القطة.. وعينا منار

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : خليل جاسم الحميدي | المصدر : www.awu-dam.org

 

مشى، وجد الدنيا تمشي معه.‏

الحديقة، الطاولات، الكراسي، الناس، كلهم يمشون معه، توقف فتوقفت الحركة، التفت إلى الخلف، وجد طاولته ما زالت في مكانها، تقبع تحت شجرة الصفصاف، ساكنة، هادئة، لا تحاول الحركة أو المشي.‏

عصر رأسه بين يديه وتأوه، ثم تمتم:‏

-لا بد أنني أفرطت في الشراب.‏

كل مافية متعب ومكدر، وأكثر ما يؤلمه عيناه، مر من جوار طاولة حدق في الوجوه الملتفة حولها، عرف بعضها وبعضها الآخر لم يعرفه، رفع يده محييا، فاهتز في مشيته، تعثر وكاد أن يقع، فانفجروا في ضحك صاخب، وجف قلبه، وشعر أنه أهين، في حين راحت عيناه تقدحان غضباً وشراً، ويداه تتحركان بعصبية.‏

انكمشت الوجوه حول الطاولة، وبدا عليها الارتباك.‏

استدارت رؤوس كثيرة من أماكن متفرقة باتجاههم، تقدم نحوهم خطوة، فازدادوا انكماشاً وخوفاً، فجأة، فتح أحدهم فمه، وقال بارتجاف:‏

-أكمل سهرتك معنا، لأن ذلك يسعدنا.‏

لم يقل شيئاً.‏

فقط بصق بقرف واشمئزاز، ثم تابع مشيته المهتزة، كان يعي أنه يهتز، وكان يعي أيضاً أنه شرب كثيراً، ولكنه كان واثقاً أنه ليس سكران.‏

كل ما فيه يشي أنه حزين ومتعب، وثمة خواء في داخله، ووجه منار يملأ القلب والذاكرة، فحاول قدر الإمكان أن يكون طبيعياً، ومتزناً في مشيته، قفزت من أمامه قطة بيضاء، موشح رأسها بالسواد، ثم أقعت تحدق فيه.‏

أمه قالت له مرة: القطة في الليل نذير شؤم.‏

ابتسم في داخله، وهو ينظر في عيني القطة المتوهجتين بقوة شدَّه فروها الأبيض كالثلج.‏

في العام الماضي، تراشق ومنار بالثلج كالأطفال، وعندما تعبت، وارتمت على الأرض، وهي تلهث بفرح، ارتمى هو الآخر إلى جانبها، ولا يعرف وقتها كيف امتدت يده إلى صدرها، كان صدرها دافئاً وشهياً، في حين غرقت هي في ضحك عذب ولذيذ، وهي تلاحظ ارتباكه وانفعاله الطفولي، ويده المرتجفة وهي تتلمس نهديها المكتنزين، فاحتضن وجهها بيديه الاثنتين ثم دفن وجهه في صدرها الدافئ وكل ما فيه كان يرتعش.‏

جلس على عشب الحديقة، وراح يحدق في عيني القطة، بحب وحنان، سمع صوتاً ساخراً من خلفه يقول:‏

-لا بد أنه يتخيلها ست الحسن.‏

فازداد إحساسه بالحزن والوحدة والتشظي، في حين ظل رأسه يدور كالغراف، وعيناه ملتحمتان بعيني القطة، ووجه منار يركض في شرايينه فراشة من حنان ووجع.‏

بهدوء صامت امتدت يده تزحف في الفراغ نحوها، ظلت ساكنة. هادئة لا تتحرك، شجعه ذلك، واستمرت يده في التقدم، وعندما قصرت المسافة بين اليد والقطة، انكمشت على نفسها ثم تحفزت في مكانها، ولمعت عيناها بقوة، همس:‏

-أرجوك لا تخافي.‏

في حين استمرت هي في تحفزها.‏

وازداد التوهج في عينيها، فتذكر عيني منار، كان الوقت ليلا، وثمة مطر خفيف يهطل فوق المدينة، وهي ممددة إلى جانبه، زنده كان تحت رأسها، وعيناها معلقتان في سقف الغرفة، وأنفاسها تتدفق بارتياح ومسرة.‏

