أسطورة شعبية وقف الراعي متكئاً على عصاه فوق قمة الجبل، وراح يتأمل قطيعه، وهو يقضم العشب الطري حيناً، ويرفع بعضه قائمتيه الأماميتين ليقضم أغصان الأشجار الصغيرة حيناً آخر، وقد يرفع رأسه أو يلتفت إليه لينظر كلما ندّ عنه صوت أو صدرت عنه حركة. وعندما أحس بالتعب، ظهر له أن يستريح، فجلس فوق الأرض، ومد عصاه إلى جانبه، وأخرج شبابته من جيب سرواله ووضعها في حجره، وصدره يمتص شذى الربيع، الذي كانت تنثره الأزهار المنتشرة هنا وهناك، ولما سرح نظره بعيداً، عاوده الشعور بدم الشباب يفور في جسمه. كانت عيناه حالمتين، كأنهما تبحثان عن شيء غريب في هذا الصمت، الذي يسود القمة بصورة بديعة، فقد بدأ منذ مدة ليست بالطويلة يحس بسطوة رجولته تزداد حدة، وأصبح التفكير فيها يسد عليه مسالك نفسه ويتعبه ويشعره بنوع غريب من شقاء نفسه، وعذاب أيامه. استقرَّ نظره فوق قمم الجبال الأخرى، التي كثيراً ماكانت مرعى له أيضاً، لكنه كان قد فضل في هذا اليوم رعي قطيعه فوق هذا الجبل. بدت له تلك القمم حزينة، وتساءل في نفسه أهي حزينة حقاً أم أن ذلك كان محض تصور منه؟ وكانت تبدو له صغيرة الحجم أيضاً،' فهل كانت نظرته الحزينة سبباً في تقلصها؟ وهل النظرة الحزينة تقلص حجم الأشياء في عين الناظر إليها فعلاً؟ كان الجبل يغمره بسحر خاص، ويملأ نفسه بدفء حالم. واعتراه شوق غامض موجع، فتناول شبابته، وتأملها كما يتأمل الطفل لعبته الجديدة، فقد كان شعوره بها متجدداً على الدوام، ولاسيما حين يقربها من عينيه وينظر إلى فتحاتها، ويمسح عليها بيده في حب، كان بعض الأحيان يقربها من فمه، ويريح أصابعه فوق فتحاتها الثماني، ويعزف عليها في وعيه أولاً، ثم يستنطقها ويزرع فيها ألحانه. وتذكر اللحن، الذي كان يفضل البدء به حين تكتنفه رغبة في العزف على شبابته، فنفخ فيها وحرك أصابعه، فسالت منها نغمات عذبة، ملأت نفسه نشوة، كاد يحس بها إحساساً حقيقياً، حين راحت أصداؤها تنتشر فوق القمم وتمتزج بأشعة ملونة تمتد كالبحر، وتجعل السماء تبدو له وكأنها تختصر أبعادها وتقترب من الجبال في نسيج من اصفرار الشمس المنحدرة نحو المغيب، وتختلط بأصوات الطيور وهي تنتقل من شجرة إلى شجرة فوق المنحدر وتقوم بحركات خفيفة توشك أن تجعلها تتخذ مظهر الراقصة بكل ما لجسدها من تثنيات وتموجات حالمة. وحين هم بجمع قطيعه للعودة إلى البيت، برزت أمامه ملفوفة في أشعة الشمس الغاربة امرأة يافعة، جميلة الوجه، ناعمة البشرة، لينة الأعطاف، لا تفارق البسمة شفتيها كأنها طبيعة فيها، ترتدي ثوباً أبيض، تنسدل فوقه غلالة بنفسجية، يبرز منها عنق في لون العاج، ونعومة المخمل، وملاسة الزمرد. وكانت تحف بها نسمات ربيعية جميلة، فشعر الراعي بشيء يمتد في أعماقه أشبه مايكون بالربيع في امتداد مروجه وحدائق أزهاره. وخيل إليه أنه يعيش لحظاته في ضباب بنفسجي مبطن بالفضة. فقد شده إليها جمالها، ورأى فيها حلم روحه الهائمة، وشعر بانتفاضة تهز جسده كله، واهتزت عروقه، وأليافه، وعضلاته فجأة كما تهز عضلات من يتعبه الجري السريع أو يرهقه الصراع الحاد، الذي يقدم الإنسان فيه آخر مالديه، فتنهد دون شعور تقريباً. وجد نفسه مدفوعاً نحوها برجولته الممتلئة البكر، وقد بدا له كل شيء مشرقاً فيها متألقاً بديعاً، وابتسمت له عيناها زيادة على ابتسامة فمها، فشعر أنهما أول عينين تبتسمان له في حياته كلها، وتنظران إليه كما لو أنهما كانتا مدفوعتين بدورهما بقوة الحب أو بقوة أخرى لا يعرف طبيعتها، فشعر بهما في أعماقه... شعر بهما يتخللان جسده كله كما يتخلل ماء الحياة الغصن الطري. ومع ذلك لم يتجرأ على الاقتراب منها. كان قد تدرب طويلاً على إخفاء مشاعره أمام سيده. ثم إنه لم يكن في هيأته مايشجعه على الوقوف على مقربة منها ومخاطبتها بصورة من الصور، من أين له أن يحظى بالحديث مع امرأة لها كل هذا الجمال والتألق والإشراق؟ لكن نظراته ظلت موصولة بها، وتساءل في نفسه تساؤل من يجد نفسه في موقف كموقفه على هذا النحو المفاجئ.. من أين خرجت ياترى؟ لماذا تنظر إليه باسمة، بل إنه ليرى كل مافيها يبسم له.. يطل على مثله ويشرق عليه؟ وعندها طفر إلى ذهنه سؤال لم يسبق له أن طرحه على نفسه، ولم يفكر فيه مجرد التفكير، ربما لأنه لم يكن قبل قد وصل إلى المرحلة التي يطرح فيها عادة مثل هذا السؤال، مع أن الأمر لم تكن له علاقة بسنه. فتساءل ماذا ينقص مثله؟ أليس المهم، كل المهم رجولته.. رجولته هذه، التي يشعر بها فجأة وهي على أشد ماتكون يقظة وحيوية وعنفواناً؟ في تلك اللحظة رآها تقترب منه.. أتراها قرأت ماجال في ذهنه عن فكرة رجولته؟ وسبقها البريق إليه، وكانت نظراتها تمسح وجهه بأنامل أثيرية، فتشعره بنوع من الحرارة والدفء... دون أن يتخلى عن ابتسامتها الملتهبة. ومدت يديها نحوه، فداخله الاضطراب حين لمسهما وسرت في جسده حركة غريبة. كان ثمة ضوء ينبعث منها ويوشك أن يستل منه عينيه ضوء ينطلق من قرص يشبه قرص الشمس وقد لفه ضباب بنفسجي رقيق، يظهر لعين خياله مفاتن لا تحصى. أيمكن أن تكون من هذه الدنيا؟ إنها جديدة على دنياه على أية حال. وراحت نظراته تحوم حولها تائهة... كنظرات الطفل يبحث عن شيء أمامه ويذهل عنه. وفي ذهوله شعر بأنفاسها تلهبه، فانبعث من أعماقه فيض من الرجولة والنشوة، وسألها دون أن يفكر في الاستقامة، وقد يكون للاستقامة عنده معنى الرجولة: - أتريدين أن تكوني زوجة لي؟ وقبل أن يتلقى الجواب تسارعت في ذهنه أفكار كثيرة، كان من بينها.. امرأة كهذه لا يمكن أن يمتلكها الإنسان للحظة عابرة حتى عند توافر الظروف المناسبة لامتلاك من هذا النوع العابر. وساوره شعور بالخوف من أن ترفضه رغم ما تضمنه سؤاله من صدق. ولكن المرأة البنفسجية، التي توسمت فيه ماتوسمت، أجابته بفرحة ظاهرة: - أنا لك منذ اللحظة! لاحظ الصدق في كلمتها أيضاً، فود حينئذ أن يحتضنها، أن ينتهي فيها. كلا. لا يريد أن ينتهي. يريد أن يشرق فيها ويحيا بها.. زوجة له وخادمة مطيعة! ولم يجد مايقوله لها سوى أن يشد على يدها وينقل إليها كل مشاعره لتحاور مشاعرها! وسار معها، فراحت تخطو إلى جانبه بكل جلالها. وكان القطيع يسبقهما، وشعر بلذة السير إلى جانبها ويدها في يده، فاختفى الطريق أمامه، واختفى الزمن والمسافة! وصل الراعي إلى بيت سيده، فأسرع إليه، ويد المرأة في يده، فوجده جالساً فوق أريكة ذات لون ذهبي، وقد ضم رجليه فوقها، فقد كانت هذه جلسته المفضلة، وأمامه مائدة صغيرة، فوقها بعض الفواكه، كان سيده في تلك الساعة، التي يخلو فيها إلى نفسه، ليراجع حساباته ومصارفه اليومية مراجعة ذهنية! وقال لسيده مباشرة، وقد شعر لأول مرة أنه مساوٍ له: - أريد أن أتزوج هذه المرأة. كان السيد قد وضع رجليه فوق الأرض عندما رأى المرأة تدخل عليه مع راعيه، فعلق نظره، وقد طار عنه ماكان به من خمول، بابتسامتها الساحرة، ومن ثم لم يسمع في بداية الأمر ماقاله الراعي، وحين أعاد عليه ماقاله دون أن يطلب منه ذلك، استفسره السيد قائلاً: - ماذا قلت؟! قال الراعي، ونظره معلق بالمرأة، ويده تضغط في رفق على أصابعها الناعمة: - قلت.. أريد أن أتزوج هذه المرأة. نهض السيد وقد شعر بذلك الانزعاج، الذي كان ينتابه كلما اختفت الشمس خلف جبل ما، وتصور أن الراعي ينعم بها فوق قمة الجبل طوال النهار، ومع ذلك أحس ببسمة تتسرب إلى فمه، وبشيء من الحسد في هذا المقام أيضاً ينسحب من عينيه على وجهه، وقال في سخرية: - مثلك يريد أن يتزوج بهذه المرأة! فشعر الراعي في أعماقه بمايشبه مفعول السم، ورد على سيده بنوع من التحدي والسخرية في الوقت نفسه، وهو يغالب مشاعر الغيرة في نفسه: - ما الذي يمنعني من ذلك؟ برزت عينا السيد على عادته عند الكلام إلى خدمه في ظرف مثل هذا الظرف، وأجابه، وهو يواصل النظر إلى المرأة: - تقول... من يمنعني من ذلك؟ قال الراعي في تحد أكثر: - من يمنعني من الزواج بها؟ نظر إليه السيد مهدداً، وقال: - أنا أمنعك من ذلك. حضن الراعي المرأة بإحدى يديه، وسأل سيده: - بأي حق تمنعني منها؟ أنا لم أسألك إلا لأنني أعمل عندك وأسكن عندك! قال السيد في كبرياء: -بحق العمل والسكن والسيادة! وأحس الراعي بكرامته، فآلام الحياة لم تستعبده، ثم إنه يحس اليوم بسيادته هو نفسه على نحو لم يعهده في نفسه، وقال: - لا سيادة لك في أمري هذا! ضحك السيد ورد ساخراً: - تقول لا سيادة لي في أمرك هذا؟ بلى إنها لي. وما أنت إلا راع عندي. قال الراعي: - كنت راعياً عندك حقاً، ولا أزال، ولكن ذلك سيكون ابتداء من اليوم بمعنى آخر. فسأله السيد في سخرية: - وماتعني بمعنى آخر؟ أجاب الراعي قائلاً: - أنا منذ اليوم راع لهذه المرأة، ثم راع عندك إذا شئت أنت. واصل السيد سخريته منه: - وإذا لم أشأ؟ أتظنها تقبل بك لتعيش معك في الهواء الطلق؟ فأكد له الراعي: - مجيئها معي يعني قبولها بي. وهي لم تسألني عنك ولا أين أسكن. عاد السيد يضحك، وقال: - قبلت بك قبل أن تراني! ألم تر أنها تبتسم لي؟ قال الراعي: - إنها تبتسم منذ رأيتها. البسمة عندها سلوك طبيعي! هذا ما اتضح لي. والتقى نظر السيد بها وببسمتها، فاتجه إليها، وقرب وجهه من وجهها، لكن الراعي سحبها مبتعداً بها عنه، وصاح به: - لا تقترب منها هكذا! خاطبها من بعيد.. إن كان لك سؤال توجهه إليها! إني أسمح لك بتوجيه مثل هذا السؤال! أحس السيد بما في كلامه من الاعتداد بالنفس، فنظر إلى عضلاته القوية، وقاس قامته الطويلة بنظرة خائفة نوعا ًما من غير أن يدعه يلمح ذلك عليه، وقال: - ليس من عادتي أن أسأل المرأة! ألقت عليه المرأة نظرة ساخرة، واقتربت من الراعي أكثر، فقال الراعي لسيده: - هاهي قد أجابتك دون أن تسألها! راح السيد عندئذ يتوعد بلهجة خاصة قائلاً: - فكر في عاقبة هذا الأمر! فلست... قاطعه الراعي قائلاً: - لا تقل إنني لست أهلاً للقيام بشؤونها! أسرع السيد يقول: - لا مال لك ولا جاه ولا سند. فكيف تقوم بشؤونها؟ قال الراعي: - لا تهتم لهذا الأمر! فهي مالي وجاهي وسندي. قال السيد ، وهو يشير إلى المرأة بأصبعه: - إذا كنت قد عثرت عليها في أراضي، فهي ملك لي! رفع الراعي يده، وحرك سبابته حركات أفقية متلاحقة، ثم قال: - كلا. لم أعثر عليها، بل لم ألتق بها في أراضيك، وإنما التقيت بها فوق قمة الجبل. وهي التي برزت لي على صورتها هذه. قال السيد: - إذا كان الجبل يشرف على أرضي، فهو ملك لي أيضاً! قال الراعي: - ملكية الجبل تتجاوز ملكية الأشخاص. نظر إليه السيد مفكراً، ثم قال: - أتريد أن تقول... إن الجبل ملك لها هي؟ أجابه الراعي، وكأنه قد أعد الجواب سابقاً: - لك أن تفهم هذا الأمر كما تشاء! هز السيد رأسه، وقد عاوده التوعد: - يبدو أنها أنستك كل مالدي من جاه ومال، سأطردك وآخذها منك باسم القانون! ابتسم الراعي في سخرية، وقال وهو يضم المرأة إليه: - تقصد باسم التحايل علىالقانون! قال السيد ملوحاً بيده: - لايهم، المهم أن يفتح مالي وجاهي طريقي إليها، وعندئذ أفتكُّها منك! قال الراعي بلهجة مستنكرة، وقد طغت عليه وطأة الشعور بالظلم فجأة: - تفعل ذلك معي أنا الذي خدمتك بإخلاص وتوقعت، حين أحضرتها معي، أن تساعدني على اتخاذها حليلة لي؟ رد السيد قائلاً في كبرياء: - مامن خدمة اعترف لك بها غير تنازلك لي عنها الساعة! قال الراعي في إصرار: - لن أتنازل لك عنها، مصلحتي الآن تمحو مصلحتك! هنا راح السيد يهدده بسبابته، وهو يقول: - أقول لك مرة أخرى.. إن مالي وجاهي سيحسمان هذا الأمر لمصلحتي! فأسرع الراعي يرد على التهديد في تحد: - لن أدعك تأخذها مني وليكن لك ماتريد! قال السيد، وهو يهز يديه كلتيهما في وجه الراعي. - ستعرف حجمك يوم غد.. وتقر بمصلحتي صاغراً! *** احتد الجدال بين الراعي وسيده، وكانا قد بدآه من جديد قبل دخولهما على القاضي، كل منهما يدعي أنه أحق بها من الآخر. الأول يعيد بعض عبارات الحديث الماضي عن المرأة، ويؤكد سبقه إليها، والثاني يصر على أهليته لها بحكم ماله من مال وجاه ومقام، وكان كل منهما يمسك بإحدى يديها، ويحاول أن يدفع يد خصمه بيده الأخرى... والمرأة تبتسم على عادتها، وعلى هذه الصورة وقفا أمام القاضي، الذي بدا لهم فيه كل شيء منتفخاً من أول وهلة! وبعد أن سمع القاضي قصتهم مع المرأة، وهو يتأمل ملامحها في إعجاب تجاوز حده، وجه نظره إلى الراعي، وسأله بنظرة خبث: - أنت راع؟ أجاب الراعي بلطف: - نعم ، سيدي! أمال القاضي رأسه وقال، وقد صدرت عن يده حركة مهددة: - أنت تقر بأنك راع؟ بدت الدهشة على وجه الراعي، وقال: - وهل تراني أنكرت ذلك ياسيدي؟ قال القاضي: - أردت أن أسمع ذلك منك فقط! هنا أسرع السيد يقول: - إنه راع عندي، ياسيدي! فنهره القاضي قائلاً: - اسكت! سيأتي دورك أنت. استغرب السيد أن يخاطبه القاضي بهذه اللهجة، مع أنه كان قد نظر إليه وهو يربت على جيب صدره، وكان قد تتبع حركة يده، وهو متأكد من ذلك تماماً، وقال وكأنه يعتذر عما بدر منه: - أردت أن أذكرك فقط ياسيدي!. ألقى عليه القاضي نظرة رافضة، ووضع شفته العليا بين أسنانه مفكراً، وهو يحرك رأسه، ثم بلَّ شفتيه وقال: - قلت لك اسكت! ومسح جبينه بيده، ووجه الخطاب إلى الراعي قائلاً: - مادمت راعياً فما أنت لها بأهل! امتعض الراعي من قوله، وقال له بلهجة احتجاج: - أظن أن مثل هذا الحكم لا يمكن أن يكون منصفاً. ابتسم القاضي، وقد شعر برغبة في مجاراته، وقال: - بل هو منصف، أيها الراعي! فسأله الراعي: - منصف لمن؟ بسط القاضي يديه فوق المنصة، وهو ينظر إلى ابتسامة المرأة، وقال: - منصف لمستقبل المرأة! قال الراعي: - لم أفهم. رد القاضي قائلاً: - لا تحاول أن تفهم. ودع الإنصاف لأهل الإنصاف! وهم الراعي بالكلام، ولكن القاضي أسكته بلهجة صارمة: - كفى! لم يبق لك من كلام تقوله. وانتبه إلى أن الراعي يمسك بيد المرأة، فأضاف قائلاً: - اترك يدها، فلا حق لك فيها! صاح الراعي، وهو لا يزال ممسكاً بيدها: - بل لي فيها كل الحق! انتفض القاضي في مكانه، وقال له بلهجة أشد عنفاً: - قلت لك اسكت، إياك أن أسمع منك كلمة أخرى دون أن أطلب منك ذلك. انزع يدك من يدها، وإلا أمرت بإخراجك! همهم الراعي حانقاً: - من يبقى إذا أخرج صاحب الحق؟ وامتثل لأمره، وهو يضغط أسنانه حتى لا يصرخ بما قاله. لم يكن يتوقع أن يقف القاضي إلى جانب سيده، ويضن عليه بالحق في امرأة، التقى بها وعرض نفسه عليها، فقبلته. أطرق القاضي قليلاً، ثم قال بصوت لم يسمع غيره: - الجمال لمن ينصفه، لمن يصون صفاءه وبهاءه! كان السيد في أثناء ذلك يبتسم في زهو، ونظر إلى راعيه في تشف، وقال للقاضي: - شكراً لك، ياسيدي القاضي! فسأله القاضي في استغراب: - علام تشكرني، أيها السيد؟ فأجاب السيد، وقد امتلأت نفسه هو الآخر ببسمة المرأة: - أشكرك على أنك أنصفت مستقبل المرأة وأنصفتني بذلك. ضحك القاضي، وقال: - وكيف عرفت ذلك؟ إنني لم أصدر حكمي بعد! ربت السيد على جيب صدره مرة أخرى، وقال: - بعد أن نفيت عن الراعي مايدعيه من حق وأسكته، أصبح حكمك واضحاً.. لم يخف حتى على الراعي! سأله القاضي: - من أنت؟ استوى الرجل في جلسته، ورفع رأسه. ثم قال: - رجل ثري، وصاحب ونفوذ! ضحك القاضي، وضرب بكف يمناه الغليظة في الهواء، ثم قال: - لم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن قيمتك. قال السيد: - قيمتي هي ماقلته لك! حرك القاضي رأسه حركة نفي، وقال: - لا أنت هذا، ولا أنت ذاك. شعر السيد بقامته تتقلص، وهو يتساءل: - ماذا يعني هذا، ياسيدي؟ حرك القاضي رأسه مرتين إلى الأمام وإلى الخلف، وقال: - أعني أن مالي أكثر ونفوذي أعظم. شعر السيد بشيء من التحدي، وسأل القاضي بنبرة لا تخلو من سخرية
أسطورة شعبية
وقف الراعي متكئاً على عصاه فوق قمة الجبل، وراح يتأمل قطيعه، وهو يقضم العشب الطري حيناً، ويرفع بعضه قائمتيه الأماميتين ليقضم أغصان الأشجار الصغيرة حيناً آخر، وقد يرفع رأسه أو يلتفت إليه لينظر كلما ندّ عنه صوت أو صدرت عنه حركة. وعندما أحس بالتعب، ظهر له أن يستريح، فجلس فوق الأرض، ومد عصاه إلى جانبه، وأخرج شبابته من جيب سرواله ووضعها في حجره، وصدره يمتص شذى الربيع، الذي كانت تنثره الأزهار المنتشرة هنا وهناك، ولما سرح نظره بعيداً، عاوده الشعور بدم الشباب يفور في جسمه. كانت عيناه حالمتين، كأنهما تبحثان عن شيء غريب في هذا الصمت، الذي يسود القمة بصورة بديعة، فقد بدأ منذ مدة ليست بالطويلة يحس بسطوة رجولته تزداد حدة، وأصبح التفكير فيها يسد عليه مسالك نفسه ويتعبه ويشعره بنوع غريب من شقاء نفسه، وعذاب أيامه.
