القطع النقديّة الصغيرة والكبيرة تتتابع أمام عينيه، يستلمها مذهولاً، يعدّها مذهولاً، يوقّع على سجّل الاستلام مذهولاً ... هو ليس هو.. لو نظر إلى صورته في المرآة لما عرف نفسه.. لو رأته زوجته لأنكرته، ولهال أولاده منظره. عشر سنوات، وهو يعمل في الوظيفة نفسها، معتمداً للرواتب ".. عشر سنوات وهو يذهب في مطلع كلّ شهر إلى المصرف مبكّراً، يتسلم رواتب المعلّمين ويسّلمها لهم بأمانة، دون أن تنقص ليرة سورية واحدة، وإذا ما صادف وفقد مبلغاً معيّناً دون انتباه فهو الخاسر، ولا أحد سواه ... فما باله اليوم؟.. أغلق الحقيبة السوداء على آلاف الليرات، أغلقها بإحكام ... فهذا الشهر بالذات يختلف عن سواه من الشهور.. فيه مبلغ إضافي، يعتبر كزيادة، سيأخذّها المعلّمون عن شهرين متتاليين. استقلّ سيّارة أجرة، خائفاً متوجسّاً متلفّتاً حوله بقلق شديد، ضمّ الحقيبة إلى صدره،.. في عينيه أمر آخر غير الخوف المعتاد، يحسّ وكأن السائق ينظر إليه بارتياب يسبر أعماقه، ويعرف فيم يفكرّ ... ما الذي حدث أيّها الرجل المستقيم ؟ أيهّا النزيه العصامي ؟.. منذ البارحة وأنت مضطرب، هل ضخامة المبلغ الذي تحمله هي السبب ؟.. أم أنّك لا تستيطع مقاومة الإغراء القادم في حقيبة سوداء، حدّث نفسه، وهو ينفي عنها هذه المبررّات ... فقد أدمن العادة، وتآلفت أصابعه مع الأوراق النقديّة، ولا تشكّل رؤيتها له أيّة حالة طارئة ... راتبه كرواتب البقية ولا يحقّ لمثله أن يفكرّ بقرش واحد ليس له . هاهو يصل " معتمديّة الرواتب ".. يوقف السائق سيّارته حسب ما طلب منه. يحاسبه بسرعة، يدخل باب المبنى بحكم العادة، يجلس خلف مكتبه، في حين يمتّد طابور المعلمين والمعلّمات أمامه.. وجوههم تحمل تعابير شتّى من ابتسام، وشكوى، ومعاناة، وتذّمر.. يصل أذنيه فيض من الكلمات: - سأفي بالزيادة ثمن ثياب العيد التي اشتريتها للأولاد . - سأوزّعها مع الراتب ديوناً متفرّقة. - سأدفعها للأقساط الشهريّة المترتبّة. تتكوّم النقود أمام ناظريه. يعدّ لكلّ معلّم مرتبه وهو مشتّت الفكر ... شيء ما يتململ في داخله ... لديه التزامات لا تحصى، ويجب أن تعطّى تلك الالتزامات حقّها، والراتب لا يتناسب مع حجم المسؤولية الشهريّة الملقاة على عاتقة كربّ أسرة تتألّف من سبعة أشخاص. صوت هادئ عميق يناديه ... صوت أليف ناعم ينتشله من شروده: - ازرع البسمة على شفتيك ... أعط الزملاء رواتبهم دون تشنّج، أو ارتباك ... قابل تعليقاتهم وأحاديثهم بوجه باش، وصدر رحب، لا تجعل منظر النقود يغيّر من طبيعتك، وقناعتك، وثقتك بنفسك. إنّه صوتها ... صوت زوجته، رفيقة الدرب الطويل، الصديقة الوفية، والصدر الحنون ... إنّها تناديه، ترجوه عن بعد، تستحلفه، أن يبقى كما كان، قويّاً صلباً، لا تلوي عنقه إغراءات، ولا تضعف نفسه العزيزة كنوز الدنيا بحالها ... ما أحوجه اليوم إليها، إلى إيمانها بالقيم، والمبادئ والأخلاق، إلى الزخم العامر يسكن عينيها، إلى تشجيعها يعزّز خطواته، ويرعاها، ويوجهّها نحو الدرب القويم. منذ خمسة وعشرين عاماً عرفها، لم يتغيّر فيها شيء حتّى الآن ... مازالت عامرة بالطيبة، والأصالة، والابتسامة الهادئة.. لا جديد على وجهها سوى بعض التجاعيد الصغيرة، كأنها تواقيع يتركها الزمن من حين لحين، ليؤكّد هيمنته وجبروته الذي لا نستطيع منها فراراً، منذ خمسة وعشرين عاماً التقاها، وكان اللقاء على الطريق اليوميّة المؤدّية إلى تلك القرية النائية، حيث كانا يعلّمان.. الطريق كانت طويلة ووعرة، فيتحايلان على الوقت والمشقة بتبادل الأحاديث المتنوّعة، وأغلبها كان يدور في فلك معاناة المعلّم، وظروفه ..... ومع مرور الأيّام، أحسّا بقواسم مشتركة تجمع بينهما، بوشائج قويّة تربط بين قلبيهما ... شخصيتّها المريحة، وجهها الوديع، ملامحها المطمئنة، دفعته للارتباط بها.. وبقيت كما هي لم تتبدّل أبداً ... أبداً ... - ما بك أستاذ.. هل أنت مريض ؟ كلام إحدى المعلّمات نبهّه من شروده ..عاد إلى مباشرة العمل.. بدأت أصابعه بآلية العدّ، وكأنّه لا يلامس شيئاً
القطع النقديّة الصغيرة والكبيرة تتتابع أمام عينيه، يستلمها مذهولاً، يعدّها مذهولاً، يوقّع على سجّل الاستلام مذهولاً ... هو ليس هو.. لو نظر إلى صورته في المرآة لما عرف نفسه.. لو رأته زوجته لأنكرته، ولهال أولاده منظره.
