أذكر أني مذ كنت صغيراً، وأنا مولعٌ بالحيوانات والنبات، كذلك كنت مولعاً بأترابي، أسعد بهم، وأتمنى دائماً أن أقدم لهم شيئاً يحتاجونه، وأشعر بغبطة التفوق إن عملتُ ما هم غير قادرين عليه، كبرت ومازلت أحن إلى عالمهم، ولا أقدر على منع نفسي عن اللعب معهم؛ بل أستحدث لعبة وأبتكر أخرى كي أسعد بسعادتهم.
كنت أحار أمام قوة الموت المفزعة إذ لا أجد لها تفسيراً!. أعتزل وأنفرد فأبكي خوفاً وقهراً، وأكثر ما يقهرني أن تنتهي حياة أحدٍ على يدِ أحدٍ آخر. أُجن وأُشْدَهُ وتصيبني لوثة وأكاد أطق حين لا أستطيع إدراك معنى ذلك، فأركض باحثاً عن جوابٍ في وجوه الناس وأفواههم، فأزداد مقتاً وحيرةً وأنا أسمع كلاماً من قبيل "غسل عاره" أو "أخذ بثأره".
تحيرني تصرفات الإنسان حين يصر على زيادة جمادات الكون على حساب المخلوقات الحيّة. حاولت أن أقول رأيي في القتل ثأراً فلم أجد سوى السخرية والاستهزاء.
اتجهت بعد خيبات إلى الزراعة، فاستكثرتُ العدس وعُنيت بالحمص، وغرست الشجيرات، ربيت النحل، وساعدت النعاج في الولادة، ولقمتُ الخراف أضرع أمهاتها، قلمت الأشجارَ وطعَّمت أصنافاً بأصنافٍ، استنبتُ الورد وما تركت بقعة على السفح إلا جعلتها ذات مردود؛ حتى الصبّار زرعته واستكثرته.
وجدت في الاستكثار عزاءً، وصرتُ أرتاح إذ تنمو مزروعاتي وتَشِبُّ عن طورِها قزاتي ومعزاتي، وحين تطوف المبشرة في حواري القرية تملؤني الفرحة فأطرب لزغردةٍ ترقص في فِناء الدار إعلاناً عن قدوم آدميٍّ جديد. مفرحٌ التكاثر، مبهرٌ التناسل، يهز أعماقي أن أتصور (صبحة) وقد أنجبت لي صبياناً وبناتٍ، أغرس في أعماقهم حبَّ المخلوقات الحيَّة، فعتلمتُ من أمانيِّ هذه ألا أَكِلَّ أو أَمِلَّ على رغم أن الأيام خاشنتني، لكني لم أستكن، بل ازددتُ إصراراً فقابلت عمي وكررت طلبي ورغبتي بأن تصبح (صبحة) زوجة لي، متناسياً كلامه القاسي كلما أبديت رغبتي بالاقتران بـ(صبحة).
مرة قال: ليس لدي عروس لمن لم يغسيل عاره.
صرخت: عمي!.
زمجر: ولا كلمة، دمُ أبيك لن يذهب هدراً.
صحت: عمي!.
قال: أحقاً تريد صبحة؟.
قلت: نعم.
قال: تعال معي..
أسرع فأسرعت وراءه، وفي لحظةٍ قصيرة كالميلمتر، وُضِعْتُ أمام طفلٍ!
قال: اقتلهُ.
نظرت إليه، فكان لا كالصعو، ولا كالزرازير، ولا هو مثل القطا أو فراخ الدرّاج، ولا تشبهه كل المخلوقات التي أحببتها.. كان أجمل.. كان طفلاً.
قلت: لكنه وحيد أمه.
قال: وأبوه قتل والدك قبل أن يخلف غيرك؛ كنت طفلاً.
قلت: أبوه ميت!.
قال: مات مسلولاً. كان رجلاً، أخذ بثأره وهرب، أبقانا نساءً وسنظل مثل النساء ما لم نأخذ بثأر أبيك. اقتله.
الأزهار لطمتني، والقبرات نقرتني، وسحقت رجولتي فتعرت مفاصل طفولتي، وبان عُري روحي كعود النَّعْنَع.
-: اقتله.
-: يا إله الزيتون وطور سنين.
-: وإن لم أفعل؟
-: لست منا.
توجهت نحو البريّة.. جبتها طولاً وعرضاً، فما وجدت مأوى، كنت بلاءً على كلِّ من يعرف سبب حلولي ضيفاً عليه، فقررت وليلاً رحلت إلى ديار أخوالي، فاستضافوني وأسكنوني، فعاودت الزرع والاستكثار، وعفوت عن لحظة شنيعة وُضِعت فيها تجاه طفل لإزهاق روحه، واعتبرتها كابوس ليلٍ بهيمٍ مَرَّ ولن يعود.
جبنٌ، فليكن، عدم مقدرةٍ أو نقص شجاعةٍ، تشكيك برجولتي كما كان منهم. مهما تعددت الأسباب أغفرها لنفسي مقابل أني أنا من رفض أن يقتل طفلاً. رغم أن الضغوط فوق مقدرتي على مواجهتها. إنها إرادة ووجهة نظر الأهل.
لذا هربت، ولتغفر لي ذنب الهروب، ذرات تراب الأرض التي يسري حبها في أدق شعيراتي الدموية.
أشهر مضت وأنا في صمت لا أرغب في الخروج منه، ووحدة لا أحب أن يقتحمها أحدٌ، واليوم اقتحمها رجالٌ وعلى رأسهم خالي.
قال: أباقٍ معنا؟
-: وأين أذهب؟!
قال: لبقائك ثمن إذاً.
-: وما الثمن؟
قال: أن تسمع الكلام، وتنفذ ولا تعارض.
-: يا (خال).. آمل أن تلاحظ أني ما خالفت، ولا أسأت، ولا مارست أو قلت محذوراً مذ أتيت.
قال: نريدك فاعلاً لا مستكيناً.
-: أزرع وأستكثر وأرعى الكائناتِ الحيَّةَ من حولي. انظر.. هذه صبّارة نادرة استطعت استكثار تسع شجيرات منها.
قاطعني: اترك لهوك هذا واسمع الأمر.
-: ما هو؟.
قال: أن تقتل.
فغر فمي وطويت أجنحتي والتوت في داخلي مشاعري وأحاسيسي، ثم تلعثمت وقلت
-: لكني يا خالي كي لا أقتل جئتكم!
قال: نفذِ الأمر لترى عزاً لم يحلم به قبلك ابن أنثى.
-: هذا صعب.
قال: الأصعب ألا تنفذ.
-: وإن لم أنفذ؟
قال: ماذا!؟!
- وإن لم أفعل؟
قال: نسلمك لأهلك، ودمك مطلوب هناك، لأن أمك قتلت ابن قاتل أبيك، ويريدونك به، ونحن نريدك أن تقتل حفيد قاتل جدك والد أمك.
-: يا خالي.. (غيِّر.. بدِّل).
قال: قولٌ فصلٌ.
صار كل شيءٍ مثل أي شيءٍ. شرانق قزاتي استحالت حبالاً تشنق روحي. إني الآن أُساق إلى حتفي؛ إن نفذت وإن لم أنفذ يغتالون روحي. ماذا أفعل؟
كأني أعري صدري وأركض لاهثاً إلى حيث شجيرات الصبّار فأرتطم بأعظمها أشواكاً، وأضمها إلى صدري بذراعي غير آبهٍ باختراق أشواكها صدري والفؤاد؛ وإن سال الدم، فإني أحتمي بها من هول أمرٍ يطاردني