استقرَّ نظره فوق قمم الجبال الأخرى، التي كثيراً ماكانت مرعى له أيضاً، لكنه كان قد فضل في هذا اليوم رعي قطيعه فوق هذا الجبل. بدت له تلك القمم حزينة، وتساءل في نفسه أهي حزينة حقاً أم أن ذلك كان محض تصور منه؟ وكانت تبدو له صغيرة الحجم أيضاً،' فهل كانت نظرته الحزينة سبباً في تقلصها؟ وهل النظرة الحزينة تقلص حجم الأشياء في عين الناظر إليها فعلاً؟ كان الجبل يغمره بسحر خاص، ويملأ نفسه بدفء حالم. واعتراه شوق غامض موجع، فتناول شبابته، وتأملها كما يتأمل الطفل لعبته الجديدة، فقد كان شعوره بها متجدداً على الدوام، ولاسيما حين يقربها من عينيه وينظر إلى فتحاتها، ويمسح عليها بيده في حب، كان بعض الأحيان يقربها من فمه، ويريح أصابعه فوق فتحاتها الثماني، ويعزف عليها في وعيه أولاً، ثم يستنطقها ويزرع فيها ألحانه. وتذكر اللحن، الذي كان يفضل البدء به حين تكتنفه رغبة في العزف على شبابته، فنفخ فيها وحرك أصابعه، فسالت منها نغمات عذبة، ملأت نفسه نشوة، كاد يحس بها إحساساً حقيقياً، حين راحت أصداؤها تنتشر فوق القمم وتمتزج بأشعة ملونة تمتد كالبحر، وتجعل السماء تبدو له وكأنها تختصر أبعادها وتقترب من الجبال في نسيج من اصفرار الشمس المنحدرة نحو المغيب، وتختلط بأصوات الطيور وهي تنتقل من شجرة إلى شجرة فوق المنحدر وتقوم بحركات خفيفة توشك أن تجعلها تتخذ مظهر الراقصة بكل ما لجسدها من تثنيات وتموجات حالمة.
وحين هم بجمع قطيعه للعودة إلى البيت، برزت أمامه ملفوفة في أشعة الشمس الغاربة امرأة يافعة، جميلة الوجه، ناعمة البشرة، لينة الأعطاف، لا تفارق البسمة شفتيها كأنها طبيعة فيها، ترتدي ثوباً أبيض، تنسدل فوقه غلالة بنفسجية، يبرز منها عنق في لون العاج، ونعومة المخمل، وملاسة الزمرد. وكانت تحف بها نسمات ربيعية جميلة، فشعر الراعي بشيء يمتد في أعماقه أشبه مايكون بالربيع في امتداد مروجه وحدائق أزهاره. وخيل إليه أنه يعيش لحظاته في ضباب بنفسجي مبطن بالفضة. فقد شده إليها جمالها، ورأى فيها حلم روحه الهائمة، وشعر بانتفاضة تهز جسده كله، واهتزت عروقه، وأليافه، وعضلاته فجأة كما تهز عضلات من يتعبه الجري السريع أو يرهقه الصراع الحاد، الذي يقدم الإنسان فيه آخر مالديه، فتنهد دون شعور تقريباً. وجد نفسه مدفوعاً نحوها برجولته الممتلئة البكر، وقد بدا له كل شيء مشرقاً فيها متألقاً بديعاً، وابتسمت له عيناها زيادة على ابتسامة فمها، فشعر أنهما أول عينين تبتسمان له في حياته كلها، وتنظران إليه كما لو أنهما كانتا مدفوعتين بدورهما بقوة الحب أو بقوة أخرى لا يعرف طبيعتها، فشعر بهما في أعماقه... شعر بهما يتخللان جسده كله كما يتخلل ماء الحياة الغصن الطري.
