اعتبر نفسه إطاراً خاصاً... اعتبر نفسه، لسوء حظه أو لسوئه، أديباً، ومن ثم صعب عليه أن يعيش في بلد أجنبي ويترك له الحرية في الاستفادة من لغته ومعارفه وثقافته، ويمكنه أن يستغله حتى ضد بلاده في أي موقف سياسي، وذلك بحكم أنه يعيش فيه ويخضع لمصالحه في مثل هذه الأمور. حبه لبلاده أكثر من أن يجعله يقف ضده مهما كانت طبيعة القضية المطروحة سياسياً أو فكرياً. حقاً، كان يعتبر نفسه، وربما لا يزال.. من يدري. أديباً، فوقر في ذهنه لذلك أنه لا يمكنه أن يكتب قصصاً عن بلاده وهو بعيد عنها. خيل إليه أن من واجبه أن يعيش بين من يكتب عنهم، بين من يتخذهم موضوعاً لكتاباته كلما رفع القلم ليكتب، إذ هو لا يستطيع غير ذلك. فصلته بمن يعيش بينهم في البلد الأجنبي لا تتعدى الكلام والتعامل معهم في إطار الوظيفة التي يشغلها بينهم.. فأفكاره كلها لبلاده.. وهكذا عاد إلى وطنه.. وهو يحمل بين جوانحه هموماً جساماً، هي الحصول على عمل، وهي الحصول على سكن، يأويه مع أهله، وهي الوصول إلى الاستقرار، إضافة إلى هموم أخرى تتصل بما يسميه موهبته الأدبية، ويوم وصوله قضى أول ليلة في بيت أخيه الأكبر، لكنه لم يستطع أن ينام عنده أكثر من يوم واحد، فقد استطاع في اليوم الموالي، بناء على مراسلات سابقة، الحصول على عمل في ميدان التعليم الجامعي، وكان عليه أن يستعد لعمله، ويهيء محاضراته، ولم يكن ذلك ممكناً بعد تلك الليلة.. التي كانت له فيها تجربة مروّعة. كانت أمه، بعد غيبته الطويلة عنها في بلاد الغربة، قد أصرت هي الأخرى على أن تنام قربه في بيت أخيه، وكانت أمه امرأة كبيرة السن، فقد خرجت في الليل لسبب ما، وعندما رجعت تركت الباب مفتوحاً. وإذ كانت الغرفة أرضية طويلة تشبه الدهليز، فقد دخل قط وأخذ يصرخ بكل قواه... باحثاً عن طعام أو عن شيء آخر.. عن قطة مثلاً، وراح يجول هنا حيناً، وأمه تهتف به فيما بين النوم واليقظة: - ايصب، ايصب، ياالقط، كش ، اخرج! ايصب! ويثب فوقه حيناً آخر، يطارده، وهو يردد كلمات أمه، وكان قد نسيها: - ايصب، ايصب، ايصب. كش! ورمى برجله نحوه في الظلام، وأضاف: - ايصب! كش! الباب مفتوح، ياهرّ! وابتسم حين سّيدَه من غير قصد، فكلمة الهر في الألمانية تعني... السيد! وغلق الباب، وعاد إلى فراشه لينام، ولكن النوم فارقه حتى الصباح، فقد كان الأطفال يبكون بين الفينة والفينة في الغرف الصغيرة المجاورة. فقام في الصباح متعباً منهك القوى. وعندئذ قرر أن يذهب إلى فندق مافي المدينة. واختار فندقاً قريباً من مركز عمله، وحين دخل غرفته في الليل، كاد ينخلع قلبه، ويتوقف عن حركته، فقد خيل إليه لأول وهلة أن القط - وتذكر أن لونه في الظلام كان أسود- قد مسخ دوابَ صغيرةً ذات أحجام مختلفة، ذلك أنه رأى بنات وردان تلعب بمجساتها فوق فراشه وتتأهب للفرار بمجرد أن تصدر حركة عنه. كان قد نسيها هي الأخرى. ولم يكن ليخطر بذهنه- حتى ولو لم تغب صورها عن ذهنه- أن يجدها في فراشه. وعندما ضرب بيده على الفراش، أسرعت في كل اتجاه متسللة تحت الفراش، وكان بعضها يقوم بعملية انتحارية، فيلقي بنفسه من فوق