الأرملة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد أبو خضور | المصدر : www.awu-dam.org

 

كانت السيكارة متوهجة بين أصابعه، عندما دخل والده إلى الغرفة فجأة!‏

دس السيكارة بسرعة في جيبه، بقيت يده في جيبه، لمس جمرتها بأطراف أصابعها محاولاً إطفاءها، سرى الألم الحارق في عضلات وجهه، تململ في وقفته، تابعه والده بعينيه، ثم تقدم منه، وسأله بهدوء مفتعل:‏

- تدخن؟‏

لاذ بالصمت، وكأنه يبحث عن شيء يخصه لكي يتستر به، وجمرة السيكارة تلهب يده وهي تتفتت، كان يرتعش خجلاً، ومشاعر متضاربة تهز كيانه، لم يجب، ومضى والده وتركه لا يعرف كيف يداري خجله ودهشته!.‏

فاجأته أمه:‏

- لقد رآك الناس معها في المحطة تأكلان "السندويش".‏

لم يجب، وهمس لنفسه، "هكذا إذاً! الجميع يعرفون الأمر! خذها يا رجل كما هي! ليكن!".‏

لقد تعذب طوال فترة الخوف الماضية ولكنه الآن قرر أن يتجاوز كل ذلك، ولو اضطر إلى مغادرة جلده.‏

إنه مصمم على أن يخرج من دوامة المداراة، إلى الضوء، ضوء المواجهة مع الذات.‏

عندما يكون معها لا يحس بالناس ولا بالعالم.‏

ظلت أمه المتورمة من التعب، تقف أمامه، شردت عيناها ونفرت علائم الغضب من وجهها عندما ظل معتكفاً بالصمت غمغمت بتساؤل تتمطى الدهشة فيه:‏

- "ألم تعجبك إلا أرملة؟".‏

لم يجب ومضت أمه تحمل معها تساؤلها ودهشتها!.‏

لم يكن معه إلا جده العجوز، منذ البداية أحس أن جده يقف صامتاً إلى صفه، مذ سهرا في تلك الليلة الطويلة وتحدثاً، ضحكا، تسامرا، شربا "المتة" معاً، في تلك الليلة قال له:‏

- "سمعت عن علاقتك" ثم توقف قليلاً ليتابع "لا أريد أن أزجي النصائح، ولكنني بأعوامي الثمانين أقول لك، إذا كنت تحبها، وهي تبادلك الحب فقاتل العالم من أجلها!".‏

عندما يدخل الليل يبدأ مسامراته مع جراحه، من أجل أن ينفض عن روحه وجعها، كان على قناعة بأنه لا فجر يشرق إلا من ضحكة عينيها.‏

قام في تلك الليلة يتفقد صنبور الماء في الحديقة، مر خفيفاً بالقرب من نافدة غرفة والديه وكان الضوء ينبعث خفيفاً، كان البرغش يشكل دوامات متداخلة حول المصباح الخفيف، وكانت هسهسة الصراصير تتداخل مع صوت والده:‏

- ولكنها أرملة يا امرأة!‏

انحشر في مقعد جانبي من مسرح بصرى الأثري المفتوح غير آبه ببرودة المساء، وكانت بجانبه تحتل المقعد الحجري، فرحة وصغيرة مثل غيمة من المطر، تطلع فرأى عيون المعارف تتمركز عليهما، والرؤوس تقترب بعضها من بعض، وخمّن أن التهامس يدور حولهما، انشغل بالمطربة وهي تقف على المسرح وتشد عروق عنقها، لا يعرف لماذا قام فجأة، مد يده وشدها، قامت وهي تتساءل:‏

- إلى أين؟..‏

- نخرج لنشم الهواء، أكاد أختنق هنا!..‏

كانت شوارع بصرى ملك اليدين، ورغم ضيقها شعر بها فسيحة رحبة، وكان هواء الليل الرطب الواعد بأشياء طيبة يمخر رئتيه.‏

سارا في الطرق ذات الأقواس الحجرية والسراديب المليئة بالحكايات والأسرار وهما يعودان نحو القلعة قالت له فجأة:‏

- "أنا امرأة أكبر منك بخمس سنوات!".‏

كانت تتنازعها رغبة في أن تفر منه بعيداً، ورغبة في أن تظل قريبة منه، وتضمه إلى صدرها.‏

أجاب دون تردد:‏

- "لا تهربي مني! ابقي بجانبي فأنا بحاجة إليك".‏

كانت البيوت ساكنة، ومن شقوق الأبواب والنوافذ الخشبية تتسرب بقع الضوء.‏

توقفا في الساحة أمام القلعة الهائلة، وكان صوت فيروز المخضب بالعطر يضفي مهابة وجلالاً على المكان كله.‏

صباح اليوم التالي أفاق وحيداً مسكوناً بالتعاسة والأسئلة.. كيف لا يأتي إليها وهي تقول له في كل نظرة من نظرات عينيها "تعال إليّ"!‏

هو غير مقتنع بطلبها أن يبتعد عنها، يصعب عليه أن يبقى في متاهة التردد، تعب من أن يبقى مقهوراً.. عندما التقاها فاجأها بالقول:‏

- "تعالي نسافر إلى مدينة أخرى"!‏

علت شفتيها ابتسامة حزينة عبّرت عن عمق مشاعرها، وشمس النهار الدافئة تنسكب داخل اعطافه وهو يحتضن كفها الصغيرة، شعر بنفسه ينساب داخل دائرة عميقة من العيون.. عيون ذئبية، عيون غير حيادية، أعاد السؤال:‏

- "ماذا تقولين؟".‏

احتواها شعور غامض فيه من الرغبة أكثر من الخوف، أحست بضعف في مقاومتها، تذكرت أحلامها وحاولت جاهدة لملمة شتات قواها، لا شيء يقف الآن عقبة في طريق حلمها، أن تستقر في كنف شاب يحبها، ولكن صوتاً في داخل أعماقها كان يفح:‏

"لنضع خاتمة لهذه القصة"!.‏

تحدثت عن معارضة أهله، وعن الفرق في العمر وعن... ولكنه أعرب لها عن عدم اهتمامه بكل ذلك... كانت نبرات صوته مليئة بتوق، ليس من صدق أبداً إلا هذا الصدق العاري والعذب، عذوبة حرية لا نهاية لها. لجت بها رغبة لاعجة أن تعرف مرة أخرى رقة شفتيه، وبهجة ملمس وجهه، وشعرت بنشوة الأنثى المرغوبة من رجل.‏

وضجة الناس والباصات في "الكراج" تصل إليهما، أحست به كعصفور طليق، يجيء إليها من خوفه، من حرائقه، لكنها لم تشعر إلا وهي تقول له:‏

- "دعنا نحتفظ بذكرى هذه العلاقة التي صنعها الحب"!‏

في منعطف جانبي كانت تقف بجانبه مرتعشة، ودعتّه ومضت، وأحس الفراغ، فقد كان وجودها إلى جواره يملؤه بعمق الحياة وغنى الأنثى العذب، وهي تبتعد عنه، أحس وكأنه يسقط في بئر لا قرار لها، في لحظة كاد أن يرفس أقفاص الأشجار وأن ينقض على واجهات المحال يدمّرها ولكنه أحس بنفسه ينصاع بصمت ويمضي وحرقة تنداح في الحلق فتضرب الصدر ثم القلب ثم الجسد كله.‏