نفض قميص "الجينز" قبل أن يرتديه، ثم جال ببصره خلال الغرفة، وابتلع ريقه هامساً، وهو يصفق الباب وراءه ماضياً "اللهم اجعله خيراً"!. كانت تباشير الصباح تتمدد على الرصيف عندما وصل أمام سفارة كندا، ووقف في بداية صف كان يعرف أنه سيصبح صفاً طويلاً من أحلام الفقراء وآمال طالبي الهجرة. طافت بشفتيه ابتسامة خفيفة، تحسس ابتسامته فأدرك لأول مرة أن الابتسامة التي تبعث الفرح والسرور هي نفسها التي تشق القلب إلى نصفين. كان عمال المحال المجاورة قد بدأوا في الوصول لبدء يوم جديد من رحلة الحياة. تطلع إلى "الأوتوستراد" العريض، وكانت "باصات" النقل والسيارات المختلفة تعبر بسرعة ولا تنقطع عن السير أمامه. تأمل "صابر" من موقعه بداية حركة الناس، طلاب وطالبات المدارس يتدفقون، السيارات العسكرية، الشاحنات وعربات الخضار وسيارات شرطة المرور، ولمح العجوز العامل في المكتب العقاري، وهو يميل بجسده الناشف إلى الأمام ويهمهم بمقطع من أغنية: "أنا بعشقك" كان شعر العجوز عطا الأبيض ونظارته السميكة التي علقت بمنتصف أنفه يذكره بممثل شاهده في برنامج تلفزيوني للأطفال. أحس بنفسه رغبة لأن يهرب من مدن الإسفلت الأسود وأبواب الخشب المتوهج وواجهات الرخام. كان في البداية قد قرر الهجرة إلى كندا التي سمع عنها كثيراً وسأل عنها كثيراً، كانت تشكل لديه أرض أحلام يهوى الوصول إليها ولكنه وبعد مقابلة مشؤومة عدل عن تلك الفكرة واستكان إلى وضعه الجديد، الوقوف في هذا الصف الطويل ومن ثم لعب دور البديل. كان يفكر لو أنه مات وأراد أحد أن يكتب عنه فلا أكثر بساطة، ليس ثمة سوى تاريخين: ولادته وموته. وجميع الأيام التي بين هذين التاريخين هي عليه وليست له. ذات يوم وهو يقف في الصف سمع رجلاً وراءه يقول الإنسان يولد في كل لحظة، ولذلك على الإنسان أن يبدأ حياته من جديد. هو لا يعرف كيف سيطرت عليه تلك الفكرة، فكرة الولادة في كل لحظة، ولكنه مشى بالاتجاه المعاكس قرر ألا يفكر، وهو لا يريد أن يفكر كثيراً. جاء رجل وشابان ثم فتاة شابة وامرأتان. أخذ الجميع مواقعهم وراءه في الصف. وعلا الحديث حول التأمين المصرفي ومدة الإقامة الضرورية بموجب (الغرين كارد). كان درج السفارة يقسمه حاجز حديدي يرتكز على أسياخ حديدية غليظة دهنت باللون الأبيض الفاقع، وشاهد خلف الباب الثقيل المطبق قطة سوداء تبحلق في الناس والسيارات بعينين تومضان كالبرق.. وكلما كان الباب يفتح ليمر منه أحد الموظفين أو إحدى الموظفات كانت القطة تهز أذنيها وكأنها تشنفهما لوقع الخطوات فوق الدرج النظيف. بدأ عدد الوافدين يزداد، وعندما تطلع إلى ساعته رأى أنها التاسعة، خرج عامل محل المفروشات المجاور صعد على كرسي خيزران وبدأ يمسح بخرقة مبلولة اسم المحل المكتوب على البلور، وفي الوقت ذاته أطلت امرأة من إحدى شرفات الجوار، ردت شعرها بيدها ثم تطلعت تساير مواكب السيارات.