حافته ثم يمضي في مختلف الاتجاهات بسرعة فائقة. وازداد خوفه عندما اكتشف اثنتين منها أو ثلاثة في زاوية من زوايا الغرفة في حجم خنصره. وتشجع وذهب إليها ليطردها، على أنها كانت أسرع منه، فاختفت تحت الخزانة، ونام نوماً خائفاً، ثم لم يلبث أن عرف أنها مسالمة! كان هذا قبل أن تلحق به أسرته، فقد كان لا يزال معه شيء من المال، يسمح له بالسكن في فندق متواضع... كبنات وردان! غير أن ذلك أصبح غير ممكن عندما قدمت أسرته بعد مايقرب من شهر. ومن هنا لم تقم معه إلا بضعة أيام، ثم أرسلها إلى قريته لتعيش في بيت أخيه الأصغر حسب ماتسمح به ظروف القرية إلى أن يحصل على السكن، الذي وعد به في إطار عمله، ولم تكن ظروف عمله لتسمح له بمرافقتها طبعاً، وقد اقتسم معها ماتبقى من مال. وهكذا انتهى رصيده بعد مدّة وجيزة. وكان له أصدقاء، ولكنهم كانوا يختفون عند الحاجة، بالمناسبة كان أحدهم قد دعاه للسكن عنده مع أسرته.. فعنده ثماني غرف، ولكن زوجة الصديق اعتذرت بأن البيت تابع للمدرسة.. ولا حق لها في التصرف فيه خارج أسرتها، ولم يكن للصديق إلا أن يعتذر... مَحْزُوناً!... وغادر الفندق، ونام عند أخيه بضعة أيام، لم يستطع خلالها.. لصياح الأطفال بالنهار ومواء القطط في الليل.. تهيئة محاضراته فضلاً عن كتاباته الإبداعية. فعزم على البحث عن مكان آخر، لا يدفع ثمناً لسكنه فيه.. ومن أين له أن يدفع شيئاً وموعد راتبه لا يزال بعيداً، فملفه لما يغادر المكان الذي يعمل فيه.. وكل المتاهات في انتظاره! فخرج إلى ضواحي المدينة، واختار مكاناً هناك ليبني كوخاً مؤقتاً، يعيش فيه بمفرده ويجعل منه صومعة للنوم والإبداع! وكانت الضاحية التي اختارها لإقامته جميلة فعلا، مناظرها خضراء ملهمة، وكانت أشجارها من النوع الذي عرفه وأحبه في قريته، ولاسيما أشجار السرو والبلوط...تلك الأشجار التي عاشت في وعيه وذاكرته كلما هم أيام غربته بكتابة قصة، واغتنم فرصة أيام العطل الأُسبوعية، وجمع بمساندة أخيه، وبنيه في بعض الأحيان، بعض الأخشاب ولوحات من الصفيح من هنا وهناك إلى أن أتم عدته. وبنى كوخاً مناسباً إلى حد ما، لم يكن متيناً بطبيعة الحال، وخاصة أنه كان قد عاد إلى وطنه في الشتاء، ولكنه كان، كيفما جرت الأمور، في إمكانه أن يغطي رأسه كما يقال في التعابير الشعبية، ويقيه برد الشتاء وصقيعه. فقد حفر في وسطه كانوناً، وأحضر ماكان في حاجة إليه من حطب للتدفئة وللطبخ عند الضرورة في آن واحد، كما أحضر -بمساعدة أخيه وبعض أقاربه على رقة حالهم- شيئاً من الفحم وبعض المواد الغذائية، والغريب أنه لم يفكر في أسرته في أثناء ذلك... ربما لأنه كان مطمئناً إلى أنها في كفالة أخيه الأصغر.. لن تضيع وهي معه. وفي مساء اليوم، الذي انتقل فيه إلى كوخه، كان أول من زاره قط ضائع، فرحب به.. وسيده أيضاً: - مرحباً بك، ياهر! وراح يمسح على ظهره، وهو يتمدد، ويحني ظهره، ويموء، فكلاهما في حاجة إلى الآخر في هذه المرة، يضمن له فيها الطعام وعليه هو نفسه أن يبحث لنفسه عن قطة تليق بالهر! وزاره أخوه أيضاً وحمل معه مصباحاً قوياً لضوئه درجات يغيرها كما يريد. وطلب منه في مقابل ذلك أن يهدي إليه نسخة من أول قصة يكتبها في هذا الكوخ، فقد كان يحسن العربية إلى حد ما.. وهذا يعني أنه لم يتعلمها في المدرسة..