اقتطف صالح رمانة محمرة في اصفرار، تفتقت جوانبها من النضج، وجلس على حجر مستو قرب الساقية، وراح يتأمل شجرة الرمان التي عاد إليها شبابها كأجمل مايكون الشباب، أغصانها تدلت على الأرض من ثقل ماتحمله من ثمار مختلفة الأحجام والألوان والادراك، وتحول بصره من الشجرة إلى الساقية التي أعيد بناؤها في مجراها الأصلي من جديد، بفضل جهوده هو ورفاقه من الشبان. إن بين هذه الساقية وشجرة الرمان علاقة غرامية ممتدة في أعماق الزمن، وفي أعماق الأرض! تنهد صالح في اغتباط حزين : كم تمضي الحياة بسرعة، وكم تتغير! أين هو ذلك اليوم الذي جاء فيه إلى هذه القرية، لأول مرة وهو طفل، مع "والديه" الجديدين، الذين كفلاه بعد يتم وأوياه بعد ضياع، بلخير ذلك الرجل الطيب الذي استشهد له ولدان ولم يحدث بحزنه أحداً، وتسعديت، تلك المرأة الرؤوم الحنون التي رغم مصابها الجلل في ولديها، كتمت ألمها وحزنها وزغردت لاستشهادهم في سبيل الوطن، فضربت بذلك أروع أمثلة صبر وكرامة المرأة الجزائرية، ثم لما عرض عليها أمر كفالة الطفل اليتيم صالح، فتحت ذراعيها وقلبها واحتضنته بكل مافي نفسها من رحمة وحنان. ويصبح للطفل اليتيم "والدان" يحدبان عليه بعطفهما ورعايتهما وحبهما. يموت بلخير الرجل الطيب، وتتبعه زوجه الودود، ويبقى صالح وحيداً كما كان، لكنه في هذه المرة تجاوز سن اليتم والطفولة، واصبح فتى قوياً. مضى كل ذلك الآن، صالح صار رجلاً، ينظر إلى المستقبل الذي هو بصدد بنائه مع رفاقه من إخوانه البناة، فإذا ماتذكر الماضي فلكي يبني أكثر . الحياة كهذه الرمانة، قصتهما متماثلة، وتبدأ بالماء، بلا ماء، لاحياة ولا رمان! تقع هذه الرمانة على مدخل بستان بلخير، كحارس أمين، أو كمستقبل ضاحك يرحب بالداخلين! تجري من تحتها ساقية رقراقة، تغني لها أغنية الري الأبدية، التي يدندن بها كل ظمآن، وتنقل إليها من ينابيع الصخور ماء صافياً هو العذوبة تسيل. إن هذه الرمانة عرفت في حياتها الطويلة المتقبلة أجيالاً من السكان:"عرفتهم أطفالاً تحتها يلعبون، شباناً وفتيات في كنفها يتهامسون بكلمات الحب الأولى الندية التي تخّضرّ لها الصحارى القاحلة! عرفتهم رجالاً ونساءً يأتون لاقتطاف ثمارها عندما تدرك ووتصبح رماناً ممتلئاً مورّد القسمات. وتأتي حرب التحرير، وتفرغ القرى الجبلية من سكانها، فيسودها الإهمال ثم الخراب، ويعيث السيل فساداً في الأرض فيخددها ويجرف ما اعترض سبيله من أتربة وحجارة ،وتتهدم الساقية التي تشرب منها الرمانة، ويمتص الجفاف ماتختزنه أغصانها وجذعها من ماء، وتهرم ويعطيها الهرم من بشاعته أقبح صورة ! وتنتهي حرب التحرير بالنصر، لكن الناس يجدون أنفسهم مشتتين، معظمهم فقد سكناه وأملاكه، ويأخذ نداء الطفولة البعيد، ينادي في الناس بالعودة إلى مساقط رؤوسهم، ويعود سكان آخرون ممن لم تفتح لهم المدينة أحضانها، فأبقتهم على الهامش! ويشرع العائدون في ترميم بيوتهم، أو إعادة بنائها من جديد. تدب الحياة في القرية: تثغو الخراف