الانـتــصـــار

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : مـحــسن يوســــف | المصدر : www.awu-dam.org

 

قلت لعبيد:‏

- مللت. كرهت نفسي. لم أعد أطيق ما أفعل، وأنني سأنهي كل شيء. لن أدع الحال على ما هي عليه، مهما قست الظروف.‏

عبيد لم يقل شيئاً. أمال رأسه إلى الأمام وأطرق. لم يفتح فمه وينطق بكلمة واحدة. اتقى هياج اللحظة لكي تعبر العاصفة، ويمرّ الأمر بأقل الخسائر.‏

وللحق أعترف أنّني كلّما كبرت في العمر ازددت تخوّفاً من عبيد.. منذ أعوام ربّما منذ حملت الدفاتر والأوراق والكتب والأقلام، وأنا أكتب لعبيد حتى أصبح كاتباً معروفاً. كتبت له الشعر والخاطرة والقصة والمقال والدراسة، وسهرت ساعات الليالي الطويلة، ووصف لي طبيب العيون عشرات العدسات الطبية، لقصر البصر وبعده وانحساره وانكساره. للألم، والوضوح، والصداع ورفيف الأجفان، وتابعت الكتابة، وكان عبيد يرسم اسمه أعلى الصفحات أو يذيلها به، وأكون قد أملت رأسي وأطرقت، ضاغطاً أناملي المتعبة المرتعشة، على مجموعة دريهمات، تقلّ أو تكثر، لقاء ما ملأته من فراغات فوق المستطيلات البيضاء.‏

مع الأيام بتّ أكره هذا العمل. غمر الكره حياتي كلّها. امتد كمادةٍ لزجة غطّت جسدي، واعتقلت نبضي وأنفاسي، وأعترف أنّ الأمر منذ البداية كان مملأ، ومقيتاً إلى درجةٍ تجعل المرء يحسّ بالوضاعة والتفاهة، ومنظر عبيد- وقد حملت إليه أوراقي وتعبي وألم عينيّ الممضّ- وهو يلقي نظرة عجلى لامبالية إلى أحمالي ويزين أعلاها أو أسفلها باسمه، كان يضخم إحساسي بشناعة ما أفعل، ووضاعة من يبيع نفسه بأبخس الأثمان.‏

وفكّرت بنهاية لهذه العلاقة الشائهة، فلم يعد من المحتمل الرضوخ لجبروت عبيد، ولابدّ من إيقافه عند حد، وتحديه ورفض عبوديته المطلقة مهما كان الثمن.‏

أخبرت زوجتي بما قلته لعبيد، وأطلعتها على ما يدور في خلدي، فضحكت ساخرةْ وقالت:‏

- رجلْ مجنونٌ يشتهي أن يوصف بالخرف، ولعلك تعاني من انفصام في أواخر أيامك. كيف تتحدى عبيد ودراهمه تجلب الفرح إلى وجوه أطفالك. أنا لا أنكر أنه فرح قليل، لكنّه أفضل من الجوع والإنتظار.. والحزن على كل حال.‏

يا للمرأة.. هي هي منذ حواء، لا ترتفع نظرتها إلى الأمور عن مستوى أمعائها ورغباتها الآنية. لو كنت دخلت بامرأة من عظيمات الزمان، كانت ستقف إلى جانبي في معركتي الشرسة مع عبيد، تشدُّ من أزري وتقيل عثرتي، وتخفف عنّي ما أعاني من آلام.‏

أملت رأسي وأطرقت. لو أعدت هذه المرأة المنهزمة منذ الولادة إلى عائلتها، سأتهم بالجبروت والتخلف وحب الذات والسيطرة، وإتيان أحرم الحلال إلى الله، وأنا أبعد ما أكون عن هذه الصفات المجتمعة في شخصية عبيد التي أعمل على التخلص من صاحبها والإنتصار عليه.‏

لا.. لن أفتح لغريمي ساحة جديدة، بزجَ هذه المرأة المسكينة في حومة الصراع بيننا. لا عليك يا امرأة، فالحرب القائمة منذ خلقت وعبيد، ساحتها تعرفنا معاً.ولا يحلو الإنتصار إلا على حلبتها وداخل مضمارها، وأنا وعبيد فارساها، ووحدنا حملة راياتها، ولا أحد غيرنا.‏

قلت لعبيد:‏

- النصر لي. وسأنهي هذه المهزلة.‏

ابتسم ابتسامة صفراء ورمى لأحد أطفالي دريهمات لقاء آخر ما كتبته ونُشر مذيلاً باسمه.‏

التقط الطفل النقود. وجرى مسرعاً ومسروراً، ليملأ فمه بقيمتها مما يشتهي ويرغب، ولم أتراجع. قلت له:‏

- لن أنجب من بعد أطفالاً لا ينتمون إلى صلبي. سأتوقف عن الكتابة لو لزم الأمر، وأمارس عملاً شريفاً ولو كان وضيعاً، ولن أبيع عرقي ودموعي وأحاسيسي، وما أعتقد.‏