وإنما علمته الثورة إياها أيام العز والمجد! وكان قد قرأ أن المؤلف يستطيع أن يهدي قصته إلى من يعز من الإخوة والأقارب والأصدقاء. ووعد أخاه بأنه سيفعل ذلك ويذكر اسمه في الإهداء صراحة، وفرح الأخ بذلك، إذ أحس بأنه سيخلد في مطلع عمل من أعمال أخيه الأدبية، ولم يكن من حقه أديباً ومتأدباً أن يبخل عليه بذلك. كان مؤمناً بأن على كل إنسان أن يعترف بأي جميل يكون لشخص ما عليه.. سواء أكان أخاً أم مجرد صديق. فكل محسن أخ وإن لم يكن حقيقياً. والإحسان قيد كما يقال، ولم يكن ذهنه مستعداً للكتابة من أول اليوم، فاكتفى بتهيئة المحاضرة القادمة، ونام بعدها نومة لم تخل من برد.. من شعور بالبرد، ولكنها كانت هادئة هدوء الجو المحيط به.. ونام القط معه داخل الكوخ... فقد شعر بشفقة عليه وعز عليه أن يتركه في الخارج. واستيقظ في وقت متأخر، فتناول طعام الفطور، وشرب القهوة، وبدأ يعد طعامه وطعام قطه، وأكل عند الظهيرة بلذة، ولم يكن ماطبخه لذيذاً، إلا أنه كان مما يؤكل. المهم أنه وفر على نفسه الذهاب إلى بيت أخيه لبعد المسافة من جهة ولشعوره بالتعب من جهة أخرى، كان يريد كذلك أن يخلو إلى نفسه، ويفكر في ظروفه الخاصة ومايمكن أن يكتبه عنها. كما فكر في أسرته وأطفاله.. وكم ود لو يستطيع أن يطير إليهم، ولكن... تُرَى من يعيره جناحه؟ وشعر بعد الغداء بتعب... أترى ذلك آتياً من عادته، حين يأكل، أن يأكل بسرعة، أن يحشو بطنه حشواً؟ وعن له أن يتمدد، ولكنه قاوم الدفء المنتشر في جنبات الكوخ بفعل النار التي كان قد أشعلها في الكانون ولم يدعها تنطفئ. وقاوم النوم الذي تسبب فيه -فيماظهر له- الدفء، فوقف خارج الكوخ قليلاً، ثم عاد إلى داخله، وقد أحس بنشاط، واقترب من باب الكوخ، وتناول القلم ليكتب قصته وَيسجل بعض الخواطر والأفكار على الأقل، فقد تعود أن يسجل وقائع حياته في شكل قصص أو مذكرات أو يوميات مستمرة، واستقر رأيه على أن يكتب قصة، يصور فيها بناءه لكوخه، وقلقه على أهله في بعض الأحيان، واضطراب فكره، فلعل أجمل قصة يكتبها هي تلك التي يكتبها وهو مضطرب الأفكار، لأنها ستكون عندئذ صادقة معبرة عن واقع يعيشه! ومسك الدفتر في يده، وراح يفكر محركاً إياه قبل أن يبدأ في الكتابة، وكانت ساعة يده تشير إلى الثانية والنصف. وما أن واتته فكرة من الأفكار، فهم بتسجيلها، وعيناه منصبتان على الدفتر، حتى شعر بظلام يجتاح باب الكوخ المفتوح، فرفع رأسه عن الدفتر ونظر مندهشاً، لم يكن يتوقع أن يعود أخوه لزيارته بهذه السرعة، ولكنه لم يكن ليستغرب عودته، غير أن نظره وقع على بذلة سوداء.. ممازاده اندهاشاً، لم ير وجهه في البداية، فلم ير منه غير أزرارها الصفراء، فخمن في الحال أنه شرطي من شرط البلدية القريبة، وعندما أحنى الشرطي رأسه، ونظر إلى الداخل، لاحظ أول مالاحظ قبعته السوداء وشاربه الأسود، وصاح وهو يهز رأسه: - السلام عليكم . - وعليك