد السوفييتي العملاق، والولايات الاميركية العظمى، وذاقوا الأمرين من دويلة أسموها "إسرائيل"..
لقد قرأت التاريخ يا ولدي، وتعرف أن أجدادك عاشوا مراحل قيام الإمبراطوريات وانهيارها، منذ البداية حتى اليوم.
شعرت وكأنّ الحياة تعاود سيرتها في جسدي، وصوت جديد، هو صوت أحد أحفادي دون شك، يعلو ويعلو، خلت أنه يخاطبني، يتحدّث إلى القبور من حولي، يبسط يديه القويتين، وينزع الحجارة والألوان ومظاهر الثراء والعوز، يبسط الأرض وكأنّها راحة الكف، يخلط ترابها وأشلاء أصحابها، يقلب عاليها سافلها، ويصنع من ثوبي، وأثواب أبي وأجدادي راية كبيرة، يشرعها فوق رأسه لتظلله فترفع البذور هاماتها، وتنفتح الأجداث لهامات ما يخفي الأديم، لتنتصب وتتطاول حتى تعانق السماء.
قال الحفيد:
- ليس من أجل هذا جئت، يا أبت، أنظر.. أنت ترى أن القبور تملأ الخلاء، ولا تترك مكاناً لزرع أو نخيل، بين أصحابها من أتى بأمجاده وقصوره، وهنا من كان لا يملك شروى نقير، ورغم أنهم يعرفون أننا خلقنا لنعمر الأرض، وأن اللعنة تصيب من شرف القبور ورفعها عن الأرض، فقد زينوا مدافنهم وحدها، بالرخام والحديد والألوان. وأحاطوها بالأزهار، وما ينقصهم سوى الخمرة والنساء.. والحراس.. من مثل هذا يا أبت، مات آباؤكم وأجدادكم، وعيونهم حزينة، ورؤوسهم منكّسة، مع أنّكم خير أمة أخرجت للناس.
مرّت فترة صمت، أعقبها سقوط جسد فوق ضريحي، رافقه ارتطام واهتزاز، وتردّد أنفاس متعبة، وعندما استقر كل شيء وهمد، علا صوت الحفيد حاراً، وحازماً:
- ها قد واريت رفاتك في المكان الذي اخترت، ولن أقيم لك نصباً، أو آتيك بحجارة بيضاء وألوان زاهية.
هل يبتهج الأموات ويبتسمون؟ لعلي كنت مبتهجاً، وربما رحت ابتسم، أحببت هذا القادم عبر الزمن، من صلب يمت إلى جذوري، أكان المنقذ أو المخلّص. إنّه حفيدي وتمنيت لو أعود ساعة واحدة إلى الحياة، لأشاهد وجهه وساعديه ونظرات عينيه، تخيلّته قوة لا تقهر، وساعدين يقاومان الحديد، وعينين تواجهان المخرز، ووجهاً كالقمر، يجب أن يكون حفيدي جميلاً وقوياً، ولا تنقصه الشجاعة.
مرة أخرى، انطلق صوت الحفيد، كان يخاطب آخرين ويقول لهم:
- لابد أن نبدأ بالسور، حتى لا يستطيع الأغراب اجتيازه.
ظلّ الصوت يتصاعد، والراحة التي لم أتمتع بها مطلقاً، تتسلل إلى ما بقي مني، كوميض فجر يهتك أستار الليل، كنداء سحري، كنسيم في نهار قائظ، كالنوم لجسد منهك، ثم تلاشى كلّ شيء..