وهي تنهب إسفلت الأوتوستراد. يذكر أن المقابلة الوحيدة التي أجراها داخل السفارة لم تكن جيدة عندما عمد أحد مقابليه إلى الصراخ في وجهه بصوت عالٍ. كان رجلاً ضخم الجثة وأسنانه شديدة البياض، صاح به الرجل: "لماذا لا تفهم ما يقال لك؟". هو يذكر أنه حاول قدر المستطاع إعطاء الأجوبة الصحيحة ولكنه أحس بحاجة كبرى إلى الانصراف بعد أن سيطر عليه غيظ مفاجىء من ذلك الموظف الضخم كالفيل. لم يعد يريد الهجرة، ولم يعد يفكر فيها. فجأة اهتز سكون الصف الطويل من الناس بعد زوبعة من الصوت اكتسحت الفضاء، تطلع صابر ومعه الآخرون نحو مصدر الصوت في أعلا الدرج. بدأ رجل أشقر الشعر يضع نظارة طبية على عينيه وقد اندفع وهو يصيح: Attention: I want areal discipline! Every person would has his round وفوجىء صابر بالحارس يترجم ويؤكد من جانبه. رجاء الالتزام بالدور ارتد الموظف الأشقر إلى الوراء ودخل إلى مبنى السفارة. تطلع صابر إلى أعلى، كان درج السفارة يغور بين حائطين. هكذا خيل إليه، ولكنه عندما دقق النظر أدرك أن ظل الفتحة بين بناية السفارة والبناية المجاورة هو السبب في ذلك الخطأ البصري. غير أنه أدرك أن الظهيرة بدأت تدلف.. كانت الشمس تتقد في الرؤوس عندما توقفت سيارة مرسيدس ونزل منها شاب يرتدي بنطال جينز ويعلق سلسلة ذهبية في معصم يده (بلاك) توقف الشاب أمام المكتب العقاري المجاور، ثم تقدم ليتفرج على اللوحة الشهيرة للطفل الدامع العينين، وهو في وقفته تلك ركض العجوز عطا نحوه مرحّباً.. سار الاثنان نحو المكتب. كانت ظلال الأبنية وأشجار الرصيف تنعكس على جانب سيارة المرسيدس. غامت الدنيا في عيني صابر، اندفعت أنفاسه وهو يسمع هدير السيارات يزداد علواً، شعر بالشمس قرصاً متوهجاً، تطلع إلى الوراء رأى الصف طويلاً، لم يميز تفاصيل الوجوه غير أنه أحس بشيء يشبه الدوار ولكنه تماسك على نفسه، خيل إليه أن الشرفات التي تطل على الرصيف تكاد تطبق عليه، عبرت الأوتوستراد شاحنة معبأة بقناني الغاز المعدنية تاركة خلفها دخاناً وضجيجاً. كانت الشمس تتقد في الرؤوس عندما اقترب منه العجوز عطا وسأله: - لديّ زبون! هل تخلي؟ - آه. لقد طال الوقت. أجاب بسرعة. غاب العجوز عطا للحظات ثم رآه قادماً مع الشاب صاحب سيارة المرسيدس. عندما اقتربا منه لاحظ حولاً طفيفاً في عينيّ الشاب الذي بدت ثيابه عليه واسعة. كانا يتحادثان همساً. نظر العجوز عطا حوله بسرعة وارتياب ثم اقترب من صابر بحركة ود، ربت على كتفه ثم ناوله ورقتي المئة ليرة بسرعة وهو يقود الشاب الأحول إلى مكان صابر الذي أخلى المكان وهو يدرك على نحو غامض أن قليلين هم الذين يدركون غباءهم في هذه الدنيا. وعندما تحرك بعيداً نحو موقف الباصات كان على يقين أن وجبة من أسياخ اللحم المشوي كانت بانتظاره يعقبها كأس شاي كبير في مقهى الروضة
نفض قميص "الجينز" قبل أن يرتديه، ثم جال ببصره خلال الغرفة، وابتلع ريقه هامساً، وهو يصفق الباب وراءه ماضياً "اللهم اجعله خيراً"!.