ومع ذلك لم يتجرأ على الاقتراب منها. كان قد تدرب طويلاً على إخفاء مشاعره أمام سيده. ثم إنه لم يكن في هيأته مايشجعه على الوقوف على مقربة منها ومخاطبتها بصورة من الصور، من أين له أن يحظى بالحديث مع امرأة لها كل هذا الجمال والتألق والإشراق؟ لكن نظراته ظلت موصولة بها، وتساءل في نفسه تساؤل من يجد نفسه في موقف كموقفه على هذا النحو المفاجئ.. من أين خرجت ياترى؟ لماذا تنظر إليه باسمة، بل إنه ليرى كل مافيها يبسم له.. يطل على مثله ويشرق عليه؟ وعندها طفر إلى ذهنه سؤال لم يسبق له أن طرحه على نفسه، ولم يفكر فيه مجرد التفكير، ربما لأنه لم يكن قبل قد وصل إلى المرحلة التي يطرح فيها عادة مثل هذا السؤال، مع أن الأمر لم تكن له علاقة بسنه. فتساءل ماذا ينقص مثله؟ أليس المهم، كل المهم رجولته.. رجولته هذه، التي يشعر بها فجأة وهي على أشد ماتكون يقظة وحيوية وعنفواناً؟
في تلك اللحظة رآها تقترب منه.. أتراها قرأت ماجال في ذهنه عن فكرة رجولته؟ وسبقها البريق إليه، وكانت نظراتها تمسح وجهه بأنامل أثيرية، فتشعره بنوع من الحرارة والدفء... دون أن يتخلى عن ابتسامتها الملتهبة. ومدت يديها نحوه، فداخله الاضطراب حين لمسهما وسرت في جسده حركة غريبة. كان ثمة ضوء ينبعث منها ويوشك أن يستل منه عينيه ضوء ينطلق من قرص يشبه قرص الشمس وقد لفه ضباب بنفسجي رقيق، يظهر لعين خياله مفاتن لا تحصى. أيمكن أن تكون من هذه الدنيا؟ إنها جديدة على دنياه على أية حال. وراحت نظراته تحوم حولها تائهة... كنظرات الطفل يبحث عن شيء أمامه ويذهل عنه.
وفي ذهوله شعر بأنفاسها تلهبه، فانبعث من أعماقه فيض من الرجولة والنشوة، وسألها دون أن يفكر في الاستقامة، وقد يكون للاستقامة عنده معنى الرجولة:
- أتريدين أن تكوني زوجة لي؟
وقبل أن يتلقى الجواب تسارعت في ذهنه أفكار كثيرة، كان من بينها.. امرأة كهذه لا يمكن أن يمتلكها الإنسان للحظة عابرة حتى عند توافر الظروف المناسبة لامتلاك من هذا النوع العابر. وساوره شعور بالخوف من أن ترفضه رغم ما تضمنه سؤاله من صدق. ولكن المرأة البنفسجية، التي توسمت فيه ماتوسمت، أجابته بفرحة ظاهرة:
- أنا لك منذ اللحظة!
لاحظ الصدق في كلمتها أيضاً، فود حينئذ أن يحتضنها، أن ينتهي فيها. كلا. لا يريد أن ينتهي. يريد أن يشرق فيها ويحيا بها.. زوجة له وخادمة مطيعة! ولم يجد مايقوله لها سوى أن يشد على يدها وينقل إليها كل مشاعره لتحاور مشاعرها! وسار معها، فراحت تخطو إلى جانبه بكل جلالها. وكان القطيع يسبقهما، وشعر بلذة السير إلى جانبها ويدها في يده، فاختفى الطريق أمامه، واختفى الزمن والمسافة! وصل الراعي إلى بيت سيده، فأسرع إليه، ويد المرأة في يده، فوجده جالساً فوق أريكة ذات لون ذهبي، وقد ضم رجليه فوقها، فقد كانت هذه جلسته المفضلة، وأمامه مائدة صغيرة، فوقها بعض الفواكه، كان سيده في تلك الساعة، التي يخلو فيها إلى نفسه، ليراجع حساباته ومصارفه اليومية مراجعة ذهنية! وقال لسيده مباشرة، وقد شعر لأول مرة أنه مساوٍ له:
- أريد أن أتزوج هذه المرأة.
كان السيد قد وضع رجليه فوق الأرض عندما رأى المرأة تدخل عليه مع راعيه، فعلق نظره، وقد طار عنه ماكان به من خمول، بابتسامتها الساحرة، ومن ثم لم يسمع في بداية الأمر ماقاله الراعي، وحين أعاد عليه ماقاله دون أن يطلب منه ذلك، استفسره السيد قائلاً:
- ماذا قلت؟!
قال الراعي، ونظره معلق بالمرأة، ويده تضغط في رفق على أصابعها الناعمة:
- قلت.. أريد أن أتزوج هذه المرأة.
نهض السيد وقد شعر بذلك الانزعاج، الذي كان ينتابه كلما اختفت الشمس خلف جبل ما، وتصور أن الراعي ينعم بها فوق قمة الجبل طوال النهار، ومع ذلك أحس ببسمة تتسرب إلى فمه، وبشيء من الحسد في هذا المقام أيضاً ينسحب من عينيه على وجهه، وقال في سخرية:
- مثلك يريد أن يتزوج بهذه المرأة!
فشعر الراعي في أعماقه بمايشبه مفعول السم، ورد على سيده بنوع من التحدي والسخرية في الوقت نفسه، وهو يغالب مشاعر الغيرة في نفسه:
- ما الذي يمنعني من ذلك؟
برزت عينا السيد على عادته عند الكلام إلى خدمه في ظرف مثل هذا الظرف، وأجابه، وهو يواصل النظر إلى المرأة:
- تقول... من يمنعني من ذلك؟
قال الراعي في تحد أكثر:
- من يمنعني من الزواج بها؟
نظر إليه السيد مهدداً، وقال:
- أنا أمنعك من ذلك.