داعب أنفها بإصبعه، فتأوهت بدلال وقالت بعذوبة ناعسة:‏

-دعني، فأنا متعبة.‏

وعندما انسحبت إصبعه فوق عنقها، التصقت به كالقطة الخائفة، وفي الوقت الذي أطبقت فيها كفه على نهدها، ارتعشت بقوة، مثل حمامة بللها المطر، تأوهت ثم شدته نحوها بقوة، فالتقت عيناها بعينيه، كانت عيناها جمرتان من نار حارقة، وعندما دفنت وجهها في صدره، خيل إليه أنها كانت تبكي.‏

ظلت القطة في تحفزها.‏

ويده استمرت في تقدمها، رفعت القطة يدها في حالة دفاع، وفي الوقت الذي استقرت يده فوق رأسها بوداعة، استكانت القطة، استرخت وتركته يعبث برأسها وعنقها، دون أن تبدي ممانعة أو استياء.‏

منار أيضاً كان يسرها أن يمرر يده فوق رأسها، وجسدها وكانت تقول له:‏

-أي سحر في يديك؟‏

-هما يدان مثل كل الأيدي.‏

-بل هما يدان ساحرتان، وأنا أعبدهما.‏

ثم تحتضنه، وتروح تضحك.‏

حمل القطة في حضنه وسار، مرات كثيرة حمل منار أيضاً وركض بها على الشاطئ، وقدماها تتدافعان في الفراغ، وعندما كان يتعب، يضعها على الرمل بهدوء، ثم يتمدد بجانبها، ويروح يحلم بالسفر معها، إلى مدن بعيدة، تغرق بالضباب، وتفوح منها رائحة العشب، والزعتر البري، وحده صوتها العذب كان يعيده إلى الواقع:‏

-هيه، وحد الله يا رجل.‏

يبتسم، والحلم مازال يشع في العينين، والقلب، والذاكرة.‏

-كنت أحلم.‏

-بامرأة غيري أليس كذلك؟‏

-ربما!!‏

-أنت خائن، وأنا أكرهك.‏

-وأنت حبيبتي، وأنا أحبك.‏

ثم يغرقان في الضحك، وهما يتراشقان بالرمل الناعم الرطب.‏

ينكب عليها، يحملها بين ذراعيه، وهي تحاول التملص منه، يدخل بها البحر، وعيونهما المملوءة بالفرح، والحب، والنشوة معلقة ببعضها بعضاً.‏

من نافذة مفتوحة ومضاءة، كانت تنبعث أغنية حارة، دافئة، عذبة وحزينة، صوت المغني كان حاراً وحزيناً أيضاً، شدته الأغنية فتوقف في وسط الشارع الخالي من المارة، وصوت المغني يتسلل إلى داخله بهدوء ناعم شفيف ودافئ، يركض في شرايينه، ثم يستوطن روحه وقلبه، عذاباً وشجوناً وذكريات.‏

دهمته رغبة مجنونة للرقص.‏

وضع القطة على الأرض، فأقعت تحدق فيه، وصوت المغني يخترقه كالشفرة الحادة، كل أعضائه مستنفرة، طوح بيديه في الهواء، دار حول نفسه، دار، وشيئاً فشيئاً راحت حركته تنتظم مع إيقاع الأغنية، وقدماه تدقان الأرض بقوة، ويداه مشرعتان في الفراغ، والصوت الحار الحزين كان يفجره من الداخل، فازدادت حركة الرجلين، وارتفع وقعهما على الأرض، كل جسمه كان يشارك في الحركة، يحس أنه يطير، يرتفع، كل ما حوله يطير معه، يرتفع، ويحلق، واستمر يرقص حتى انقطع صوت المغني عنه، فتوقف عن الرقص وهو يلهث، والعرق يتصبب من وجهه، وعنقه، وثمة شعور بالفرح كان يتسرب إلى قلبه وروحه، وينعكس في عينيه ووجهه، مسح وجهه براحة يده، أخرج سيجارة وأشعلها، مشى، مشت القطة بجانبه، هرول، فهرولت القطة مثله، توقف. فتوقفت هي الأخرى، وبالرغم من كل الحزن والعذاب الذي كان يعاني، ابتسم وهو يحدق في عيني القطة، وقتها خيل له أنها هي الأخرى كانت تبتسم، فانطلق يعدو، والقطة تعدو وراءه. في ليلة صيفية، وفي وقت مثل هذا الوقت تماماً، وضع يده في يد منار، وانطلقا يركضان في شوارع مدينة اللاذقية الخالية من المارة، غزالين من مسك وفرح وصخب.‏

