هل أنت نائم؟ أم لا تريد الحديث معي؟ ماذا قال لك الطبيب عن ذاكرتك؟ عندما لا تريد الحديث معي تبدأ في الشخير! أعرفك، ليست هذه هي المرة الأولى...
لم أفتعل الشخير، صدري يصفر من التهاب أصابه منذ أيام، لكن زوجتي تصدق حدسها أكثر مما تصدق الآخرين.
- حدثني ولو مرة كا مرأة كاملة الانسانية !
ماذا أقول لها؟ كم هي طيبة! تريد أن أطرح عرض الطريق أكثر من ألفي سنة ذكورة! ..
- ليست ذاكرتك هي المريضة، أنانيتك، لا تتحدث إذا شئت، حديثك لم يعد يهمني كثيراً..
لا تنسى إطفاء الضوء قبل أن تنام.
قالت ذلك وجذبت الغطاء على رأسها، بعد ما أدارت ظهرها كما تفعل دائماً عندما تكون في مزاجها القاتم.
لم أجبها لأني أعرف أنها لاتصدق إني ذهبت فعلاً لاستشارة الطبيب عن ذاكرتي، كانت تريد أن نذهب معاً إلى بعض المغازات وأروقة البيع في وسط المدينة، وكنت على موعد مع الطبيب فلم تصدق.
يزعجني كثيراً أمر ذاكرتي، صارت لا تبقي شيئاً مماأريد، أأتمنها على أشياء، ثم بعد فترة قصيرة أعود إليها فلا أجد شيئاً، أو أجد أعظم ما اتمنتها عليه قد ضاع!
أتأفف، أتأسف، ثم شيئاً فشيئاً يزول تأففي وتأسفي، أنسى أنني أنسى!
أعود إليها من جديد، أضع فيها ماأظنه ثميناً، قميناً بالحفظ، أوصيها بالحزم، أقول لها: أن المخزون ثمين، يجب أن أجده عند الحاجة، كما وضعته..
تمر الأيام، وتستوقفني حادثة، أو حديث، فأحاول التذكر.... لاشيء! صندوق أمي القديم الذي اشترته أيام زفافها أحفظ من ذاكرتي وآمن!
ثم أفكر: لماذا أنا ضعيف الذاكرة؟ أعرف أشخاصاً يتكلمون الساعات الطوال عن ذكرياتهم بلاتوقف. يقول لك أحدهم: إن أول حبة برتقال أكلت، كانت تشتمل على تسعة أبراج، وأن أول خبر صدر عن ذلك الاجتماع كان بجريدة "المساء"، بحروف كبيرة تمتد على طول الصفحة الأولى...
أنا لا أتذكر شيئاً. عندما تكون زوجتي في مزاجها العسلي تسألني عن اسمها، فيحمر وجهي خجلاً! تنتظر لحظات، ثم تأخذ في سرد الحروف الهجائية العربية التي علمتها إياها، تسردها حرفاً حرفاً، لكن ذاكرتي لا ترى من بين تلك الحروف مايمكن أن يكتب به اسم زوجتي، كأنه اسم من عالم آخر، سكانه من حضارة غريبة لاصلة لها بالبشر! فأبقى صامتاً، تغضب زوجتي غضباً شديداً،وتقول: "هل اسمي أطول من حروفك الهجائية؟ أو أقل منها قيمة؟" لا أجد جواباً يقنعها. أتساءل في نفسي : هل اسم زوجتي أطول من الحروف الهجائية؟ هل هو أصعب منها؟ لا، يقينا، هو يتركب من بعضها فقط، وآخذ من جديد في سرد الحروف الهجائية كما لقنتها في صغري مكتوبة بالصمغ على اللوحة الخشبية. إلى درجة أنني أراها الآن مشخصة أمامي حرفاً حرفاً، بما كانت توحي به إليّ أشكالها من صور، بينما اسم زوجتي هذه النائمة إلى جانبي لا أتذكره!