كانت تباشير الصباح تتمدد على الرصيف عندما وصل أمام سفارة كندا، ووقف في بداية صف كان يعرف أنه سيصبح صفاً طويلاً من أحلام الفقراء وآمال طالبي الهجرة.
طافت بشفتيه ابتسامة خفيفة، تحسس ابتسامته فأدرك لأول مرة أن الابتسامة التي تبعث الفرح والسرور هي نفسها التي تشق القلب إلى نصفين.
كان عمال المحال المجاورة قد بدأوا في الوصول لبدء يوم جديد من رحلة الحياة.
تطلع إلى "الأوتوستراد" العريض، وكانت "باصات" النقل والسيارات المختلفة تعبر بسرعة ولا تنقطع عن السير أمامه.
تأمل "صابر" من موقعه بداية حركة الناس، طلاب وطالبات المدارس يتدفقون، السيارات العسكرية، الشاحنات وعربات الخضار وسيارات شرطة المرور، ولمح العجوز العامل في المكتب العقاري، وهو يميل بجسده الناشف إلى الأمام ويهمهم بمقطع من أغنية: "أنا بعشقك" كان شعر العجوز عطا الأبيض ونظارته السميكة التي علقت بمنتصف أنفه يذكره بممثل شاهده في برنامج تلفزيوني للأطفال.
أحس بنفسه رغبة لأن يهرب من مدن الإسفلت الأسود وأبواب الخشب المتوهج وواجهات الرخام.
كان في البداية قد قرر الهجرة إلى كندا التي سمع عنها كثيراً وسأل عنها كثيراً، كانت تشكل لديه أرض أحلام يهوى الوصول إليها ولكنه وبعد مقابلة مشؤومة عدل عن تلك الفكرة واستكان إلى وضعه الجديد، الوقوف في هذا الصف الطويل ومن ثم لعب دور البديل. كان يفكر لو أنه مات وأراد أحد أن يكتب عنه فلا أكثر بساطة، ليس ثمة سوى تاريخين: ولادته وموته. وجميع الأيام التي بين هذين التاريخين هي عليه وليست له.
ذات يوم وهو يقف في الصف سمع رجلاً وراءه يقول الإنسان يولد في كل لحظة، ولذلك على الإنسان أن يبدأ حياته من جديد. هو لا يعرف كيف سيطرت عليه تلك الفكرة، فكرة الولادة في كل لحظة، ولكنه مشى بالاتجاه المعاكس قرر ألا يفكر، وهو لا يريد أن يفكر كثيراً.
جاء رجل وشابان ثم فتاة شابة وامرأتان. أخذ الجميع مواقعهم وراءه في الصف. وعلا الحديث حول التأمين المصرفي ومدة الإقامة الضرورية بموجب (الغرين كارد).
كان درج السفارة يقسمه حاجز حديدي يرتكز على أسياخ حديدية غليظة دهنت باللون الأبيض الفاقع، وشاهد خلف الباب الثقيل المطبق قطة سوداء تبحلق في الناس والسيارات بعينين تومضان كالبرق.. وكلما كان الباب يفتح ليمر منه أحد الموظفين أو إحدى الموظفات كانت القطة تهز أذنيها وكأنها تشنفهما لوقع الخطوات فوق الدرج النظيف.
بدأ عدد الوافدين يزداد، وعندما تطلع إلى ساعته رأى أنها التاسعة، خرج عامل محل المفروشات المجاور صعد على كرسي خيزران وبدأ يمسح بخرقة مبلولة اسم المحل المكتوب على البلور، وفي الوقت ذاته أطلت امرأة من إحدى شرفات الجوار، ردت شعرها بيدها ثم تطلعت تساير مواكب السيارات.وهي تنهب إسفلت الأوتوستراد.