السلام. ونظر إليه لحظة وقد كاد وجهه يكون أسود كبدلته، ثم قال: - تعال، يامحمد! اخرج إلى، اخرج إلي! وضع الدفتر والقلم جانباً، وخرج إليه، وهو يتساءل في نفسه.. ترى ماذا يريد منه هذا الشرطي البلدي، وبمجرد أن وقف أمام الباب وظهره إلى الكوخ، بادره الشرطي يسأله: - ماذا تفعل هنا، أيها السيد! وأعجبه أن يُسّيَّدَ أيضاً كالهر، وقال، وهو يحاول أن يبتسم، لأنه توقع شراً، وحاسة التوقع عنده كثيراً ما تَصْدُقه: - السيد يكتب! فهز الشرطي رأسه وقال: - ليس هناك من جن.. إلا إذا كنت أنت! أتخشاه! - لست من الجن ولا أخشاه. - هل زارك أحد اليوم! فأجابه: - لا.. لم يزرني أحد. فسأله مستغرباً: - لماذا تكتب إذن؟ ولمن؟ ابتسم وقال له: - أكتب لأني أديب! فانتفض: - لا.. لا يكذب أحدنا على الآخر، ولا يسخر منه، لا توجد هنا ذئاب إطلاقاً. لم يشعر بأية رغبة في الضحك، وقال له: - أعرف هذا، إني لا أكتب للذئاب، وأنا لا أخشاها. قال بلهجة احتجاج: - لا.. لا.. الذئب يكتب للذئاب! قال له بهدوء: - أنت مخطئ، ياأخي، أنا أكتب الكتب! فسأله الشرطي: - لمن.. فرد قائلاً: - لنفسي.. وللناس! وضع الشرطي يديه في خاصرتيه، وقال: - هذا غير معقول. هذا لا يقبله العقل. سأله: - ما الذي يمنع من ذلك؟ قال الشرطي: - تكتب لنفسك أنت ورأسك، وتكتب كذلك لامرأة، لرجل، لطفلة، لطفل. أما أن تكتب للناس كلهم، فهذا غير معقول. أدرك الأديب أنه.. هو الشرطي البلدي.. لم يفهمه، ولا يمكن أن يفهمه، لا يمكنه أن يفهمه ببساطة على الأقل. لقد حمل ظهوره إلى رأسه أفكاراً.. كان يريد أن يسجلها ليستفيد منها في فرصة أخرى، فقال له متسائلاً: - ماذا تريد مني؟ حرك الشرطي رأسه متعجباً، وقال: - ماذا أريد منك؟ أريد منك ألا تكتب هنا. هذا الكوخ لم يكن موجوداً هنا قبل أيام. هل أخرجته الجن؟ وإلا.. من بناه...؟ قال له وهو ينظر إليه: - أنا بنيته. - ومن سمح لك بذلك؟ فأجابه الأديب: - لا أحد. بنيته ريثما أعثر على سكن. فعملي يتطلب الاستقرار ولو في كوخ. ثم إني بعيد عن الأكواخ الأخرى... لا أقلق أحداً. - هذا من حقك. ولكن بإذن! - كيف؟ من حقي، ولكن أحتاج إلى إذن؟ ممن؟ - منا. نحن البلدية! - طيب، سأذهب إلى البلدية وأطلب هذا الإذن! - هذا غير ممكن. - ولماذا؟! - لأنك لم تأخذ منها الإذن قبل بنائه. - وهل تقدم لي البلدية سكناً؟ - كلا أنت ورأسك! - وما العمل في هذه الحال.؟ - تترك الكوخ حالاً. - أتأخذه البلدية مني؟ - لا البلدية في غنى عنه! - يا أخي، قلت لك أنا أديب! أحب... لكن الشرطي قاطعه: - ظننت نفسك ذئباً فوجدت ذئباً مثلك. الذئاب لا تأكل معي! اخرج منه في الحين العاجل! كان قد تعود، حين كان يعيش في بلد أجنبي، احترام القانون، ومن لم يستطع مقاومته.. وآلمه إلى ذلك أن يكون قد خلق.. مسالماً.. فجمع أمتعته القليلة، ونادى مؤانسه، الذي كان نائماً.. - تعال، أيها الهر. لا حظ لنا.. أنت وأنا... حتى في هذا الكوخ.. على حقارته، ووقف على مقربة من الكوخ الذي أبدعته يده بمساعدة، وراح يكتب قصته في خياله ورجلا الشرطي ويداه تعمل عملها في كوخه!..
