كان المعرض بديعاً. تتدافع الألوان لتحضن حيّز الضوء، ويهرب الضوء ليسرق مساحة الفيء، وتهرع الريشة متراكضةإلى دروب الحياة. اللوحات مجموعة قزحيّة يُنشر فيها السحر كقطعة موسيقيّة ناعمة، أو كنقلة غزال رشيق، امتدت إليها يد الفنّان بعفويّة وانطلاقة لاتنثني عن العبور إلى فرح الغابات، وعذوبة الأصوات، وابتكار مسمّيات وجدت لها رصيداً على أرضيّة الواقع. قالت سلوى: - هنيئاً لك ياربيع هذا التألّق الجميل. - هنيئاً لنا معاً. ما زالت الصالة تفتح ذراعيها.. تنسكب في فسحتها تيّارات مختلفة من البشر، يمعن بعضهم النظر بخشوع، تأخذهم أوّليات الخطوط، يتماوجون جيئة وذهاباً، يبحرون ضمن مواضيع حياتيّة لاتنتهي.يسألون الفنّان، يستفسرون عن جزئياّت صغيرة....وفي النهاية يسجّلون على الدفتر الصغير الهاجع فوق الطاولة قرب الباب ملاحظاتهم، وانطباعاتهم. وقف ربيع عند ركن منزوٍ يقلّب صفحات الوجوه، يقرؤها في محاولة منه لإقناع الذات بأنّ ما قدّمه للناس كان مرضياً، وأنّ رسالته قد وصلت بأمانة، وأن الهاجس الآخر الذي يشغل باله ويؤرقه لم يلحظه أحد. عرفت سلوى ما يعتمل داخل الكيان المرهف. سرى إليها الإحساس عبر خيوط خفيّة تصل ما بين نبضه وأعماقها...فكم حاول مراراً تشكيل لوحة بعينها، لكنّ حكمه عليها لم يتم... تأكد من ذلك في حتميّة ووضوح وترجيع في الروح لايسبر، ولا يدرك كنهه لأوّل وهلة. -" إن المشهد الذي أريد أن يهزّ روحي، ويحفزني على استيعابه فلا استطيع يبدو لي من الضخامة بحيث لايمكن للخيال إنجازه". كثرت معارض ربيع، وفاح صيته كعطر، واصبح إبداعه محطّ أنظار النقّاد والمهتميّن.. لكنّ شجناً معيّناً تلبسّ نهاراته ولياليه، وقلقاً مزمناً ما فتيء يعذّبه ويشقيه.فقد اهتمت ريشته بأدق التفاصيل، وعنيت رسوماته بجزيئات عالمه ونمنماته.. ففي كلّ لوحة تقرأ وجوداً خاصّاً وتستقرئ أنساً فريداً، وتسجّل انطباعاً يختلف عن الانطباع السابق... كما هي الحال لدى قصص سلوى المشحونة بعواطف إنسانية، وأحاسيس وجدانيّة نبيلة، هي أوّلاً وأخيراً تعبير صادق لما تتلمّسه من معاناة الآخرين. إنّه القلق الذي يتولّد من استحالة وضع المدينة الصغيرة بمجملها ضمن صورة واحدة. فهذه المبادرة تتطلّب جهداً عسيراً لم يقدر عليه رغم محاولاته المتكرّرة.. وتشكيل اللوحة على هذا النحو يجب أن تلتقطه العين من علٍ.. من فوق.. من أعلى قمّة ترتفع غرباً.. وتسلُّق الجبل ليس بالأمر السهل...فكم جرّب الصعود إلى هناك.. وكم درّب ساقيه على ذلك ... وكم قاس كي يعانق الذروة.. لكنّ احلامه ومخططاته صدمها واقع مؤلم. لم تكن سلوى تريد تثبيط همّته، أو الوقوف في وجه طموحه.. لكنّها كانت تبغي الإفصاح عن رأيها انطلاقاً من تجربتها ككاتبة لها مسارها الخاص ضمن عالم الأدب الفسيح. -" ليس المطلوب من الفناّن أو الأديب أن يمخر عباب البحاركلّها، أو يخوض التجارب الحياتيّة جميعها كي يحقّق إبداعاً.. بإمكانك أن تتخيّل مثلي، أن تعيش الحالات بينك وبين ذاتك، ثمّ تخرجها للنور صحيحة معافاة.." _" لاياسلوى.. إن الفن الحقيقي هو ابن تجربته، والفنّان الذي يحترم إبداعه هو الذي يلاصق المشهديّة بعينيه وفكره وأصابع يديه.." تطلّع ربيع من النافذة نحو الجبل.. تسلّقه.. ارتفع، ارتفع، ارتفع.. وقف على الذروة. ضمّت عيناه الكروم، والبساتين، والمنعطفات، والأزقّة، والوجوه المتعبة، وأرغفة الجدّات، والزنود السمر، وإشراقة المحبيّن. وشمخت أمامه الآبدة العملاقة بصمودها، وثباتها، واصالتها، ومرجعيتها.. توغّل صدر التاريخ.. رسم سيف صلاح الدين الأيوبي.. شخّص المدينة بكلّية ابعادها، ثم اكتملت اللوحة. أفاق ربيع من زحمة افكاره. أزاح أضغاث الأحلام بيديه. خرج من المكان، وفي جعبته محاولة جديدة للصعود إلى القمّة
كان المعرض بديعاً. تتدافع الألوان لتحضن حيّز الضوء، ويهرب الضوء ليسرق مساحة الفيء، وتهرع الريشة متراكضةإلى دروب الحياة.