يذكر أن المقابلة الوحيدة التي أجراها داخل السفارة لم تكن جيدة عندما عمد أحد مقابليه إلى الصراخ في وجهه بصوت عالٍ. كان رجلاً ضخم الجثة وأسنانه شديدة البياض، صاح به الرجل: "لماذا لا تفهم ما يقال لك؟".
هو يذكر أنه حاول قدر المستطاع إعطاء الأجوبة الصحيحة ولكنه أحس بحاجة كبرى إلى الانصراف بعد أن سيطر عليه غيظ مفاجىء من ذلك الموظف الضخم كالفيل. لم يعد يريد الهجرة، ولم يعد يفكر فيها.
فجأة اهتز سكون الصف الطويل من الناس بعد زوبعة من الصوت اكتسحت الفضاء، تطلع صابر ومعه الآخرون نحو مصدر الصوت في أعلا الدرج.
بدأ رجل أشقر الشعر يضع نظارة طبية على عينيه وقد اندفع وهو يصيح:
Attention: I want areal discipline! Every person would has his round
وفوجىء صابر بالحارس يترجم ويؤكد من جانبه.
رجاء الالتزام بالدور
ارتد الموظف الأشقر إلى الوراء ودخل إلى مبنى السفارة. تطلع صابر إلى أعلى، كان درج السفارة يغور بين حائطين. هكذا خيل إليه، ولكنه عندما دقق النظر أدرك أن ظل الفتحة بين بناية السفارة والبناية المجاورة هو السبب في ذلك الخطأ البصري. غير أنه أدرك أن الظهيرة بدأت تدلف..
كانت الشمس تتقد في الرؤوس عندما توقفت سيارة مرسيدس ونزل منها شاب يرتدي بنطال جينز ويعلق سلسلة ذهبية في معصم يده (بلاك) توقف الشاب أمام المكتب العقاري المجاور، ثم تقدم ليتفرج على اللوحة الشهيرة للطفل الدامع العينين، وهو في وقفته تلك ركض العجوز عطا نحوه مرحّباً.. سار الاثنان نحو المكتب. كانت ظلال الأبنية وأشجار الرصيف تنعكس على جانب سيارة المرسيدس.
غامت الدنيا في عيني صابر، اندفعت أنفاسه وهو يسمع هدير السيارات يزداد علواً، شعر بالشمس قرصاً متوهجاً، تطلع إلى الوراء رأى الصف طويلاً، لم يميز تفاصيل الوجوه غير أنه أحس بشيء يشبه الدوار ولكنه تماسك على نفسه، خيل إليه أن الشرفات التي تطل على الرصيف تكاد تطبق عليه، عبرت الأوتوستراد شاحنة معبأة بقناني الغاز المعدنية تاركة خلفها دخاناً وضجيجاً.
كانت الشمس تتقد في الرؤوس عندما اقترب منه العجوز عطا وسأله:
- لديّ زبون! هل تخلي؟
- آه. لقد طال الوقت. أجاب بسرعة.
غاب العجوز عطا للحظات ثم رآه قادماً مع الشاب صاحب سيارة المرسيدس. عندما اقتربا منه لاحظ حولاً طفيفاً في عينيّ الشاب الذي بدت ثيابه عليه واسعة. كانا يتحادثان همساً.
نظر العجوز عطا حوله بسرعة وارتياب ثم اقترب من صابر بحركة ود، ربت على كتفه ثم ناوله ورقتي المئة ليرة بسرعة وهو يقود الشاب الأحول إلى مكان صابر الذي أخلى المكان وهو يدرك على نحو غامض أن قليلين هم الذين يدركون غباءهم في هذه الدنيا.
وعندما تحرك بعيداً نحو موقف الباصات كان على يقين أن وجبة من أسياخ اللحم المشوي كانت بانتظاره يعقبها كأس شاي كبير في مقهى الروضة