اعتبر نفسه إطاراً خاصاً... اعتبر نفسه، لسوء حظه أو لسوئه، أديباً، ومن ثم صعب عليه أن يعيش في بلد أجنبي ويترك له الحرية في الاستفادة من لغته ومعارفه وثقافته، ويمكنه أن يستغله حتى ضد بلاده في أي موقف سياسي، وذلك بحكم أنه يعيش فيه ويخضع لمصالحه في مثل هذه الأمور. حبه لبلاده أكثر من أن يجعله يقف ضده مهما كانت طبيعة القضية المطروحة سياسياً أو فكرياً. حقاً، كان يعتبر نفسه، وربما لا يزال.. من يدري. أديباً، فوقر في ذهنه لذلك أنه لا يمكنه أن يكتب قصصاً عن بلاده وهو بعيد عنها. خيل إليه أن من واجبه أن يعيش بين من يكتب عنهم، بين من يتخذهم موضوعاً لكتاباته كلما رفع القلم ليكتب، إذ هو لا يستطيع غير ذلك. فصلته بمن يعيش بينهم في البلد الأجنبي لا تتعدى الكلام والتعامل معهم في إطار الوظيفة التي يشغلها بينهم.. فأفكاره كلها لبلاده..
وهكذا عاد إلى وطنه.. وهو يحمل بين جوانحه هموماً جساماً، هي الحصول على عمل، وهي الحصول على سكن، يأويه مع أهله، وهي الوصول إلى الاستقرار، إضافة إلى هموم أخرى تتصل بما يسميه موهبته الأدبية، ويوم وصوله قضى أول ليلة في بيت أخيه الأكبر، لكنه لم يستطع أن ينام عنده أكثر من يوم واحد، فقد استطاع في اليوم الموالي، بناء على مراسلات سابقة، الحصول على عمل في ميدان التعليم الجامعي، وكان عليه أن يستعد لعمله، ويهيء محاضراته، ولم يكن ذلك ممكناً بعد تلك الليلة.. التي كانت له فيها تجربة مروّعة.
كانت أمه، بعد غيبته الطويلة عنها في بلاد الغربة، قد أصرت هي الأخرى على أن تنام قربه في بيت أخيه، وكانت أمه امرأة كبيرة السن، فقد خرجت في الليل لسبب ما، وعندما رجعت تركت الباب مفتوحاً. وإذ كانت الغرفة أرضية طويلة تشبه الدهليز، فقد دخل قط وأخذ يصرخ بكل قواه... باحثاً عن طعام أو عن شيء آخر.. عن قطة مثلاً، وراح يجول هنا حيناً، وأمه تهتف به فيما بين النوم واليقظة:
- ايصب، ايصب، ياالقط، كش ، اخرج! ايصب!
ويثب فوقه حيناً آخر، يطارده، وهو يردد كلمات أمه، وكان قد نسيها:
- ايصب، ايصب، ايصب. كش!
ورمى برجله نحوه في الظلام، وأضاف:
- ايصب! كش! الباب مفتوح، ياهرّ!
وابتسم حين سّيدَه من غير قصد، فكلمة الهر في الألمانية تعني... السيد!
وغلق الباب، وعاد إلى فراشه لينام، ولكن النوم فارقه حتى الصباح، فقد كان الأطفال يبكون بين الفينة والفينة في الغرف الصغيرة المجاورة. فقام في الصباح متعباً منهك القوى. وعندئذ قرر أن يذهب إلى فندق مافي المدينة.
واختار فندقاً قريباً من مركز عمله، وحين دخل غرفته في الليل، كاد ينخلع قلبه، ويتوقف عن حركته، فقد خيل إليه لأول وهلة أن القط - وتذكر أن لونه في الظلام كان أسود- قد مسخ دوابَ صغيرةً ذات أحجام مختلفة، ذلك أنه رأى بنات وردان تلعب بمجساتها فوق فراشه وتتأهب للفرار بمجرد أن تصدر حركة عنه. كان قد نسيها هي الأخرى. ولم يكن ليخطر بذهنه- حتى ولو لم تغب صورها عن ذهنه- أن يجدها في فراشه. وعندما ضرب بيده على الفراش، أسرعت في كل اتجاه متسللة تحت الفراش، وكان بعضها يقوم بعملية انتحارية، فيلقي بنفسه من فوق حافته ثم يمضي في مختلف الاتجاهات بسرعة فائقة. وازداد خوفه عندما اكتشف اثنتين منها أو ثلاثة في زاوية من زوايا الغرفة في حجم خنصره. وتشجع وذهب إليها ليطردها، على أنها كانت أسرع منه، فاختفت تحت الخزانة، ونام نوماً خائفاً، ثم لم يلبث أن عرف أنها مسالمة!