حضن الراعي المرأة بإحدى يديه، وسأل سيده:
- بأي حق تمنعني منها؟ أنا لم أسألك إلا لأنني أعمل عندك وأسكن عندك!
قال السيد في كبرياء:
-بحق العمل والسكن والسيادة!
وأحس الراعي بكرامته، فآلام الحياة لم تستعبده، ثم إنه يحس اليوم بسيادته هو نفسه على نحو لم يعهده في نفسه، وقال:
- لا سيادة لك في أمري هذا!
ضحك السيد ورد ساخراً:
- تقول لا سيادة لي في أمرك هذا؟ بلى إنها لي. وما أنت إلا راع عندي.
قال الراعي:
- كنت راعياً عندك حقاً، ولا أزال، ولكن ذلك سيكون ابتداء من اليوم بمعنى آخر.
فسأله السيد في سخرية:
- وماتعني بمعنى آخر؟
أجاب الراعي قائلاً:
- أنا منذ اليوم راع لهذه المرأة، ثم راع عندك إذا شئت أنت.
واصل السيد سخريته منه:
- وإذا لم أشأ؟ أتظنها تقبل بك لتعيش معك في الهواء الطلق؟
فأكد له الراعي:
- مجيئها معي يعني قبولها بي. وهي لم تسألني عنك ولا أين أسكن.
عاد السيد يضحك، وقال:
- قبلت بك قبل أن تراني! ألم تر أنها تبتسم لي؟
- إنها تبتسم منذ رأيتها. البسمة عندها سلوك طبيعي! هذا ما اتضح لي.
والتقى نظر السيد بها وببسمتها، فاتجه إليها، وقرب وجهه من وجهها، لكن الراعي سحبها مبتعداً بها عنه، وصاح به:
- لا تقترب منها هكذا! خاطبها من بعيد.. إن كان لك سؤال توجهه إليها! إني أسمح لك بتوجيه مثل هذا السؤال!
أحس السيد بما في كلامه من الاعتداد بالنفس، فنظر إلى عضلاته القوية، وقاس قامته الطويلة بنظرة خائفة نوعا ًما من غير أن يدعه يلمح ذلك عليه، وقال:
- ليس من عادتي أن أسأل المرأة!
ألقت عليه المرأة نظرة ساخرة، واقتربت من الراعي أكثر، فقال الراعي لسيده:
- هاهي قد أجابتك دون أن تسألها!
راح السيد عندئذ يتوعد بلهجة خاصة قائلاً:
- فكر في عاقبة هذا الأمر! فلست...
قاطعه الراعي قائلاً:
- لا تقل إنني لست أهلاً للقيام بشؤونها!
أسرع السيد يقول:
- لا مال لك ولا جاه ولا سند. فكيف تقوم بشؤونها؟
- لا تهتم لهذا الأمر! فهي مالي وجاهي وسندي.
قال السيد ، وهو يشير إلى المرأة بأصبعه:
- إذا كنت قد عثرت عليها في أراضي، فهي ملك لي!
رفع الراعي يده، وحرك سبابته حركات أفقية متلاحقة، ثم قال:
- كلا. لم أعثر عليها، بل لم ألتق بها في أراضيك، وإنما التقيت بها فوق قمة الجبل. وهي التي برزت لي على صورتها هذه.
قال السيد:
- إذا كان الجبل يشرف على أرضي، فهو ملك لي أيضاً!
- ملكية الجبل تتجاوز ملكية الأشخاص.
نظر إليه السيد مفكراً، ثم قال:
- أتريد أن تقول... إن الجبل ملك لها هي؟
أجابه الراعي، وكأنه قد أعد الجواب سابقاً:
- لك أن تفهم هذا الأمر كما تشاء!
هز السيد رأسه، وقد عاوده التوعد:
- يبدو أنها أنستك كل مالدي من جاه ومال، سأطردك وآخذها منك باسم القانون!
ابتسم الراعي في سخرية، وقال وهو يضم المرأة إليه:
- تقصد باسم التحايل علىالقانون!
قال السيد ملوحاً بيده:
- لايهم، المهم أن يفتح مالي وجاهي طريقي إليها، وعندئذ أفتكُّها منك!
قال الراعي بلهجة مستنكرة، وقد طغت عليه وطأة الشعور بالظلم فجأة:
- تفعل ذلك معي أنا الذي خدمتك بإخلاص وتوقعت، حين أحضرتها معي، أن تساعدني على اتخاذها حليلة لي؟
رد السيد قائلاً في كبرياء:
- مامن خدمة اعترف لك بها غير تنازلك لي عنها الساعة!
قال الراعي في إصرار:
- لن أتنازل لك عنها، مصلحتي الآن تمحو مصلحتك!
هنا راح السيد يهدده بسبابته، وهو يقول:
- أقول لك مرة أخرى.. إن مالي وجاهي سيحسمان هذا الأمر لمصلحتي!
فأسرع الراعي يرد على التهديد في تحد:
- لن أدعك تأخذها مني وليكن لك ماتريد!
قال السيد، وهو يهز يديه كلتيهما في وجه الراعي.
- ستعرف حجمك يوم غد.. وتقر بمصلحتي صاغراً!
