عانقت الغمائم الدكناء أديمَ السماء بهمجية، فاختبأت الشمس خجلى خلف نقاب ممزق.. ألسنة اللهب تتعالى في جهراء غرثى يزيدها ظمأ الرمل المخضَّب بحنّاء اللوعة والحرمان توهجاً، ويطوّح عويل العاصفة كلَ الأحلام المكبوتة.. الغربة تعشش في كل مكان تلوذ بالحرقة، فتغرس اليأس، وتمنح الآهات حرى... يا أيها المنفيُّ خلف جدار الصمت عانق الحلم الضائع بحرارة، فالتمتمات راعشة تستمرئ أغاني الشمس التي لا تغيب ... //ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وارحمنا...// - ما بك يا أبا عدنان؟ - أهذي يا بني.. تعال ارتشف قهوة الصباح معي.. أمسك أبو عدنان لجام ساقه الخشبية ليقف فأومأت إليه بيدي ليبقى جالساً على كرسيه يكرع تمتماته.. نصف قرن مضى على أبي عدنان وهو جالس على كرسيه الخشبي الخاص المنسوج بإتقان. المدعّم بألواح خشبية تتجدد كل عام.. خمسون سنة مرت على بتر ساقه في حلبة النضال، ومازال يبيع الشاي والقهوة على قارعة الطريق.. على زنده وشم حفرته أشواكُ الجوع وأنيابُ الفقر، وفي جوفه زوبعة تصعِّد كل هنيهة ألسنة اللهب.. - هوّنها يا أبا عدنان... الفرج آت... أزاح أبو عدنان برفق كلّ ما علق بساقه الخشبية من أوحال، وتمتم تمتمات لم أفهمها، وأخذ يلوك بصمت لعنات راعشة.. - لا يا أبا عدنان... لست على ما يرام.. اخبرني ما دهاك؟ - ولدي هاجر ولم يرحم شيخوختي... - ولكنك باركت سفرهَ.. - وماذا تريدني أن أفعل؟ أدعه يموت كمدا؟ إنه يهذي بالسفر ليل نهار.. - ادع له بالتوفيق وسيعود إن شاء الله سالماً غانماً.. - لكنه كان يحمل عني عبء المقهى وهم البيت... - أزف لك يا أبا عدنان بشرى لا يعلم بها أحد من العامة فقد استقيتها البارحة من ذوي الشأن. - خيراً إن شاء الله! - سنصبح أثرياء عما قريب، وسنقبر الفقر إلى الأبد... لوى أبو عدنان رقبته الغليظة بعد عناء، وامتدت سبابته لتمسح برفق أنفاً دامعاً، ونقَّل بصره تارة إلى الأرض وتارة أخرى إلى ألسنة اللهب المتعالية أمامه.. هل ستكون أيها اللهب خبزاً بأفواه الجياع؟ أم سموماً ووساوس وآمالاً لاتباع؟ يا زمان اللهب لقد افترشنا الأرض والتحفنا السماء.. يا زمان اللهب لقد شردنا وجاع الصغار ومازال على قارعة الطريق كلُ الكبار.. - ماذا تقول يا أبا عدنان؟ - أقول يا ولدي اللهم اجعله خيراً يعم الجميع ولا تجعله شراً يؤذي عبادك.. - إن شاء الله سيكون الخير في دعائك أيها الرجل الصالح. - ولكن يا ولدي ماذا نفعل بالذي يغتال الفرح ويئد الأمل؟ - إنها مسألة وقت يا أبا عدنان. - أخشى أن يطول هذا الوقت كما قال لي ولدي قبل سفره. - لا.. كل الحقائق تُشير إلى أن الوقت قريبٌ جداً. هز أبو عدنان رأسه اللحيم بتثاقل، وتحسس جيبه أكثر من مرة.. كانت زوجته تريد حذاء، وبناته يردن ألبسة داخلية .. من أين يأتي بالمال والجالسون على قارعة الطريق يتناقص عددهم كل يوم....؟ حتى الذين كانوا يتمرغون في الأوحال لم تعد قارعة الطريق تروق لهم.. كيف أثرى هؤلاء؟ أمسك أبو عدنان رأسه بكلتا يديه، واعتصره بقوة ما لبث أن تمتم بوهن: للشرف ثمن غالٍ وعليَّ أن أدفع الثمن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً ... لماذا يارب يتمرغ الشرف على أعتاب الحرمان؟ لماذا تصلب المبادئ على أعمدة من دخان؟ لماذا يجلل الزبد القذر شاطئ الأمان؟ لماذا؟ لماذا؟ وتمتم أبو عدنان تمتماتٍ غير مفهومة.وأخذ يلوك بقرف لعناتٍ راعشة *** سياط البرد تدمي الإرهاب وتلوع النفوس، وأغصان الأشجار تلوي أعناقها كمداً... والزروع ناعسة من الغثيان، والتراب قد اكتحل بأثمد غريب... الطريق طويلة مملة تبعث في النفس شعوراً بالغثيان وثمة طيورٍ راجفة تبحث عن ملجأ يقيها غائلة الدخان.. لم تعد البلابل تشدو كل صباح، ولا الندى يهز أعطاف الورود.. الكآبة تُصمي كل بشارة بالأمل.. والألسن لم تعد تلوك من الحكايات سوى حكاية أبي عدنان.. التنين يتربص بحذر لذيذ بكل الأفاعي الأسطورية التي مدت ألسنتها تلعق بشراهة صفاء الحقيقة، والغلائل الزنجية تتلقفها كل آونةٍ تمتماتِ راعشة... توقفت عند شجرة توت هرمة أحدق إلى لحائها الموشى بأحرف لاتينية وسهامٍ مغروسةٍ وقلوبٍ مجروحة.. قلبي محفور فيها منذ أمد طويل... لامسته برفق فتحسست جراحاتي المزمنة التي خطتها أناملي بعناية وحفرتها برفق.. كنت أحبها حباً ملك عقلي ومشاعري بنيت لها قصوراً في الأحلامَ وأطلقت وعوداً مدعمة بقسم يهز الجبال ممهورةٍ بالدموع والآهات.. كانت تقول لي: هل حبك للمبادئ يفوق حبك لي فكنت أجيب كطفل عندما يُسأل هل تحب أباك أكثر من أمك؟ يا للذكرى.. أصبحت هذه الشجرة محراباً لتبتلي وخشوعي وملجأ لزفراتي وأنيني.. كنت أمنّي النفسَ كل يوم برؤيتها رغم زواجها من غيري دون جدوى، فأهمس في سري لعناتٍ راعشةً على كل مَنْ حولي، وأصب جام غضبي على فقري المدقع الذي حال ويحول دون تحقيق الأماني.. سعال رجل جعلني انتفض متلفتاً.. أسرعت الخطا وتوقفت عن المسير عندما أيقنت أنه يتبعني.. فتوقف الرجل.. نظرت إليه ملياً.. بدا لي غريباً عن كوكبنا.. على رأسه الطويل قبعةً وعلى جسده العريض معطف بوليسي، وبين شفتيه غليون يتصاعد دخان تبغه بكثافة.... من هذا؟ ولم يلاحقني؟ أسرعت أحث الخطا، فقلبي راجف للمرة الأولى في حياتي... لا أحد سوانا في هذا الطريق الموحش.. العرق بدأ يرشح من وجهي وجسدي رغم قسوة البرد، وارتجفت هَلعاً عندما لامس الرجل الغريب كتفي... كان وجهه الطويل شاحباً ينظر إلي نظراتٍ لم أستطع تأويلها.. تأملني جيداً من أعلى إلى أسفل، وأنا كالصنم ماثلٌ أمامه بلا حراك.لكز رأسي بأطراف أصابعه، فترنح الرأس كالثمل.. ضحك الرجل الغريب ضحكة هستيرية وقفلَ راجعاً... الرأس الثمل تاه في سراب لا حدود له يناجي الخوف ويستنطق الذل، والوهم اخطبوط يمتص دماء الحقيقة، ويمد أذرعه على شاطئ الأماني.. أغاني الفجر تسكر الأشباح وفي حنجرتي قمري مجروح الغناء.. بدمي الحزين أرسم الأمل على سماء الشجن.. أدخل في خيوط الضوء أشاطر الأغصان أنينها.. أيها الغريب لملم العطر.. أحصد الشهد فالمواجد خبزنا اليومي وبيننا وبينك أمواجُ دمٍ وأمور أفدح من غاشية الموت وأقسى مما في ذاكرة الحزن... - ما بك يا بني؟ - لا شيء - ومن هذا الغريب الذي كان يعبث بك؟ - لا أعرفه والله... - تنبه إلى نفسك جيداً.. احذرهم يا بني فلن تستطيع أن تفهم نواياهم لقد اعترضتني قبل قليل امرأةٌ منهم يا لوقاحتها وجرأتها.. *** الهواء البارد يصفع الوجوه بقوة، ويتسلل إلى المفاصل بهدوء.. قدماي ثقيلتان تجران جسداً منهكاً أضناه حب المبادئ... هذا الحب كان يثير أبا عدنان كثيراً ولطالما صرخ في وجهي: - يا بني ليس لكم في هذا الوطن أكثرَ منا... استنطق ساقي المبتورة لتروي لك حكاية الأمل الذي عشنا لأجله، والحب الذي جمعنا، والنصر الذي حققناه... استنطق فقري المدقع ليقسم لك بصدق كلماتي... كان عملنا أكثر من كلامنا، وها أنتم تعيشون الآن على عطائنا... - لن ينكر أحد ما قدمتموه يا أبا عدنان، وقد بدأنا من حيث انتهيتم، ومازلنا نعمل لغايات أسمى وأهداف أغلى.. كان أبو عدنان وقتذاك يتمتم تمتمات لم أفهمها، ويلقي في وجهي نظراتٍ غريبة، ويلوك بصمت لعناتٍ راعشة... الأرض اليباس تقذف بحسرة كل تعاويذ الأمل. وصهيل الريح يردد بتثاقل أناتِ الغمائم وزفرات المحرومين. إيه .. ردد أيها الصدى الآه في أعماق الأسى. فالليل طويل ثقيل والبراعم تتضرع للندى. بحثت عيناي عن الرجل الكهل.. كان قد اختفى.. ربما ذهب إلى أبي عدنان ليتحدثا سوية كعادتهما في قضايا سياسيةٍ بالغةِ التعقيد.. أسندت رأسي على لحاء شجرة ضخمة.. الشمس تتسلل عبر أوراقها تصنع خيوطها من الضوء تسيل على الأرض.. أفقت على صوت أنثوي ناعم لم أفهم معناه... تكرر الصوت الناعم ثانية وثالثة وأنا جامد كالصنم فأطلقت المرأة ضحكة ماجنة كشفت بها عن غمازتين مغموستين في دسامة الوجه.. لامست خدي برفق فتأوهت.. توتر جسمي كله.. تنسمت عبيرها فأسكرني.. كان عمرها بدراً وفي هالتها تسبح الأقمار، وكان صدرها ممالك النور، وفمها يصنع دائرة للرغبة لا ينفذ منها إلا من شفه الوجد. ها هو من خلال انفراجته يهتف بنداء ساخن عاجل يبعث الحرقة في شرايين القلب.. لم تعد قدماي تقويان على الوقوف، فجلست متهالكاً، وجلست إلى جواري تهمس في أذني كلماتٍ متقطعةً لم أفهم معناها، فتفجرت في ذاكرتي طاقة هائلة من المواجع، وأحسست بأنني أمام امرأة مصنوعة من جمر مواقد الفكر قادرة على إطلاق الشرارات التي تضيء الذاكرة والوجدان.. أنهضتني بطريقة لم أتعودها، وسرت معها منقاداً أستقبل الشذا الذي يصنعه الطل تجاه كوخ يهجع تحت أقدام الجبل وتمتمات أبي عدنان تلاحقني: كان عملنا يا بني أكثر من كلامنا.. وها أنتم تعيشون اليوم على عطائنا.... ... فانتفضت كاللديغ، وهرولت وأنا أصرخ: - أجل يا أبا عدنان.. مازلنا نعمل لغايات أسمى وأهداف أغلى
عانقت الغمائم الدكناء أديمَ السماء بهمجية، فاختبأت الشمس خجلى خلف نقاب ممزق.. ألسنة اللهب تتعالى في جهراء غرثى يزيدها ظمأ الرمل المخضَّب بحنّاء اللوعة والحرمان توهجاً، ويطوّح عويل العاصفة كلَ الأحلام المكبوتة..