كان هذا قبل أن تلحق به أسرته، فقد كان لا يزال معه شيء من المال، يسمح له بالسكن في فندق متواضع... كبنات وردان! غير أن ذلك أصبح غير ممكن عندما قدمت أسرته بعد مايقرب من شهر. ومن هنا لم تقم معه إلا بضعة أيام، ثم أرسلها إلى قريته لتعيش في بيت أخيه الأصغر حسب ماتسمح به ظروف القرية إلى أن يحصل على السكن، الذي وعد به في إطار عمله، ولم تكن ظروف عمله لتسمح له بمرافقتها طبعاً، وقد اقتسم معها ماتبقى من مال. وهكذا انتهى رصيده بعد مدّة وجيزة. وكان له أصدقاء، ولكنهم كانوا يختفون عند الحاجة، بالمناسبة كان أحدهم قد دعاه للسكن عنده مع أسرته.. فعنده ثماني غرف، ولكن زوجة الصديق اعتذرت بأن البيت تابع للمدرسة.. ولا حق لها في التصرف فيه خارج أسرتها، ولم يكن للصديق إلا أن يعتذر... مَحْزُوناً!...
وغادر الفندق، ونام عند أخيه بضعة أيام، لم يستطع خلالها.. لصياح الأطفال بالنهار ومواء القطط في الليل.. تهيئة محاضراته فضلاً عن كتاباته الإبداعية.
فعزم على البحث عن مكان آخر، لا يدفع ثمناً لسكنه فيه.. ومن أين له أن يدفع شيئاً وموعد راتبه لا يزال بعيداً، فملفه لما يغادر المكان الذي يعمل فيه.. وكل المتاهات في انتظاره! فخرج إلى ضواحي المدينة، واختار مكاناً هناك ليبني كوخاً مؤقتاً، يعيش فيه بمفرده ويجعل منه صومعة للنوم والإبداع!
وكانت الضاحية التي اختارها لإقامته جميلة فعلا، مناظرها خضراء ملهمة، وكانت أشجارها من النوع الذي عرفه وأحبه في قريته، ولاسيما أشجار السرو والبلوط...تلك الأشجار التي عاشت في وعيه وذاكرته كلما هم أيام غربته بكتابة قصة، واغتنم فرصة أيام العطل الأُسبوعية، وجمع بمساندة أخيه، وبنيه في بعض الأحيان، بعض الأخشاب ولوحات من الصفيح من هنا وهناك إلى أن أتم عدته.
وبنى كوخاً مناسباً إلى حد ما، لم يكن متيناً بطبيعة الحال، وخاصة أنه كان قد عاد إلى وطنه في الشتاء، ولكنه كان، كيفما جرت الأمور، في إمكانه أن يغطي رأسه كما يقال في التعابير الشعبية، ويقيه برد الشتاء وصقيعه. فقد حفر في وسطه كانوناً، وأحضر ماكان في حاجة إليه من حطب للتدفئة وللطبخ عند الضرورة في آن واحد، كما أحضر -بمساعدة أخيه وبعض أقاربه على رقة حالهم- شيئاً من الفحم وبعض المواد الغذائية، والغريب أنه لم يفكر في أسرته في أثناء ذلك... ربما لأنه كان مطمئناً إلى أنها في كفالة أخيه الأصغر.. لن تضيع وهي معه.
وفي مساء اليوم، الذي انتقل فيه إلى كوخه، كان أول من زاره قط ضائع، فرحب به.. وسيده أيضاً:
- مرحباً بك، ياهر!
وراح يمسح على ظهره، وهو يتمدد، ويحني ظهره، ويموء، فكلاهما في حاجة إلى الآخر في هذه المرة، يضمن له فيها الطعام وعليه هو نفسه أن يبحث لنفسه عن قطة تليق بالهر! وزاره أخوه أيضاً وحمل معه مصباحاً قوياً لضوئه درجات يغيرها كما يريد. وطلب منه في مقابل ذلك أن يهدي إليه نسخة من أول قصة يكتبها في هذا الكوخ، فقد كان يحسن العربية إلى حد ما.. وهذا يعني أنه لم يتعلمها في المدرسة..وإنما علمته الثورة إياها أيام العز والمجد!