أسرد كل الأسماء المتداولة في وطننا، الصحيح منها والمحرف، لاسيما ماكان منها على وزن "تفعليلت" مثل تسعديت، و"فعيلة" مثل "دهيلة" ولكن عبثاً، اسم زوجتي ليس هناك! إنه في غيابات جب الذاكرة حيث لايصل إليه ذكر ولا تداع، أليس هذا تحدياً من ذاكرتي! لماذا أتذكر اسم " ماسو" أنا لا أعرفه، لم أكن في الجزائر العاصمة عندما كان هو سيد الجلادين ... ومع ذلك يكفي أن أمر بشارع من شوارع العاصمة التي أعطيت لها أسماء جديدة لأتذكره، ولو لم أمر بشارع العربي بن المهيدي. ماسو ليس من ذاكرتي في شيء، أنا لست مؤرخاً، لكنه يخطر ببالي ضمن سلسلة طويلة من الأسماء السوداء والبيضاء، مثل " غي مولي" عبد الناصر"، هوشي مين"، "نيكسون"، "سالزار" "كابرال" وغيرهم وغيرهم... بل أتذكر حتى من أخذ جائزة نوبل للسلام سنة 1978 !
إن هذا الميكانيزم الغريب، الذي يرتب الأشياء في ذاكرتي ليحّيرني، يبقي مايشاء ويحذف مايريد!..
كثيرة هي الأسماء المضيئة التي يبهج النفس ذكرها، ومع ذلك لا أتذكرها بسهولة، بينما الأسماء المظلمة قلما أجهد نفسي في تذكرها! هل تلألؤ نور اسم زوجتي يبهر ذاكرتي إلى درجة أنها لا تراه من بين الأسماء؟ لماذا إذن أتذكر أيامنا العذبة، عندما كنا خطيبين، نبيت على الأحلام ونصبح على الأماني؟ إنني أراها رأي العين، ببسمتها المحتشمة، وإشاراتها الخجولة بسنواتها العشرين المنادية من وراء فستانها الأرجواني! أتذكر حتى لقاءاتنا الصامتة وصمتنا الناطق! أتذكر السيارة التي زفت فيها عروساً، كانت من نوع "404 - بيحو" يوم كانت السيارات أشياء مرادفة للخيال! يوم أن كان الشاب الشعبي يقول : لا من مات، في كات صان كات" أتذكر عندما دخلت بيتنا وكانت الجزائر لا تملك شيئاً ولكن فيها كل شيء...
لم يكن جلب المواد الغذائية يبرمج في مقدمة المهام اليومية، كان أيّ طفل يمر، يمكن أن يرسل إلى دكان زاوية النهج، فيأتي بما تحتاج إليه ربة البيت، كانت إمكانياتنا المالية محدودة، لكن وفرة المواد كانت تيسر لناسبل التصرف، وكنا سعداء، كنت أنادي زوجتي باسمها، وكانت تناديني باسمي، كان اسمانا خفيفين على اللسان وعلى الذاكرة. لا أحد منا يجد مشقة في النطق باسم الآخر، لماذا تغير كل شيء، حتى أسماء الأشياء.؟ نحن الآن نملك كل شيء ونفتقر إلى كل شيء، تعلقت عيوننا بما لا نملك فنسينا مانملك، وخسرنا راحتنا وأرواحنا!
تتهمني بعدم حبها لأني لا أتذكر اسمها، كيف لا أحبها وهي شبابي الذي لا أنساه، هي وطني فكيف لا أحب وطني؟ عندما أسألها عن اسمها يغضبها سؤالي ولها الحق، كيف يمكن أن تصدق أنني لا أسْخر منها؟ هل يعقل أن يسأل زوج زوجته عن اسمها؟
كثيراً ما أحاول القيام بعملية نقد ذاتي، لكنني أفشل في النهاية، كم من مرة طرحت على نفسي هذا السؤال: لو سألتني هي عن اسمي ماذا يكون موقفي؟ لا جواب، أو لقلت في أحسن الأحوال: " زوجتي مريضة، ولابد من عرضها على الطبيب !"