***
احتد الجدال بين الراعي وسيده، وكانا قد بدآه من جديد قبل دخولهما على القاضي، كل منهما يدعي أنه أحق بها من الآخر. الأول يعيد بعض عبارات الحديث الماضي عن المرأة، ويؤكد سبقه إليها، والثاني يصر على أهليته لها بحكم ماله من مال وجاه ومقام، وكان كل منهما يمسك بإحدى يديها، ويحاول أن يدفع يد خصمه بيده الأخرى... والمرأة تبتسم على عادتها، وعلى هذه الصورة وقفا أمام القاضي، الذي بدا لهم فيه كل شيء منتفخاً من أول وهلة! وبعد أن سمع القاضي قصتهم مع المرأة، وهو يتأمل ملامحها في إعجاب تجاوز حده، وجه نظره إلى الراعي، وسأله بنظرة خبث:
- أنت راع؟
أجاب الراعي بلطف:
- نعم ، سيدي!
أمال القاضي رأسه وقال، وقد صدرت عن يده حركة مهددة:
- أنت تقر بأنك راع؟
بدت الدهشة على وجه الراعي، وقال:
- وهل تراني أنكرت ذلك ياسيدي؟
قال القاضي:
- أردت أن أسمع ذلك منك فقط!
هنا أسرع السيد يقول:
- إنه راع عندي، ياسيدي!
فنهره القاضي قائلاً:
- اسكت! سيأتي دورك أنت.
استغرب السيد أن يخاطبه القاضي بهذه اللهجة، مع أنه كان قد نظر إليه وهو يربت على جيب صدره، وكان قد تتبع حركة يده، وهو متأكد من ذلك تماماً، وقال وكأنه يعتذر عما بدر منه:
- أردت أن أذكرك فقط ياسيدي!.
ألقى عليه القاضي نظرة رافضة، ووضع شفته العليا بين أسنانه مفكراً، وهو يحرك رأسه، ثم بلَّ شفتيه وقال:
- قلت لك اسكت!
ومسح جبينه بيده، ووجه الخطاب إلى الراعي قائلاً:
- مادمت راعياً فما أنت لها بأهل!
امتعض الراعي من قوله، وقال له بلهجة احتجاج:
- أظن أن مثل هذا الحكم لا يمكن أن يكون منصفاً.
ابتسم القاضي، وقد شعر برغبة في مجاراته، وقال:
- بل هو منصف، أيها الراعي!
فسأله الراعي:
- منصف لمن؟
بسط القاضي يديه فوق المنصة، وهو ينظر إلى ابتسامة المرأة، وقال:
- منصف لمستقبل المرأة!
- لم أفهم.
رد القاضي قائلاً:
- لا تحاول أن تفهم. ودع الإنصاف لأهل الإنصاف!
وهم الراعي بالكلام، ولكن القاضي أسكته بلهجة صارمة:
- كفى! لم يبق لك من كلام تقوله.
وانتبه إلى أن الراعي يمسك بيد المرأة، فأضاف قائلاً:
- اترك يدها، فلا حق لك فيها!
صاح الراعي، وهو لا يزال ممسكاً بيدها:
- بل لي فيها كل الحق!
انتفض القاضي في مكانه، وقال له بلهجة أشد عنفاً:
- قلت لك اسكت، إياك أن أسمع منك كلمة أخرى دون أن أطلب منك ذلك. انزع يدك من يدها، وإلا أمرت بإخراجك!
همهم الراعي حانقاً:
- من يبقى إذا أخرج صاحب الحق؟
وامتثل لأمره، وهو يضغط أسنانه حتى لا يصرخ بما قاله. لم يكن يتوقع أن يقف القاضي إلى جانب سيده، ويضن عليه بالحق في امرأة، التقى بها وعرض نفسه عليها، فقبلته. أطرق القاضي قليلاً، ثم قال بصوت لم يسمع غيره:
- الجمال لمن ينصفه، لمن يصون صفاءه وبهاءه!
كان السيد في أثناء ذلك يبتسم في زهو، ونظر إلى راعيه في تشف، وقال للقاضي:
- شكراً لك، ياسيدي القاضي!
فسأله القاضي في استغراب:
- علام تشكرني، أيها السيد؟
فأجاب السيد، وقد امتلأت نفسه هو الآخر ببسمة المرأة:
- أشكرك على أنك أنصفت مستقبل المرأة وأنصفتني بذلك.
ضحك القاضي، وقال:
- وكيف عرفت ذلك؟ إنني لم أصدر حكمي بعد!
ربت السيد على جيب صدره مرة أخرى، وقال:
- بعد أن نفيت عن الراعي مايدعيه من حق وأسكته، أصبح حكمك واضحاً.. لم يخف حتى على الراعي!
سأله القاضي:
- من أنت؟
استوى الرجل في جلسته، ورفع رأسه. ثم قال:
- رجل ثري، وصاحب ونفوذ!
ضحك القاضي، وضرب بكف يمناه الغليظة في الهواء، ثم قال:
- لم أسألك عن هذا، وإنما سألتك عن قيمتك.
- قيمتي هي ماقلته لك!
حرك القاضي رأسه حركة نفي، وقال:
- لا أنت هذا، ولا أنت ذاك.
شعر السيد بقامته تتقلص، وهو يتساءل:
- ماذا يعني هذا، ياسيدي؟
حرك القاضي رأسه مرتين إلى الأمام وإلى الخلف، وقال:
- أعني أن مالي أكثر ونفوذي أعظم.
شعر السيد بشيء من التحدي، وسأل القاضي بنبرة لا تخلو من سخرية