وكان قد قرأ أن المؤلف يستطيع أن يهدي قصته إلى من يعز من الإخوة والأقارب والأصدقاء. ووعد أخاه بأنه سيفعل ذلك ويذكر اسمه في الإهداء صراحة، وفرح الأخ بذلك، إذ أحس بأنه سيخلد في مطلع عمل من أعمال أخيه الأدبية، ولم يكن من حقه أديباً ومتأدباً أن يبخل عليه بذلك. كان مؤمناً بأن على كل إنسان أن يعترف بأي جميل يكون لشخص ما عليه.. سواء أكان أخاً أم مجرد صديق. فكل محسن أخ وإن لم يكن حقيقياً. والإحسان قيد كما يقال، ولم يكن ذهنه مستعداً للكتابة من أول اليوم، فاكتفى بتهيئة المحاضرة القادمة، ونام بعدها نومة لم تخل من برد.. من شعور بالبرد، ولكنها كانت هادئة هدوء الجو المحيط به.. ونام القط معه داخل الكوخ... فقد شعر بشفقة عليه وعز عليه أن يتركه في الخارج.
واستيقظ في وقت متأخر، فتناول طعام الفطور، وشرب القهوة، وبدأ يعد طعامه وطعام قطه، وأكل عند الظهيرة بلذة، ولم يكن ماطبخه لذيذاً، إلا أنه كان مما يؤكل. المهم أنه وفر على نفسه الذهاب إلى بيت أخيه لبعد المسافة من جهة ولشعوره بالتعب من جهة أخرى، كان يريد كذلك أن يخلو إلى نفسه، ويفكر في ظروفه الخاصة ومايمكن أن يكتبه عنها. كما فكر في أسرته وأطفاله.. وكم ود لو يستطيع أن يطير إليهم، ولكن... تُرَى من يعيره جناحه؟
وشعر بعد الغداء بتعب... أترى ذلك آتياً من عادته، حين يأكل، أن يأكل بسرعة، أن يحشو بطنه حشواً؟ وعن له أن يتمدد، ولكنه قاوم الدفء المنتشر في جنبات الكوخ بفعل النار التي كان قد أشعلها في الكانون ولم يدعها تنطفئ.
وقاوم النوم الذي تسبب فيه -فيماظهر له- الدفء، فوقف خارج الكوخ قليلاً، ثم عاد إلى داخله، وقد أحس بنشاط، واقترب من باب الكوخ، وتناول القلم ليكتب قصته وَيسجل بعض الخواطر والأفكار على الأقل، فقد تعود أن يسجل وقائع حياته في شكل قصص أو مذكرات أو يوميات مستمرة، واستقر رأيه على أن يكتب قصة، يصور فيها بناءه لكوخه، وقلقه على أهله في بعض الأحيان، واضطراب فكره، فلعل أجمل قصة يكتبها هي تلك التي يكتبها وهو مضطرب الأفكار، لأنها ستكون عندئذ صادقة معبرة عن واقع يعيشه!
ومسك الدفتر في يده، وراح يفكر محركاً إياه قبل أن يبدأ في الكتابة، وكانت ساعة يده تشير إلى الثانية والنصف. وما أن واتته فكرة من الأفكار، فهم بتسجيلها، وعيناه منصبتان على الدفتر، حتى شعر بظلام يجتاح باب الكوخ المفتوح، فرفع رأسه عن الدفتر ونظر مندهشاً، لم يكن يتوقع أن يعود أخوه لزيارته بهذه السرعة، ولكنه لم يكن ليستغرب عودته، غير أن نظره وقع على بذلة سوداء.. ممازاده اندهاشاً، لم ير وجهه في البداية، فلم ير منه غير أزرارها الصفراء، فخمن في الحال أنه شرطي من شرط البلدية القريبة، وعندما أحنى الشرطي رأسه، ونظر إلى الداخل، لاحظ أول مالاحظ قبعته السوداء وشاربه الأسود، وصاح وهو يهز رأسه:
- السلام عليكم .
- وعليك السلام.
ونظر إليه لحظة وقد كاد وجهه يكون أسود كبدلته، ثم قال:
- تعال، يامحمد! اخرج إلى، اخرج إلي!