والجديان في الحقول، تنبح الكلاب، تتصايح الديوك.. وتنطلق نايات الرعاة عازفة للعائدين ألحان القرية الشجية، تعود الحياة إلى البساتين المهجورة، فتكسو الخضرة أشجارها العارية. ترمم الجداول فتجري لماعة متلألئة هنا وهناك، لكن شجرة الرمان تبقى جذعاً بلا أغصان ولا أوراق! ذات ليلة، وقد حل موسم الحراثة، قال بلخير بنبرة حزينة: - هذه السنة نبدأ الحرث بلارمان ! - بلا رمان ؟! قالت تسعديت ذلك بدهشة. - من أين نأتي به؟ رمانة الساقية التي كانت في الماضي تعطينا الرمان فنأكل وندّخر يبست، لم يبق فيها مايصلح سوى للاحتطاب،سأحتطبها متى وجدت الوقت لذلك. - لماذا لا تشتري الرمان من السوق؟ بتعجب رد عليها بلخير : - مالك ياامرأة؟ أأنستك الحياة بضواحي المدينة سنوات، تقاليد القرية وعوائدها؟ إن الرمان الذي نكسره على المحراث قبل الشروع في الحرث، يجب أن يكون ملكاً لنا، من غرسنا، لا من السوق! صالح لايعرف عن شجرة الرمان، إلا ماسمعه من أحاديث بلخير وتسعديت عنها، عندما يتحدثان عن ذكرياتهما بالقرية، لكن كلمة " احتطاب" هذه الشجرة أحزنته. لم يدر لماذا؟ فقد تكون أحاديث حاضنته عن رمان هذه الشجرة، الذي لا يوجد مثله في الدنيا، كما تقول دائماً هو الذي مكن لهذه الشجرة أن تحيا في نفسه! على أية حال،أحس أن عليه أن يحول دون احتطابها، لكن كيف يعمل؟ هو لا يستطيع التدخل في الحديث بين الكبار، تقاليد القرية تأبى ذلك، عليه أن يستمع لما يقال فقط، لكن أمر هذه الشجرة يهمه، يجب أن يفعل شيئاً، أن يقترح اقتراحاً واحداً، أن يقول لكافله :" لماذا لا نسقى هذه الشجرة حتى تعود إليها حياتها الأولى. "وأفصح عن ذلك لمربيه . - من أين نسقيها؟ الساقية القديمة تهدمت، لماشرعنا في إعادة ربط البساتين بمجرى الوادي قرر السكان إقامة ساقية جديدة، لا تمر بالمجرى القديم، لأن السيل حفر الأرض فصيرها أخاديد.وإعادة بنائها في مكانها السابق تستلزم أموالاً ضخمة لاقبل للسكان بها. فكرصالح أن ماقاله بلخير يقطع كل أمل في إعادة بناء الساقية القديمة، لتمر بالرمانة كما كانت. وأحزنه أن تحتطب هذه الرمانة المسكينة التي رسمت صورتها في نفسه وخياله أحاديث تسعديت. بعد ما انتهى بلخير من قطع الشجرة، أخذ يحفر حول جذورها لاستئصالها، وإذا بصالح يعترضه، ويمسك بقبضة الفأس، وينظر إليه في توسل. - مالك؟ لماذا تعترضني هكذا؟ - أرجوك ياعمي، لا تقطع جذورها! دعها.. - أدعها لماذا .؟ مالفائدة في ذلك .؟ اقتلاعه أولى، نحن في جاجة إلى الحطب، والشتاء على الأبواب. - أرجوك، أرجوك! أنا أسقيها.. نظر بلخير إلى الطفل بعطف وربت على كتفه: - إنها ماتت ياولدي، ماتت لا فائدة في سقيها، الجذور الميتة لا تسقى! ترقرقت الدموع في عيني صالح، لكنه كرر رجاءه: - لا، ليس كل الجذور، ياعمي، جذور هذه الشجرة لم تمت، أنظر إليها، أنا أسقيها، تأمل بلخير ملياً في الجذور والطفل على التناوب، ثم رفع الفأس ووضعه على منكبه: - طيب، إذا كان بقاؤها يسرك فليكن ذلك. وعادا معاً إلى البيت، وعينا صالح تشعان سروراً وأملاً، وصاح وهو داخل إلى "أمه": - لم نقطع الجذور! آلى صالح على نفسه أن يسقي جذور الرمانة كل يوم مرتين، صباحاً ومساءً،ونفذ قسمه. لم ينتبه أحد لعمله ذاك، ذات يوم رآه بلخير يحمل سطلاً: - إلى أين بهذا السطل؟ - لأسقي الرمانة.. - الرمانة؟ أيّ رمانة؟! وكأنه قد نسي الرمانة... - رمانة الساقية.. ابتسم بلخير في شيء من الحزن، لقد أحيت في نفسه الكلمة صورة تلك الرمانة العظيمة ذات الظلال الوارفة والثمار الطيبة، التي أيبستها الحرب. كان يقول في نفسه: " لا ينفع فيها سقي ياولدي، لقد كانت تشرب من ساقية تمر بها معظم أيام السنة". انطلق صالح إلى العين، وبلخير يتابعه بنظرات امتزج فيها العطف باليأس، وفكر أن ينتظره عند مكان الشجرة ليرى كيف يسقي. عاد صالح بسطل ممتلئ، وأراقه على الجذور، فسال الماء خيوطاً ملتوية مع انحدار الأرض، هز بلخير رأسه كالمتأكد مما كان يتوقعه: - هكذا، لا ينفع سقي يابني، ألا ترى انحدار الأرض؟ إن الماء الذي تفرغه يضيع فيما لا يفيد، ينبغي بناء حوض حول هذه الجذور، وملؤوه بالتراب المسمد بأرواث الحيوانات، لتتغذى العروق، إن بقي فيها ما يتغذى! هيا معي نجمع الحجارة لبناء حوض. أحس صالح بالسرور يغمره وهو يرى " والده" يهتم مثله بهذه الشجرة، ويشاركه في عمله مشاركة الند للند! تم بناء الحوض. ملئ تراباً ممزوجاً بأرواث الحيونات التي هي لدى الريفيين أحسن سماد. واصل صالح سقيه اليومي للجذور، قبل الذهاب إلى المدرسة وبعد العودة منها. مرت شهور الخريف وتبعتها شهور الشتاء، وصالح لا ينقطع عن سقي الجذور. وجاء الربيع، وأخذت الأشجار تزهر، ثم تورق، لكن جذور الرمانة لم تنبت شيئاً، وكان بلخير كلما مر من هناك تفقد الحوض، لكن الجذور بقيت جذوراً! لم يثن ذلك عزم صالح، واصل السقي والعناية بالحوض، وقلع الحشائش التي تنبت فيه، خشية منافسة ماكان ينتظره! ذات يوم، لاحظ نبتة لاتشبه ماتعود أن يراه من نبات! إنها ذات ساق صغيرة، وريقاتها خضراء في اصفرار، لكنه لم يرد أن يخبر بذلك أحداً. خشي أن تكون النبتة ليست من جذور الرمانة، بل من فصيلة أخرى. لم تمض أيام حتى كبرت الساق بنحو عشر سنتميرات، ولكي يتأكد من هذه النبتة الغريبة، ذهب إلى بستان مجاور، به شجرة رمان، وراح يتأمل أغصانها وأوراقها، فلاحظ شبهاً كبيراً بينها وبين شجرته، فاقتطع غصينة منها وعاد إلىالحوض، غرس الغصينة بجانب شجيرته، فإذا هما شيء واحد! إنها شجرة رمان لاشك في ذلك! ملأ الفرح والخوف نفسه، فلم يدر أيصدق عينيه، أم يصدق ماسمعه من أن الجذور اليابسة لا تحيا؟ واحتار، أيقول لبلخير، أم يتريث؟ وعاد يتأمل الشجيرة من جديد. إنها تبتسم له! تقول له : " أنا هي. أنا رمانة الساقية!