الغربة تعشش في كل مكان تلوذ بالحرقة، فتغرس اليأس، وتمنح الآهات حرى...
يا أيها المنفيُّ خلف جدار الصمت عانق الحلم الضائع بحرارة، فالتمتمات راعشة تستمرئ أغاني الشمس التي لا تغيب ...
//ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا وارحمنا...//
- ما بك يا أبا عدنان؟
- أهذي يا بني.. تعال ارتشف قهوة الصباح معي..
أمسك أبو عدنان لجام ساقه الخشبية ليقف فأومأت إليه بيدي ليبقى جالساً على كرسيه يكرع تمتماته..
نصف قرن مضى على أبي عدنان وهو جالس على كرسيه الخشبي الخاص المنسوج بإتقان. المدعّم بألواح خشبية تتجدد كل عام.. خمسون سنة مرت على بتر ساقه في حلبة النضال، ومازال يبيع الشاي والقهوة على قارعة الطريق..
على زنده وشم حفرته أشواكُ الجوع وأنيابُ الفقر، وفي جوفه زوبعة تصعِّد كل هنيهة ألسنة اللهب..
- هوّنها يا أبا عدنان... الفرج آت...
أزاح أبو عدنان برفق كلّ ما علق بساقه الخشبية من أوحال، وتمتم تمتمات لم أفهمها، وأخذ يلوك بصمت لعنات راعشة..
- لا يا أبا عدنان... لست على ما يرام.. اخبرني ما دهاك؟
- ولدي هاجر ولم يرحم شيخوختي...
- ولكنك باركت سفرهَ..
- وماذا تريدني أن أفعل؟ أدعه يموت كمدا؟ إنه يهذي بالسفر ليل نهار..
- ادع له بالتوفيق وسيعود إن شاء الله سالماً غانماً..
- لكنه كان يحمل عني عبء المقهى وهم البيت...
- أزف لك يا أبا عدنان بشرى لا يعلم بها أحد من العامة فقد استقيتها البارحة من ذوي الشأن.
- خيراً إن شاء الله!
- سنصبح أثرياء عما قريب، وسنقبر الفقر إلى الأبد...
لوى أبو عدنان رقبته الغليظة بعد عناء، وامتدت سبابته لتمسح برفق أنفاً دامعاً، ونقَّل بصره تارة إلى الأرض وتارة أخرى إلى ألسنة اللهب المتعالية أمامه..
هل ستكون أيها اللهب خبزاً بأفواه الجياع؟
أم سموماً ووساوس وآمالاً لاتباع؟
يا زمان اللهب لقد افترشنا الأرض والتحفنا السماء..
يا زمان اللهب لقد شردنا وجاع الصغار ومازال على قارعة الطريق كلُ الكبار..
- ماذا تقول يا أبا عدنان؟
- أقول يا ولدي اللهم اجعله خيراً يعم الجميع ولا تجعله شراً يؤذي عبادك..
- إن شاء الله سيكون الخير في دعائك أيها الرجل الصالح.
- ولكن يا ولدي ماذا نفعل بالذي يغتال الفرح ويئد الأمل؟
- إنها مسألة وقت يا أبا عدنان.
- أخشى أن يطول هذا الوقت كما قال لي ولدي قبل سفره.
- لا.. كل الحقائق تُشير إلى أن الوقت قريبٌ جداً.
هز أبو عدنان رأسه اللحيم بتثاقل، وتحسس جيبه أكثر من مرة.. كانت زوجته تريد حذاء، وبناته يردن ألبسة داخلية .. من أين يأتي بالمال والجالسون على قارعة الطريق يتناقص عددهم كل يوم....؟
حتى الذين كانوا يتمرغون في الأوحال لم تعد قارعة الطريق تروق لهم.. كيف أثرى هؤلاء؟
أمسك أبو عدنان رأسه بكلتا يديه، واعتصره بقوة ما لبث أن تمتم بوهن: للشرف ثمن غالٍ وعليَّ أن أدفع الثمن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً ...