أحياناً أقول : لماذا لم تتخذ هي موقفاً حاسماً معي، بأن تتحداني فتقول مثلاً:
" لا أبقى مع زوج لا يتذكر اسمي" تقول ذلك بجد وحزم، بحيث أفهم أنها تعتزم فعلاً فراقي، وأتذكر: إنها لا تستطيع فعل شيء مطلقاً، أبواها ربياها تربية منزلية بحتة، إذا خرجت من المنزل ماتت، كالسمكة تخرج من الماء! لأنها لا تستطيع حتى كسب قوتها اليومي، ثم إن القانون لا يعطيها أيّ حق في المطالبة بالطلاق، لو طرحت قضيتها على أيّ قاض، وقالت له مثلاً: زوجي نسي اسمي، لا يتذكره بتاتاً، لذلك أريد الطلاق، لا يمكن أن أبقى من زوج يستخف بي إلى درجة نسيان اسمي"، ماذا ترى يكون رد القاضي؟ لأفرض أنه يحب زوجته مثلي، ويتذكر العواطف النبيلة، التي تربط بين زوجين، أتخيل أنه يقول لها في أحسن أحواله النفسية: " إن مشاكل الحياة معقدة، ياامرأة، لوكنت رجلاً لأدركت مانحيا فيه نحن الرجال.... احمدي الله أن رفع عنك " القلم" وكل تكليف مالي " .
لكن القاضي لايقول هذا، القاضي ليس زوجاً، وظيفته تمنعه أن يتكلم بهذه اللغة الساذجة. ماذا يبقى من هيبته وسلطته، إذا تكلم لغة الأزواج الذين فقدوا ذاكرتهم؟ السلطة لها قوانينها وأصولها، إنها لا تبقى سلطة بدون إثارة الإحساس بالخوف، لذلك أعتقد أن القاضي يرد عليها بحسم: " لاحق لك في الطلاق، الطلاق لمن أخذ بالساق"!
ما أجملها كنابة فقهية : الطلاق لمن أخذ بالساق! لاحياء في الدين! إنها لغة العربي القح! زوجتي مسكينة ،هاهي ذي نائمة إلى جانبي، لا تدري أني أفكر في كل هذا مكانها! وأعرف أنها لا تستطيع فعل أيّ شيء من هذا القبيل، ربما أدركت بحدسها النسوي واقعها، لذلك جعلتني أعيش في حرمان متواصل، حتى من المواد التي اشتريها من السوق " البيضاء"!
أطلب أيّ شيء فتجيب في الحال : "ماكانش، خلاص"!، لها ذاكرة فيل بكلمات النفي والسلب، تحفظ من مترادفاتها مالا تضاهيه :" جواهر الألفاظ"، لقدامة بن جعفر البغدادي!
ماذا أفعل؟ هل يعقل أن أتغرب من أجل أكلة أو شربة؟ هل يعقل أن أنهي حياتنا الزوجية لأنها لم تلب لي رغبة زهيدة؟..
قلت لها ذات مرة : " أنت وطني الذي وهبته روحي وحياتي"، ردت علي في الحال بما معناه : وطنك لم تنس اسمه، لأنك لست شيئاً في أوطان أخرى، ألم تقل، أنك تحمله معك في وجهك ولسانك؟ أما أنا المسكينة فمن يذكرك باسمي؟ شبابي؟ لقد شربته ولما تسل جداوله، مالي؟ أبي أوصى بمنع بناته من الميراث، قال : إنها عادة الأجداد، أرضنا تبقى تحت اسمنا الأبدي، لايمكن بحال من الأحوال أن تنتقل إلى غيرنا بسبب أنثى، لم يرد مجيئها إلى الوجود أحد! قال : الأرض كالاسم العائلي لا ينقل إلى أجنبي! من يذكرك أنت باسمي؟ أحزنني كلامها، فهمت منه أكثر مما في كلماته، ومع ذلك لم أتذكر اسمها!