، لم أمت، الجذور الصالحة لا تموت! أنا رمانة الساقية، لقد حييت، حييت ياصالح! يا صديقي الحبيب!" ياللفرحة! ياللسعادة! ياللعمل يثمر! أحس صالح أن كل مافي الأرض يناديه ويغني له! انطلق جارياً إلى البيت، وكل ماحوله يرقص. أخبر بلخير، لم يصدق بلخير، قال في نفسه: " إنه واهم عشبة ظنها رمانة. من أين له أن يعرف شجر الرمان، ولاسيما الخلف الصغير : " لكنه لم يشأ تخييبه، قرر أن يرافقه إلى البستان، ليحاول التخفيف من الخيبة المحققة التي تنتظر الطفل. جلس القرفصاء أمام الحوض، رأى الشجيرة . راح يتأملها ويتلمس وريقاتها بأنامله، كأنه فعل ذلك ليتأكد مما ينقله إليه بصره،ثم صاح : - سبحان الله العظيم! إنها هي، شجرة الرمان! رمانة الساقية! لم تمت، لم تمت! احتضن الطفل ورفعه إلى السماء: - لم تمت، لم تمت رمانة الساقية ! قبله على جبينه وهولا يدري كيف يعبر عن هذا السرور الذي غمره في لحظة، ولا كيف يشكر هذا الطفل الصالح، الذي كفله فأسعده! إنه يتخيل الشجيرة تنمو أمامه، وتنمو، وتعود كما كانت، شجرة ضخمة، ظليلة، مثمرة، تلتهم الأشعة من السماء، وتكرع المياه العذبة من الأرض، من ينابيع الصخور! ياللجذور الطيبة تحيا! حمل الطفل بين ذراعيه، دون أن يشعر، وانطلق إلى البيت ليزف البشرى إلى تسعديت، ليقول لها: " إن الجذور الطيبة لا تموت!" وتمضي الأيام تلو الأيام، وشجيرة الرمان تنمو، وتنمو... والآن، هاهوصالح الطفل صار رجلاً! هاهي الجذور اليابسة أشجرت، مثقلة بالثمار! هاهو الماء العذب يجري رقراقاً ليغوص في أحشاء الأرض، بعد ما أعيد بناء الساقية من جديد! كم تمضي الأيام بسرعة! كم تتغير الأمور!
اقتطف صالح رمانة محمرة في اصفرار، تفتقت جوانبها من النضج، وجلس على حجر مستو قرب الساقية، وراح يتأمل شجرة الرمان التي عاد إليها شبابها كأجمل مايكون الشباب، أغصانها تدلت على الأرض من ثقل ماتحمله من ثمار مختلفة الأحجام والألوان والادراك، وتحول بصره من الشجرة إلى الساقية التي أعيد بناؤها في مجراها الأصلي من جديد، بفضل جهوده هو ورفاقه من الشبان.
إن بين هذه الساقية وشجرة الرمان علاقة غرامية ممتدة في أعماق الزمن، وفي أعماق الأرض! تنهد صالح في اغتباط حزين : كم تمضي الحياة بسرعة، وكم تتغير! أين هو ذلك اليوم الذي جاء فيه إلى هذه القرية، لأول مرة وهو طفل، مع "والديه" الجديدين، الذين كفلاه بعد يتم وأوياه بعد ضياع، بلخير ذلك الرجل الطيب الذي استشهد له ولدان ولم يحدث بحزنه أحداً، وتسعديت، تلك المرأة الرؤوم الحنون التي رغم مصابها الجلل في ولديها، كتمت ألمها وحزنها وزغردت لاستشهادهم في سبيل الوطن، فضربت بذلك أروع أمثلة صبر وكرامة المرأة الجزائرية، ثم لما عرض عليها أمر كفالة الطفل اليتيم صالح، فتحت ذراعيها وقلبها واحتضنته بكل مافي نفسها من رحمة وحنان.
ويصبح للطفل اليتيم "والدان" يحدبان عليه بعطفهما ورعايتهما وحبهما.
يموت بلخير الرجل الطيب، وتتبعه زوجه الودود، ويبقى صالح وحيداً كما كان، لكنه في هذه المرة تجاوز سن اليتم والطفولة، واصبح فتى قوياً.
مضى كل ذلك الآن، صالح صار رجلاً، ينظر إلى المستقبل الذي هو بصدد بنائه مع رفاقه من إخوانه البناة، فإذا ماتذكر الماضي فلكي يبني أكثر .