لماذا يارب يتمرغ الشرف على أعتاب الحرمان؟
لماذا تصلب المبادئ على أعمدة من دخان؟
لماذا يجلل الزبد القذر شاطئ الأمان؟
لماذا؟ لماذا؟
وتمتم أبو عدنان تمتماتٍ غير مفهومة.وأخذ يلوك بقرف لعناتٍ راعشة
***
سياط البرد تدمي الإرهاب وتلوع النفوس، وأغصان الأشجار تلوي أعناقها كمداً... والزروع ناعسة من الغثيان، والتراب قد اكتحل بأثمد غريب... الطريق طويلة مملة تبعث في النفس شعوراً بالغثيان وثمة طيورٍ راجفة تبحث عن ملجأ يقيها غائلة الدخان.. لم تعد البلابل تشدو كل صباح، ولا الندى يهز أعطاف الورود.. الكآبة تُصمي كل بشارة بالأمل.. والألسن لم تعد تلوك من الحكايات سوى حكاية أبي عدنان..
التنين يتربص بحذر لذيذ بكل الأفاعي الأسطورية التي مدت ألسنتها تلعق بشراهة صفاء الحقيقة، والغلائل الزنجية تتلقفها كل آونةٍ تمتماتِ راعشة...
توقفت عند شجرة توت هرمة أحدق إلى لحائها الموشى بأحرف لاتينية وسهامٍ مغروسةٍ وقلوبٍ مجروحة.. قلبي محفور فيها منذ أمد طويل... لامسته برفق فتحسست جراحاتي المزمنة التي خطتها أناملي بعناية وحفرتها برفق.. كنت أحبها حباً ملك عقلي ومشاعري بنيت لها قصوراً في الأحلامَ وأطلقت وعوداً مدعمة بقسم يهز الجبال ممهورةٍ بالدموع والآهات..
كانت تقول لي: هل حبك للمبادئ يفوق حبك لي فكنت أجيب كطفل عندما يُسأل هل تحب أباك أكثر من أمك؟
يا للذكرى.. أصبحت هذه الشجرة محراباً لتبتلي وخشوعي وملجأ لزفراتي وأنيني.. كنت أمنّي النفسَ كل يوم برؤيتها رغم زواجها من غيري دون جدوى، فأهمس في سري لعناتٍ راعشةً على كل مَنْ حولي، وأصب جام غضبي على فقري المدقع الذي حال ويحول دون تحقيق الأماني..
سعال رجل جعلني انتفض متلفتاً.. أسرعت الخطا وتوقفت عن المسير عندما أيقنت أنه يتبعني.. فتوقف الرجل.. نظرت إليه ملياً.. بدا لي غريباً عن كوكبنا.. على رأسه الطويل قبعةً وعلى جسده العريض معطف بوليسي، وبين شفتيه غليون يتصاعد دخان تبغه بكثافة.... من هذا؟ ولم يلاحقني؟
أسرعت أحث الخطا، فقلبي راجف للمرة الأولى في حياتي... لا أحد سوانا في هذا الطريق الموحش.. العرق بدأ يرشح من وجهي وجسدي رغم قسوة البرد، وارتجفت هَلعاً عندما لامس الرجل الغريب كتفي...
كان وجهه الطويل شاحباً ينظر إلي نظراتٍ لم أستطع تأويلها.. تأملني جيداً من أعلى إلى أسفل، وأنا كالصنم ماثلٌ أمامه بلا حراك.لكز رأسي بأطراف أصابعه، فترنح الرأس كالثمل.. ضحك الرجل الغريب ضحكة هستيرية وقفلَ راجعاً...
الرأس الثمل تاه في سراب لا حدود له يناجي الخوف ويستنطق الذل، والوهم اخطبوط يمتص دماء الحقيقة، ويمد أذرعه على شاطئ الأماني.. أغاني الفجر تسكر الأشباح وفي حنجرتي قمري مجروح الغناء.. بدمي الحزين أرسم الأمل على سماء الشجن.. أدخل في خيوط الضوء أشاطر الأغصان أنينها..