كانا سعيدين ببعضهما بعضاً، بدا سلوكهما غريباً وشاذاً للشرطي القابع أمام مبنى حكومي كبير، وعندما قارباه انحنيا أمامه باحترام، وهما يضحكان، فتصورهما يسخران منه، شتمهما، وطلب منهما تفسيراً لسلوكهما، وعندما أكدا له أنهما غريبان عن المدينة، وأنهما سعيدان، ويريدان الوصول إلى الفندق، قال لهما بصوت حازم:‏

-ولكن هذا لا يمنع أن تكونا أكثر اتزانا.‏

وفي الوقت الذي تحركا فيه، كانت على فم الشرطي ابتسامة هازئة، ساخرة. مستنكرة. دفعتهما إلى مواصلة الضحك، ولكن بصوت مرتفع، فرح. وكان الشرطي وقتها يتمتم:‏

-ما يظنان نفسيهما. قيس وليلى.‏

انحنى وحمل القطة بحنان.‏

فاستكانت بين يديه بهدوء، وراحت تحدق فيه بعينين وديعتين، حانيتين، تماماً مثلما فعلت منار وهي تحتضر، أمسكت بيديه، وضغطت عليهما بشدة، وعيناها معلقتان في عينيه بحنان ووداعة، وبصوت خافت، متعب. محني الظهر وضعيف قالت له:‏

-إنني أموت يا حميدي.‏

-العيش بدونك مستحيل.‏

-ستعتاد فراقي.‏

انحنى عليها وقد دفعت كلماتها في داخله طوفاناً من الحزن، والعجز والرغبة في البكاء، لاحظت ما كان يعاني، فتعكر وجهها لحظة، ومع كل الألم، رسمت على وجهها ابتسامة شاحبة وذابلة.‏

كان وجهها هادئاً وجميلاً، رغم الشحوب الذي يغطيه، وكانت عيناها مطفأتين، وشفتاها جافتين وذابلتين، وأنفاسها تتدفق بإعياء، فأدرك أنها تحتضر، فارتجف قلبه خوفاً وهلعاً عليها، وضعت يدها في يده، وشدَّت عليها بوهن وهي تتمتم.‏

-وداعاً.‏

حافظ على الأطفال، فهم أمانتي الغالية عندك.‏

وقبل أن ينطق بكلمة واحدة، غفت مثل سوسنة نائمة، وخيم الصمت، ورائحة الموت على الغرفة، من وقتها دخل الحزن سرداب القلب، وصار لحياته طعم الدفلى.‏

انحدر إلى الشارع يترنح، ووجه منار السمح يحتل منه العين والقلب والذاكرة. كان الشارع طويلاً، وممتداً، والحركة معدومة فيه بالمرة، فالوقت بات متأخراً، والمدينة تغط في نوم عميق، وحدها الأشجار كانت تقف على جانبي الشارع، مثل أشباح أسطورية.‏

فجأة:‏

تملصت القطة منه، واندفعت من بين يديه كالطلقة، وراحت تعدو في الشارع، ركض وراءها. القطة تعدو، وهو يركض، بكل ما فيه من قوة كان يركض، شعر بالتعب يستولي عليه، خاف أن يفقدها فتحامل على نفسه، واستمر في الركض، والقطة تعدو أمامه بخفة ورشاقة، وكأنها في سباق معه ازداد تعبه، لاحت له سيارة قادمة من نهاية الشارع، والقطة تندفع نحوها بقوة، خاف عليها من السيارة، فازدادت سرعته، والسيارة تقترب، والمسافة تضيق، والقطة تعدو نحوها بإصرار.‏

صرخ بها يتوسل أن تبتعد، أو تتوقف.‏

استمرت القطة في عدوها السريع، أضواء السيارة الباهرة باتت تؤذي عينيه، وتعرقل رؤيته، تقلصت المسافة بين القطة والسيارة أكثر، القطة في منطقة الخطر، والسيارة تقترب، وبكل ما تبقى لديه من قوة، قذف بنفسه فوقها، وكما يحدث في الحلم تماماً، حدث كل شيء، فجأة يرتفع في الجو، كل الأشياء ظلت ثابتة في مكانها، وهو وحده الذي ارتفع، ووحده الذي كان في تلك اللحظة معلقاً بين السماء والأرض، ووحده الذي هوى، ليرتطم بالأرض الصلدة القاسية، ودواليب السيارة المندفعة بعرامة تهرسه، دون أن تتوقف، تأوه، تألم، اختلج، ثم همد، وعاد السكون يخيم على الشارع، في حين أقعت القطة بجواره، ساكنة، هادئة، وعيناها المطفأتان تحدقان فيه بحزن وبلاهة