الحياة كهذه الرمانة، قصتهما متماثلة، وتبدأ بالماء، بلا ماء، لاحياة ولا رمان!
تقع هذه الرمانة على مدخل بستان بلخير، كحارس أمين، أو كمستقبل ضاحك يرحب بالداخلين! تجري من تحتها ساقية رقراقة، تغني لها أغنية الري الأبدية، التي يدندن بها كل ظمآن، وتنقل إليها من ينابيع الصخور ماء صافياً هو العذوبة تسيل.
إن هذه الرمانة عرفت في حياتها الطويلة المتقبلة أجيالاً من السكان:"عرفتهم أطفالاً تحتها يلعبون، شباناً وفتيات في كنفها يتهامسون بكلمات الحب الأولى الندية التي تخّضرّ لها الصحارى القاحلة! عرفتهم رجالاً ونساءً يأتون لاقتطاف ثمارها عندما تدرك ووتصبح رماناً ممتلئاً مورّد القسمات.
وتأتي حرب التحرير، وتفرغ القرى الجبلية من سكانها، فيسودها الإهمال ثم الخراب، ويعيث السيل فساداً في الأرض فيخددها ويجرف ما اعترض سبيله من أتربة وحجارة ،وتتهدم الساقية التي تشرب منها الرمانة، ويمتص الجفاف ماتختزنه أغصانها وجذعها من ماء، وتهرم ويعطيها الهرم من بشاعته أقبح صورة !
وتنتهي حرب التحرير بالنصر، لكن الناس يجدون أنفسهم مشتتين، معظمهم فقد سكناه وأملاكه، ويأخذ نداء الطفولة البعيد، ينادي في الناس بالعودة إلى مساقط رؤوسهم، ويعود سكان آخرون ممن لم تفتح لهم المدينة أحضانها، فأبقتهم على الهامش!
ويشرع العائدون في ترميم بيوتهم، أو إعادة بنائها من جديد. تدب الحياة في القرية: تثغو الخراف والجديان في الحقول، تنبح الكلاب، تتصايح الديوك.. وتنطلق نايات الرعاة عازفة للعائدين ألحان القرية الشجية، تعود الحياة إلى البساتين المهجورة، فتكسو الخضرة أشجارها العارية. ترمم الجداول فتجري لماعة متلألئة هنا وهناك، لكن شجرة الرمان تبقى جذعاً بلا أغصان ولا أوراق!
ذات ليلة، وقد حل موسم الحراثة، قال بلخير بنبرة حزينة:
- هذه السنة نبدأ الحرث بلارمان !
- بلا رمان ؟!
قالت تسعديت ذلك بدهشة.
- من أين نأتي به؟ رمانة الساقية التي كانت في الماضي تعطينا الرمان فنأكل وندّخر يبست، لم يبق فيها مايصلح سوى للاحتطاب،سأحتطبها متى وجدت الوقت لذلك.
- لماذا لا تشتري الرمان من السوق؟
بتعجب رد عليها بلخير :
- مالك ياامرأة؟ أأنستك الحياة بضواحي المدينة سنوات، تقاليد القرية وعوائدها؟ إن الرمان الذي نكسره على المحراث قبل الشروع في الحرث، يجب أن يكون ملكاً لنا، من غرسنا، لا من السوق!
صالح لايعرف عن شجرة الرمان، إلا ماسمعه من أحاديث بلخير وتسعديت عنها، عندما يتحدثان عن ذكرياتهما بالقرية، لكن كلمة " احتطاب" هذه الشجرة أحزنته. لم يدر لماذا؟ فقد تكون أحاديث حاضنته عن رمان هذه الشجرة، الذي لا يوجد مثله في الدنيا، كما تقول دائماً هو الذي مكن لهذه الشجرة أن تحيا في نفسه!
على أية حال،أحس أن عليه أن يحول دون احتطابها، لكن كيف يعمل؟ هو لا يستطيع التدخل في الحديث بين الكبار، تقاليد القرية تأبى ذلك، عليه أن يستمع لما يقال فقط، لكن أمر هذه الشجرة يهمه، يجب أن يفعل شيئاً، أن يقترح اقتراحاً واحداً، أن يقول لكافله :" لماذا لا نسقى هذه الشجرة حتى تعود إليها حياتها الأولى. "وأفصح عن ذلك لمربيه .