أيها الغريب لملم العطر.. أحصد الشهد فالمواجد خبزنا اليومي وبيننا وبينك أمواجُ دمٍ وأمور أفدح من غاشية الموت وأقسى مما في ذاكرة الحزن...
- ما بك يا بني؟
- لا شيء
- ومن هذا الغريب الذي كان يعبث بك؟
- لا أعرفه والله...
- تنبه إلى نفسك جيداً.. احذرهم يا بني فلن تستطيع أن تفهم نواياهم لقد اعترضتني قبل قليل امرأةٌ منهم يا لوقاحتها وجرأتها..
الهواء البارد يصفع الوجوه بقوة، ويتسلل إلى المفاصل بهدوء.. قدماي ثقيلتان تجران جسداً منهكاً أضناه حب المبادئ... هذا الحب كان يثير أبا عدنان كثيراً ولطالما صرخ في وجهي:
- يا بني ليس لكم في هذا الوطن أكثرَ منا... استنطق ساقي المبتورة لتروي لك حكاية الأمل الذي عشنا لأجله، والحب الذي جمعنا، والنصر الذي حققناه... استنطق فقري المدقع ليقسم لك بصدق كلماتي... كان عملنا أكثر من كلامنا، وها أنتم تعيشون الآن على عطائنا...
- لن ينكر أحد ما قدمتموه يا أبا عدنان، وقد بدأنا من حيث انتهيتم، ومازلنا نعمل لغايات أسمى وأهداف أغلى..
كان أبو عدنان وقتذاك يتمتم تمتمات لم أفهمها، ويلقي في وجهي نظراتٍ غريبة، ويلوك بصمت لعناتٍ راعشة...
الأرض اليباس تقذف بحسرة كل تعاويذ الأمل.
وصهيل الريح يردد بتثاقل أناتِ الغمائم وزفرات المحرومين.
إيه .. ردد أيها الصدى الآه في أعماق الأسى.
فالليل طويل ثقيل والبراعم تتضرع للندى.
بحثت عيناي عن الرجل الكهل.. كان قد اختفى.. ربما ذهب إلى أبي عدنان ليتحدثا سوية كعادتهما في قضايا سياسيةٍ بالغةِ التعقيد..
أسندت رأسي على لحاء شجرة ضخمة.. الشمس تتسلل عبر أوراقها تصنع خيوطها من الضوء تسيل على الأرض.. أفقت على صوت أنثوي ناعم لم أفهم معناه... تكرر الصوت الناعم ثانية وثالثة وأنا جامد كالصنم فأطلقت المرأة ضحكة ماجنة كشفت بها عن غمازتين مغموستين في دسامة الوجه..
لامست خدي برفق فتأوهت.. توتر جسمي كله.. تنسمت عبيرها فأسكرني.. كان عمرها بدراً وفي هالتها تسبح الأقمار، وكان صدرها ممالك النور، وفمها يصنع دائرة للرغبة لا ينفذ منها إلا من شفه الوجد. ها هو من خلال انفراجته يهتف بنداء ساخن عاجل يبعث الحرقة في شرايين القلب..
لم تعد قدماي تقويان على الوقوف، فجلست متهالكاً، وجلست إلى جواري تهمس في أذني كلماتٍ متقطعةً لم أفهم معناها، فتفجرت في ذاكرتي طاقة هائلة من المواجع، وأحسست بأنني أمام امرأة مصنوعة من جمر مواقد الفكر قادرة على إطلاق الشرارات التي تضيء الذاكرة والوجدان.. أنهضتني بطريقة لم أتعودها، وسرت معها منقاداً أستقبل الشذا الذي يصنعه الطل تجاه كوخ يهجع تحت أقدام الجبل وتمتمات أبي عدنان تلاحقني: كان عملنا يا بني أكثر من كلامنا.. وها أنتم تعيشون اليوم على عطائنا....
... فانتفضت كاللديغ، وهرولت وأنا أصرخ:
- أجل يا أبا عدنان.. مازلنا نعمل لغايات أسمى وأهداف أغلى