أشعر بأجفاني تزداد ثقلاً حتى لكأني نائم! لم لا أغادر الوطن، وكل ماأعرف ومن أعرف، لأبحث عن اسم زوجتي في أوطان أخرى، لعل البعد يزيح عن ذاكرتي الأشياء الغثة التي تتراكم عليها كل يوم أكثر.؟ لم لا أغادر كل هذه التفاهات والمنغصات العابرة التي أنستني أعز حلم؟
أجل! زوجتي أعز حلم!
إنني أشعر بعينيّ تغوصان في أعْماقي حتى لكأني أدخل في عالم آخر! إنني أحلم، لاشك في ذلك، لقد نمت ولم أدر، أراني أحلق في فضاء رحب رحب! ما أراه ليس من محض الخيال، بل هو حلم! ها أنا أراني في سماء بنفسجية، ناسياً كل مايربطني بالأشياء الصغيرة .
كلما أعلو تزداد السماء علواً وامتداداً! السماء ليست سقفاً كما كنا نتخيلها ونحن صغار، ونجومها ليست قناديل! كم هو جميل التحليق بلا أجنحة، وبلا اتجاه! لكن السفر صعب بلا رفيق! من هذه الأعالي الممتنعة في العلو أرى سحاباً كثيفاً يقترب بسرعة مذهلة في شكل جبال ضخمة متراصة، ارتطم به في ذعر، لكنه لا يصمد أمامي! أنفذ من السحاب إلى صحراء قاحلة تبرية الرمال، ما أشد الفرق بين التحليق والتعثر في الرمال! أين أنا؟ ولماذا جئت إلى هنا؟ بل من ألقى بي هنا؟ أشعر بالعطش يلتهب في حلقي، لا واحة ولا حياة على مدى الرؤية، يجب أن أمشي ولو في خط دائري، الاتجاهات متساوية، وحظي في العثور على الماء في هذا الاتجاه أو ذاك متساو أيضاً، الحركة في الرمال كالحركة في السلاسل تغل الرجلين..!
في لحظة السقوط يتشكل أمامي أمل في صورة سراب! أحث السير، يتلاشى "ماء" السراب، وتبقى الرمال وحدها بجفافها ولهيبها وأتذكر : لو كان اسم زوجتي كهذه الرمال لما نسيته؟ لا أدري كم مشيت، ولا إلى أين وصلت، أسقط على الأرض، وفي سقوطي يقف أمامي شيخ يشبه رعاة العصور الأولى! العصا طويلة تصل إلى كتفه، الشعر أبيض أشعث وأغبر، الملابس رثة، النظرات واسعة تحتضن الأفق، يشير إليّ أن أتبعه أحاول القيام بكل مابقي في نفسي من أمل، أرى رجليه لا تلمسان الرمل، بل تتحركان في الهواء، إنه يمشي في الهواء مشياً عادياً! أو لعل رؤيتي كلت فلم أعد أفرق بين رجليه والرمال! كل خطوة أخطوها يتضاعف شعوري بالعطش والتعب، أحاول جاهداً أن أحرك رجليّ فلا تتحركان، كأنهما غرستا في الرمال غرساً، يلتفت الشيخ إليّ فيرى حالتي تلك، ينظر إليّ برهة ثم يفتح جناحيه، وإذا بواحة تنتصب أمامي! أشعر برطوبة تحت قدمي، أحس بنسمات تهب في وداعة ولطف على وجهي، يشير إليّ الشيخ بالجلوس، أجلس، أجد رجلي في بركة ماء لازوردية الزرقة! أنتعش، ويبرز رأس زوجتي من البركة! غريب ماأرى؟ إنها تضحك في براءة الطفل. في يدها طاس بلوري ممتلئ تناولني إياه، أشرب بلهفة ماء لا أعرف أعذب منه! ينطفئ مارج اللهب الذي كان يتلظى في صدري، بمجرد انتهائي من الشرب يختفي الطاس وتختفي زوجتي بصورة غريبة! يزول عطشي نهائياً، كأني لم أعرف عطشاً في حياتي مطلقاً: يضم الشيخ ذراعيه إليه، فينمحي كل شيء وتبقى الرمال وحدها، ممتدة امتداد الفضاء أمامي يساورني الخوف، وأنا أحيا في هذا الجو السوريالي الغريب! أخشى أن يلحقني عطش جديد، أقوم وأتوسل إلى الشيخ :" إنني تهت في الرمال، ولولاك لهلكت، أرجوك لقد تساوت الاتجاهات أمامي، وتساوت الآفاق، فلا أدري أين أتجه! أريد الرجوع إلى وطني، هل تعرف الطريق إليه؟ دلني عليه، أرجوك!"