- من أين نسقيها؟ الساقية القديمة تهدمت، لماشرعنا في إعادة ربط البساتين بمجرى الوادي قرر السكان إقامة ساقية جديدة، لا تمر بالمجرى القديم، لأن السيل حفر الأرض فصيرها أخاديد.وإعادة بنائها في مكانها السابق تستلزم أموالاً ضخمة لاقبل للسكان بها.
فكرصالح أن ماقاله بلخير يقطع كل أمل في إعادة بناء الساقية القديمة، لتمر بالرمانة كما كانت. وأحزنه أن تحتطب هذه الرمانة المسكينة التي رسمت صورتها في نفسه وخياله أحاديث تسعديت.
بعد ما انتهى بلخير من قطع الشجرة، أخذ يحفر حول جذورها لاستئصالها، وإذا بصالح يعترضه، ويمسك بقبضة الفأس، وينظر إليه في توسل.
- مالك؟ لماذا تعترضني هكذا؟
- أرجوك ياعمي، لا تقطع جذورها! دعها..
- أدعها لماذا .؟ مالفائدة في ذلك .؟ اقتلاعه أولى، نحن في جاجة إلى الحطب، والشتاء على الأبواب.
- أرجوك، أرجوك! أنا أسقيها..
نظر بلخير إلى الطفل بعطف وربت على كتفه:
- إنها ماتت ياولدي، ماتت لا فائدة في سقيها، الجذور الميتة لا تسقى!
ترقرقت الدموع في عيني صالح، لكنه كرر رجاءه:
- لا، ليس كل الجذور، ياعمي، جذور هذه الشجرة لم تمت، أنظر إليها، أنا أسقيها، تأمل بلخير ملياً في الجذور والطفل على التناوب، ثم رفع الفأس ووضعه على منكبه:
- طيب، إذا كان بقاؤها يسرك فليكن ذلك.
وعادا معاً إلى البيت، وعينا صالح تشعان سروراً وأملاً، وصاح وهو داخل إلى "أمه":
- لم نقطع الجذور!
آلى صالح على نفسه أن يسقي جذور الرمانة كل يوم مرتين، صباحاً ومساءً،ونفذ قسمه. لم ينتبه أحد لعمله ذاك، ذات يوم رآه بلخير يحمل سطلاً:
- إلى أين بهذا السطل؟
- لأسقي الرمانة..
- الرمانة؟ أيّ رمانة؟!
وكأنه قد نسي الرمانة...
- رمانة الساقية..
ابتسم بلخير في شيء من الحزن، لقد أحيت في نفسه الكلمة صورة تلك الرمانة العظيمة ذات الظلال الوارفة والثمار الطيبة، التي أيبستها الحرب. كان يقول في نفسه: " لا ينفع فيها سقي ياولدي، لقد كانت تشرب من ساقية تمر بها معظم أيام السنة".
انطلق صالح إلى العين، وبلخير يتابعه بنظرات امتزج فيها العطف باليأس، وفكر أن ينتظره عند مكان الشجرة ليرى كيف يسقي.
عاد صالح بسطل ممتلئ، وأراقه على الجذور، فسال الماء خيوطاً ملتوية مع انحدار الأرض، هز بلخير رأسه كالمتأكد مما كان يتوقعه:
- هكذا، لا ينفع سقي يابني، ألا ترى انحدار الأرض؟ إن الماء الذي تفرغه يضيع فيما لا يفيد، ينبغي بناء حوض حول هذه الجذور، وملؤوه بالتراب المسمد بأرواث الحيوانات، لتتغذى العروق، إن بقي فيها ما يتغذى! هيا معي نجمع الحجارة لبناء حوض.
أحس صالح بالسرور يغمره وهو يرى " والده" يهتم مثله بهذه الشجرة، ويشاركه في عمله مشاركة الند للند!
تم بناء الحوض. ملئ تراباً ممزوجاً بأرواث الحيونات التي هي لدى الريفيين أحسن سماد.