وضع الدفتر والقلم جانباً، وخرج إليه، وهو يتساءل في نفسه.. ترى ماذا يريد منه هذا الشرطي البلدي، وبمجرد أن وقف أمام الباب وظهره إلى الكوخ، بادره الشرطي يسأله:
- ماذا تفعل هنا، أيها السيد!
وأعجبه أن يُسّيَّدَ أيضاً كالهر، وقال، وهو يحاول أن يبتسم، لأنه توقع شراً، وحاسة التوقع عنده كثيراً ما تَصْدُقه:
- السيد يكتب!
فهز الشرطي رأسه وقال:
- ليس هناك من جن.. إلا إذا كنت أنت! أتخشاه!
- لست من الجن ولا أخشاه.
- هل زارك أحد اليوم!
فأجابه:
- لا.. لم يزرني أحد.
فسأله مستغرباً:
- لماذا تكتب إذن؟ ولمن؟
ابتسم وقال له:
- أكتب لأني أديب!
فانتفض:
- لا.. لا يكذب أحدنا على الآخر، ولا يسخر منه، لا توجد هنا ذئاب إطلاقاً. لم يشعر بأية رغبة في الضحك، وقال له:
- أعرف هذا، إني لا أكتب للذئاب، وأنا لا أخشاها.
قال بلهجة احتجاج:
- لا.. لا.. الذئب يكتب للذئاب!
قال له بهدوء:
- أنت مخطئ، ياأخي، أنا أكتب الكتب!
فسأله الشرطي:
- لمن..
فرد قائلاً:
- لنفسي.. وللناس!
وضع الشرطي يديه في خاصرتيه، وقال:
- هذا غير معقول. هذا لا يقبله العقل.
سأله:
- ما الذي يمنع من ذلك؟
قال الشرطي:
- تكتب لنفسك أنت ورأسك، وتكتب كذلك لامرأة، لرجل، لطفلة، لطفل. أما أن تكتب للناس كلهم، فهذا غير معقول.
أدرك الأديب أنه.. هو الشرطي البلدي.. لم يفهمه، ولا يمكن أن يفهمه، لا يمكنه أن يفهمه ببساطة على الأقل. لقد حمل ظهوره إلى رأسه أفكاراً.. كان يريد أن يسجلها ليستفيد منها في فرصة أخرى، فقال له متسائلاً:
- ماذا تريد مني؟
حرك الشرطي رأسه متعجباً، وقال:
- ماذا أريد منك؟ أريد منك ألا تكتب هنا. هذا الكوخ لم يكن موجوداً هنا قبل أيام. هل أخرجته الجن؟ وإلا.. من بناه...؟
قال له وهو ينظر إليه:
- أنا بنيته.
- ومن سمح لك بذلك؟
فأجابه الأديب:
- لا أحد. بنيته ريثما أعثر على سكن. فعملي يتطلب الاستقرار ولو في كوخ. ثم إني بعيد عن الأكواخ الأخرى... لا أقلق أحداً.
- هذا من حقك. ولكن بإذن!
- كيف؟ من حقي، ولكن أحتاج إلى إذن؟ ممن؟
- منا. نحن البلدية!
- طيب، سأذهب إلى البلدية وأطلب هذا الإذن!
- هذا غير ممكن.
- ولماذا؟!
- لأنك لم تأخذ منها الإذن قبل بنائه.
- وهل تقدم لي البلدية سكناً؟
- كلا أنت ورأسك!
- وما العمل في هذه الحال.؟
- تترك الكوخ حالاً.
- أتأخذه البلدية مني؟
- لا البلدية في غنى عنه!
- يا أخي، قلت لك أنا أديب! أحب...
لكن الشرطي قاطعه:
- ظننت نفسك ذئباً فوجدت ذئباً مثلك. الذئاب لا تأكل معي! اخرج منه في الحين العاجل!
كان قد تعود، حين كان يعيش في بلد أجنبي، احترام القانون، ومن لم يستطع مقاومته.. وآلمه إلى ذلك أن يكون قد خلق.. مسالماً.. فجمع أمتعته القليلة، ونادى مؤانسه، الذي كان نائماً..
- تعال، أيها الهر. لا حظ لنا.. أنت وأنا... حتى في هذا الكوخ.. على حقارته، ووقف على مقربة من الكوخ الذي أبدعته يده بمساعدة، وراح يكتب قصته في خياله ورجلا الشرطي ويداه تعمل عملها في كوخه!..