ينظر إليّ نظر المشفق الساخر معاً، ثم يفتح ذراعيه كمن يحتضن الفضاء، ويقول وهو ينظر إلى المدى البعيد: "هذا كله وطن للإنسان، ألست من الأرض " ماذا يقول هذا الشيخ؟
كأنه أممي لا يؤمن بوطن! أنا أبحث عن وطني أنا وهو يتكلم عن وطن الإنسان! لما رآني لم أجبه، ظن أنني لم أفهمه، فقال :" الأرض متشابهة، هي واحدة، والإنسان فيها واحد. الأوطان كلمات وهمية وضعها الأقوياء ليحكموا بها الأغبياء. الذي يبحث عن الوطن في الأرض كالذي يبحث عن الجنة في السماء!".
لم أفهم جيداً مايرمي إليه، سكت، وراح ينظر إلى الفضاء البعيد، كأن الكلمات بدت له أكبر من رأسي! أود لو أعرف كيف يتصورني الآن، ترى من يكون هذا الشيخ؟ هل هو درويش سائح على وجهه، أو ملك من ملائكة السراب؟!
لم أكد أشرع في التفكير فيه حتى قطع في ذهني أفكاري:
" لست كما تتوهم، إن الحلم الذي دفع بك إلى السفر هو نفس الحلم الذي يدفع بك الآن إلى الرجوع، إنك لم تسافر ولم تبرح مكانك، فلماذا تفكر في الرجوع؟ إنك في مكانك من الأرض حيث كنت تبحث عن شيء في الفيافي وهو في نفسك!"
- نعم، نعم، هو في نفسي، لكني نسيته، إنه اسم زوجتي، نسيت اسمها، إنني أتعذب، أرجوك...
- زوجتك؟
- نعم، نسيت اسمها، دلني عليه، إن كنت تعلم مايضيع في الضمائر، أو دلني على طريقة أتذكره بها ولا أنساه أبداً، أنت الذي يبدع الواحات في الرمال القاحلة، دلني، أتوسل إليك بمن تحب. لقد نسيت اسم زوجتي. كلما حالت أن أتذكره، عرضت عليّ هذه الذاكرة اللعينة صوراً بلا ترتيب، تمثل مشاهد البؤس التي يعرضها برنامج منظمة الأمم المتحدة للتغذية في التلفزيون، أو مشاهد الحروب والمجاعات وقوافل الأيتام والمشردين واللاجئين، مع أني لا أبحث عن هذه الصور مطلقاً، لأني لست في حاجة إلى تذكرها، هي تتجدد في كل لحظة وأمام كل عين، حتى فقدت كل تأثير..
- صف لي زوجتك..
- هي، هي كالذهب رواء و....
قاطعني قبل أن أتم وصفها كما أتخيلها الآن وأنا هنا في هذه الرمال ..
- لاشك أنك فقير، تصف زوجتك بالذهب!
عفواً، أردت أن أقول : هي عرجون في نخلة من نخيل الواحات....
- إذن أنت جوعان!
بنفس السخرية المازحة قال ذلك، حاولت أن أتدارك هفوتي، وأصف زوجتي بما لا يقتنى، أو يؤكل:
- لا، لا، أردت أن أقول هي شمس ولكن أجمل، جدول ولكن أعذب، أغنية ولكن أطرب،هي حب ولكنها أرحب!