واصل صالح سقيه اليومي للجذور، قبل الذهاب إلى المدرسة وبعد العودة منها.
مرت شهور الخريف وتبعتها شهور الشتاء، وصالح لا ينقطع عن سقي الجذور.
وجاء الربيع، وأخذت الأشجار تزهر، ثم تورق، لكن جذور الرمانة لم تنبت شيئاً، وكان بلخير كلما مر من هناك تفقد الحوض، لكن الجذور بقيت جذوراً!
لم يثن ذلك عزم صالح، واصل السقي والعناية بالحوض، وقلع الحشائش التي تنبت فيه، خشية منافسة ماكان ينتظره!
ذات يوم، لاحظ نبتة لاتشبه ماتعود أن يراه من نبات! إنها ذات ساق صغيرة، وريقاتها خضراء في اصفرار، لكنه لم يرد أن يخبر بذلك أحداً. خشي أن تكون النبتة ليست من جذور الرمانة، بل من فصيلة أخرى.
لم تمض أيام حتى كبرت الساق بنحو عشر سنتميرات، ولكي يتأكد من هذه النبتة الغريبة، ذهب إلى بستان مجاور، به شجرة رمان، وراح يتأمل أغصانها وأوراقها، فلاحظ شبهاً كبيراً بينها وبين شجرته، فاقتطع غصينة منها وعاد إلىالحوض، غرس الغصينة بجانب شجيرته، فإذا هما شيء واحد! إنها شجرة رمان لاشك في ذلك! ملأ الفرح والخوف نفسه، فلم يدر أيصدق عينيه، أم يصدق ماسمعه من أن الجذور اليابسة لا تحيا؟ واحتار، أيقول لبلخير، أم يتريث؟ وعاد يتأمل الشجيرة من جديد.
إنها تبتسم له! تقول له : " أنا هي. أنا رمانة الساقية!، لم أمت، الجذور الصالحة لا تموت! أنا رمانة الساقية، لقد حييت، حييت ياصالح! يا صديقي الحبيب!"
ياللفرحة! ياللسعادة! ياللعمل يثمر!
أحس صالح أن كل مافي الأرض يناديه ويغني له! انطلق جارياً إلى البيت، وكل ماحوله يرقص.
أخبر بلخير، لم يصدق بلخير، قال في نفسه: " إنه واهم عشبة ظنها رمانة. من أين له أن يعرف شجر الرمان، ولاسيما الخلف الصغير : " لكنه لم يشأ تخييبه، قرر أن يرافقه إلى البستان، ليحاول التخفيف من الخيبة المحققة التي تنتظر الطفل. جلس القرفصاء أمام الحوض، رأى الشجيرة .
راح يتأملها ويتلمس وريقاتها بأنامله، كأنه فعل ذلك ليتأكد مما ينقله إليه بصره،ثم صاح :
- سبحان الله العظيم! إنها هي، شجرة الرمان! رمانة الساقية! لم تمت، لم تمت!
احتضن الطفل ورفعه إلى السماء:
- لم تمت، لم تمت رمانة الساقية !
قبله على جبينه وهولا يدري كيف يعبر عن هذا السرور الذي غمره في لحظة، ولا كيف يشكر هذا الطفل الصالح، الذي كفله فأسعده! إنه يتخيل الشجيرة تنمو أمامه، وتنمو، وتعود كما كانت، شجرة ضخمة، ظليلة، مثمرة، تلتهم الأشعة من السماء، وتكرع المياه العذبة من الأرض، من ينابيع الصخور! ياللجذور الطيبة تحيا!
حمل الطفل بين ذراعيه، دون أن يشعر، وانطلق إلى البيت ليزف البشرى إلى تسعديت، ليقول لها: " إن الجذور الطيبة لا تموت!"
وتمضي الأيام تلو الأيام، وشجيرة الرمان تنمو، وتنمو...
والآن، هاهوصالح الطفل صار رجلاً! هاهي الجذور اليابسة أشجرت، مثقلة بالثمار! هاهو الماء العذب يجري رقراقاً ليغوص في أحشاء الأرض، بعد ما أعيد بناء الساقية من جديد!
كم تمضي الأيام بسرعة!
كم تتغير الأمور!