اللوحات مجموعة قزحيّة يُنشر فيها السحر كقطعة موسيقيّة ناعمة، أو كنقلة غزال رشيق، امتدت إليها يد الفنّان بعفويّة وانطلاقة لاتنثني عن العبور إلى فرح الغابات، وعذوبة الأصوات، وابتكار مسمّيات وجدت لها رصيداً على أرضيّة الواقع.
قالت سلوى:
- هنيئاً لك ياربيع هذا التألّق الجميل.
- هنيئاً لنا معاً.
ما زالت الصالة تفتح ذراعيها.. تنسكب في فسحتها تيّارات مختلفة من البشر، يمعن بعضهم النظر بخشوع، تأخذهم أوّليات الخطوط، يتماوجون جيئة وذهاباً، يبحرون ضمن مواضيع حياتيّة لاتنتهي.يسألون الفنّان، يستفسرون عن جزئياّت صغيرة....وفي النهاية يسجّلون على الدفتر الصغير الهاجع فوق الطاولة قرب الباب ملاحظاتهم، وانطباعاتهم.
وقف ربيع عند ركن منزوٍ يقلّب صفحات الوجوه، يقرؤها في محاولة منه لإقناع الذات بأنّ ما قدّمه للناس كان مرضياً، وأنّ رسالته قد وصلت بأمانة، وأن الهاجس الآخر الذي يشغل باله ويؤرقه لم يلحظه أحد.
عرفت سلوى ما يعتمل داخل الكيان المرهف. سرى إليها الإحساس عبر خيوط خفيّة تصل ما بين نبضه وأعماقها...فكم حاول مراراً تشكيل لوحة بعينها، لكنّ حكمه عليها لم يتم... تأكد من ذلك في حتميّة ووضوح وترجيع في الروح لايسبر، ولا يدرك كنهه لأوّل وهلة.
-" إن المشهد الذي أريد أن يهزّ روحي، ويحفزني على استيعابه فلا استطيع يبدو لي من الضخامة بحيث لايمكن للخيال إنجازه".
كثرت معارض ربيع، وفاح صيته كعطر، واصبح إبداعه محطّ أنظار النقّاد والمهتميّن.. لكنّ شجناً معيّناً تلبسّ نهاراته ولياليه، وقلقاً مزمناً ما فتيء يعذّبه ويشقيه.فقد اهتمت ريشته بأدق التفاصيل، وعنيت رسوماته بجزيئات عالمه ونمنماته.. ففي كلّ لوحة تقرأ وجوداً خاصّاً وتستقرئ أنساً فريداً، وتسجّل انطباعاً يختلف عن الانطباع السابق... كما هي الحال لدى قصص سلوى المشحونة بعواطف إنسانية، وأحاسيس وجدانيّة نبيلة، هي أوّلاً وأخيراً تعبير صادق لما تتلمّسه من معاناة الآخرين.
إنّه القلق الذي يتولّد من استحالة وضع المدينة الصغيرة بمجملها ضمن صورة واحدة. فهذه المبادرة تتطلّب جهداً عسيراً لم يقدر عليه رغم محاولاته المتكرّرة.. وتشكيل اللوحة على هذا النحو يجب أن تلتقطه العين من علٍ.. من فوق.. من أعلى قمّة ترتفع غرباً.. وتسلُّق الجبل ليس بالأمر السهل...فكم جرّب الصعود إلى هناك.. وكم درّب ساقيه على ذلك ... وكم قاس كي يعانق الذروة.. لكنّ احلامه ومخططاته صدمها واقع مؤلم.
لم تكن سلوى تريد تثبيط همّته، أو الوقوف في وجه طموحه.. لكنّها كانت تبغي الإفصاح عن رأيها انطلاقاً من تجربتها ككاتبة لها مسارها الخاص ضمن عالم الأدب الفسيح.
-" ليس المطلوب من الفناّن أو الأديب أن يمخر عباب البحاركلّها، أو يخوض التجارب الحياتيّة جميعها كي يحقّق إبداعاً.. بإمكانك أن تتخيّل مثلي، أن تعيش الحالات بينك وبين ذاتك، ثمّ تخرجها للنور صحيحة معافاة.."
_" لاياسلوى.. إن الفن الحقيقي هو ابن تجربته، والفنّان الذي يحترم إبداعه هو الذي يلاصق المشهديّة بعينيه وفكره وأصابع يديه.."
تطلّع ربيع من النافذة نحو الجبل.. تسلّقه.. ارتفع، ارتفع، ارتفع.. وقف على الذروة. ضمّت عيناه الكروم، والبساتين، والمنعطفات، والأزقّة، والوجوه المتعبة، وأرغفة الجدّات، والزنود السمر، وإشراقة المحبيّن. وشمخت أمامه الآبدة العملاقة بصمودها، وثباتها، واصالتها، ومرجعيتها.. توغّل صدر التاريخ.. رسم سيف صلاح الدين الأيوبي.. شخّص المدينة بكلّية ابعادها، ثم اكتملت اللوحة.
أفاق ربيع من زحمة افكاره. أزاح أضغاث الأحلام بيديه. خرج من المكان، وفي جعبته محاولة جديدة للصعود إلى القمّة