- أرحب من الحب! كيف نسيت اسمها إذن؟ ليس هناك ماهو أرحب من الحب سوى الحرية!
- هي، هي! اسمها " حرية" يالسعادتي تذكرت اسم زوجتي!
- يبدو أنك لا تحبها كثيراً، ذهبت تبحث عنها في الفيافي وهي في نفسك!
- في نفسي؟ كيف ذلك؟ حبها في نفسي، نعم، لكن الشيطان أنساني اسمها، وأنستني إياه الحياة وأشياء أخرى. لقد تشكل ضباب كثيف غطى اسم زوجتي في ذاكرتي..
- متى تزوجتما؟
- منذ مدة طويلة، منذ شبابي الأول!
- زواجا واحداً فقط؟
- وكم تريد أن يكون؟ هل هناك من يتزوج بامرأة زواجات عديدة؟
- لابد أن تجدد زواجك بها كل يوم، إذا كنت، كما تقول، تحبها، وإلا ضاعت منك هي نفسها، لا اسمها فقط..
- ماذا يقول هذا الشيخ الغريب؟ أنا أتحدث عن زوجتي وهو يتحدث عن لست أدري ماذا؟ لاشك أنه لم يفهمني، أو أنه من عالم آخر، يتزوج فيه الرجال والنساء كل صباح !
- نعم، كل صباح!
غريب، سمع مادار في نفسي! قال ذلك وارتفع في الفضاء كالبراق!
وداعاً أيها الشيخ الجليل، ذكرتني باسم زوجتي، رويتني بعد أن كاد العطش يهلكني، وداعاً، أعاهدك، ولو لم تفهمني أو لم أفهمك، أنني لن أنسى أبداً اسم زوجتي منذ اليوم : حرية، حرية، حرية !
- قم يارجل، قم، مالك تهذي؟ على من تنادي : حورية، حورية؟!
- ماذا، أنا في الفراش، كنت أحلم إذن! زوجتي تهزني بغضب:
- أفق، من " حورية" هذه التي تحلم بها وتنادي عليها حتى في المنام؟ قل : من هي؟
- لاشيء، حلم فقط، كنت أبحث عن اسمك، في قفار عذراء، لو تعلمين!
- ماهذا الكلام؟ اسمع، لا تشعر عليّ، لست غبية، من "حورية" هذه؟ أين عرفتها؟ ليس من الممكن إقناعها بحلمي، وبهذا الاسم الغريب الذي ظننته في المنام هو اسمها! فكرت أن أقول لها: " أنت سجن لست حرية" لكنني عدلت عن ذلك، الليل مازال أمامنا طويلاً، وكلانا كان في حاجة إلى النوم.
- إذن، أنت على علاقة بـ "حورية" هذه؟
نظرت إليها بكل ماأستطيع من حنان، ومن شفقة أيضاً، وكنت أعرف أنه لابد من اقناعها بجواب مهما كان، والا بتنا في ظلام:
- عرفتها في السجن!
- ومازالت تتذكرها إلى الآن! كيف عرفتها؟ هل مازلتما على اتصال؟
- منذ زواجنا أنقطع الاتصال بيننا..
- تكذب، لو لم تكونا على اتصال لما تذكرتها بعد هذه السنين الطويلة، ولما نسيت اسمي! استوت جالسة في الفراش بغتة، كمن تذكر شيئاً وقالت بسخرية:
- قل لي، إذا عرفتها قبل أن تتزوج، فهي الآن بدون شك عجوز، "حوريتك" هذه!
لم أجبها، حاولت أن أستعيد حلمي وأحاول الوصول إلىهذا اللغز، الذي طرحه عليّ الحلم، أو طرحته عليّ ذاكرتي، لكن مالفائدة؟ اسم زوجتي الحقيقي لم أتذكره، الأفضل أن أنام، بدل اليقظة في الظلام!