ظلّت ابتسامته الصفراء ملتصقة بوجهه وكأنه يقول: مت جوعاً.‏

قلت له:‏

- الميدان هو الفيصل هذه المرة، ولا أحد غيرنا، والجدير ينتصر.‏

أعددت كلّ ما يمكن إعداده، ورغم أن الحرب لا تعترف بالمثل العليا والقيم الفاضلة، حاولت جاهداً أن أتيح لخصمي فرصة الدفاع عن النفس، وأردت صراعنا شريفاً، فاضلاً ونبيلاً، وإن كنت أدرك أنّ عبيداً لا يقيم لما أردت وزناً. فالغاية تسوّغ الواسطة، وميكيافيلي وأميره‏

بعض مداميك بنائه الراسخة.‏

كتبت لعبيد قصة عن شخصية تتوسل إلى غاياتها، عن طريق الظواهر غير العلمية، وتستدرّ باستغلالها آلام إنسان بائس، دموع أعضاء لجان التحكيم، وكتبت قصة أخرى عن شخصية خصبة غنية تثري تحوّلات هذا الإنسان الصابر المكافح، رافع الرأس كجبل يقاوم عاتيات العواصف، المضيء كنجمٍ في محيطٍ من الظلام، المستعدّ لبذل دمه من أجل زهرة تتفتح، أو ابتسامة تنمو وتشرق فوق وجه حزين..‏

أرسلنا القصتين معاً إلى مسابقة، وكنت واثقاً من الفوز، فالقصتان من تأليفي، وليس بإمكان أحدٍ اكتشاف مساوىء القصتين ومحاسنهما، أكثر مني.‏

قرأت القصتين لزوجتي، فسفحت دموعاً غزيرةً على الرجل البائس الذليل الذي ينهار من صدمة واحدة ويكفّ عن المقاومة ويستسلم، لكنّها لم تنتظر حتى أنهي قراءة القصة الثانية. قاطعتني مهتاجةٌ:‏

- بطل قصتك مجنون يركب رأسه عناداً وينطح الجدران ويحلم بما لا يعقل، ويظنّ نفسه أنه قادر على إصلاح العالم. إنه غبي مدعٍ غير سوي على الإطلاق.‏

تمنيت أن أوصم بحبّ الذات والتخلف والسيطرة، وأرمي يمين الأجداد ثلاثاً، لكن صوت عبيد جعلني أحجم وأتريث.‏

- لا تستبدل بالإستبداد الطغيان، وبالإنتصار في معركة الهزيمة في معركة تالية، فمتى كانت حال الإنسان مما يقاس بالأطوال أو يحسب بالمساطر. أنا وأنت دخلنا الميدان حسب رغبتك، ولجان التحكيم ستحسم الأمر.‏

قلت وأنا أتميز غيظاً:‏

- إنها جاهلة ومن طينتك. ولهذا وجدت قصتك أفضل.‏

قال باسماً:‏

- ليكن يا صديقي ولننتظر. أنسيت أننا قطبا صراعٍ أردته أنت صراعاً شريفاً وفاضلاً ونبيلاً، فلم لا تنتظر؟.‏

تماسكت أمام الغريم، وكانت زوجتي تبتسم خفية، وأنا أنسحب صامتاً.‏

أعدت قراءة القصتين أكثر من مرة، وفي كلّ مرة كنت أكتشف جديداً في ذلك البطل الملحمي الذي فضّل الموت واقفاً على الانهيار والاستسلام، وشعرت بالحزن والرثاء نحو الرجل الآخر بطل قصة عبيد، فهو لا يختلف عن سواه ممن يتساقطون كل يوم، ومنذ أن بدأ التاريخ والزمن.‏

رجلان على طرفي نقيض، هما صورتا الإنسان في كل زمان ومكان، دخلا الحرب رغماً عنهما، الأول سلّمته رايتي ليدخل ميدان صراع ينهي مأساتي، والثاني حمل اسم عبيد ليدافع عن اسمه وانحرافه ورغباته الآنية.‏

واستمرت الحرب.. وطال الانتظار.. لم يخطر لي في بال ما حدث فيما بعد. فالبطل الملحمي منتصر لا محالة، وعبودية عبيد زائلة إلى غير رجعة، وستقتنع زوجتي أنَّ لا شيء يطاولُ الجبال سمواً ومهابة. وأن الحزن حالةٌ نفسية تصيب الإنسان من جوع وألم كالفرح تماماً، ولابد من تلازم الحالتين وتعاقبهما، حفاظاً على توازن الذات الإنسانية.‏

هذا هو المنطقي والطبيعي، أما ما حدث فما كان منطقياً، وما كان طبيعياً، أحسست أن الزمن يتجمد، وأنني في عالم لا أنتمي إليه أو أنني أسبح في الهواء أو الفراغ، وعبيد يتقدم الصفوف مزهواً وواثقاً، واسمه يعلو في الأفواه كأغنية قديمة ألفتها الأسماعُ، ووقفت مشدوهاً، أشدُّ شعر رأسي وألطمُ وجهي، كثكلى فقدتْ ذكورها جميعاً في الحرب. لكن عبيداً ابتسم لي بود كبير، وحمل الجائزة التي منحت له، واقترب مني بخطوات بطيئة، وعندما أصبح على خطوة واحدة توقّف. أمال رأسه وأطرق لحظة، ثم دفع بالجائزة نحوي، وانسحب بكلّ احترام إلى زاوية نائية من المكان....‏

... رحت أبكي، كان عبيد ينتصر هذه المرة أيضاً، كما انتصر في كل مرة فكرت بالتخلص من عبوديته، ولعله النصر الذي لا يضارعه انتصار...