عشر سنوات، وهو يعمل في الوظيفة نفسها، معتمداً للرواتب ".. عشر سنوات وهو يذهب في مطلع كلّ شهر إلى المصرف مبكّراً، يتسلم رواتب المعلّمين ويسّلمها لهم بأمانة، دون أن تنقص ليرة سورية واحدة، وإذا ما صادف وفقد مبلغاً معيّناً دون انتباه فهو الخاسر، ولا أحد سواه ... فما باله اليوم؟..
أغلق الحقيبة السوداء على آلاف الليرات، أغلقها بإحكام ... فهذا الشهر بالذات يختلف عن سواه من الشهور.. فيه مبلغ إضافي، يعتبر كزيادة، سيأخذّها المعلّمون عن شهرين متتاليين. استقلّ سيّارة أجرة، خائفاً متوجسّاً متلفّتاً حوله بقلق شديد، ضمّ الحقيبة إلى صدره،.. في عينيه أمر آخر غير الخوف المعتاد، يحسّ وكأن السائق ينظر إليه بارتياب يسبر أعماقه، ويعرف فيم يفكرّ ...
ما الذي حدث أيّها الرجل المستقيم ؟ أيهّا النزيه العصامي ؟.. منذ البارحة وأنت مضطرب، هل ضخامة المبلغ الذي تحمله هي السبب ؟.. أم أنّك لا تستيطع مقاومة الإغراء القادم في حقيبة سوداء، حدّث نفسه، وهو ينفي عنها هذه المبررّات ... فقد أدمن العادة، وتآلفت أصابعه مع الأوراق النقديّة، ولا تشكّل رؤيتها له أيّة حالة طارئة ... راتبه كرواتب البقية ولا يحقّ لمثله أن يفكرّ بقرش واحد ليس له .
هاهو يصل " معتمديّة الرواتب ".. يوقف السائق سيّارته حسب ما طلب منه. يحاسبه بسرعة، يدخل باب المبنى بحكم العادة، يجلس خلف مكتبه، في حين يمتّد طابور المعلمين والمعلّمات أمامه..
وجوههم تحمل تعابير شتّى من ابتسام، وشكوى، ومعاناة، وتذّمر.. يصل أذنيه فيض من الكلمات:
- سأفي بالزيادة ثمن ثياب العيد التي اشتريتها للأولاد .
- سأوزّعها مع الراتب ديوناً متفرّقة.
- سأدفعها للأقساط الشهريّة المترتبّة.
تتكوّم النقود أمام ناظريه. يعدّ لكلّ معلّم مرتبه وهو مشتّت الفكر ... شيء ما يتململ في داخله ... لديه التزامات لا تحصى، ويجب أن تعطّى تلك الالتزامات حقّها، والراتب لا يتناسب مع حجم المسؤولية الشهريّة الملقاة على عاتقة كربّ أسرة تتألّف من سبعة أشخاص.
صوت هادئ عميق يناديه ... صوت أليف ناعم ينتشله من شروده:
- ازرع البسمة على شفتيك ... أعط الزملاء رواتبهم دون تشنّج، أو ارتباك ... قابل تعليقاتهم وأحاديثهم بوجه باش، وصدر رحب، لا تجعل منظر النقود يغيّر من طبيعتك، وقناعتك، وثقتك بنفسك.
إنّه صوتها ... صوت زوجته، رفيقة الدرب الطويل، الصديقة الوفية، والصدر الحنون ... إنّها تناديه، ترجوه عن بعد، تستحلفه، أن يبقى كما كان، قويّاً صلباً، لا تلوي عنقه إغراءات، ولا تضعف نفسه العزيزة كنوز الدنيا بحالها ... ما أحوجه اليوم إليها، إلى إيمانها بالقيم، والمبادئ والأخلاق، إلى الزخم العامر يسكن عينيها، إلى تشجيعها يعزّز خطواته، ويرعاها، ويوجهّها نحو الدرب القويم.
منذ خمسة وعشرين عاماً عرفها، لم يتغيّر فيها شيء حتّى الآن ... مازالت عامرة بالطيبة، والأصالة، والابتسامة الهادئة.. لا جديد على وجهها سوى بعض التجاعيد الصغيرة، كأنها تواقيع يتركها الزمن من حين لحين، ليؤكّد هيمنته وجبروته الذي لا نستطيع منها فراراً،
منذ خمسة وعشرين عاماً التقاها، وكان اللقاء على الطريق اليوميّة المؤدّية إلى تلك القرية النائية، حيث كانا يعلّمان.. الطريق كانت طويلة ووعرة، فيتحايلان على الوقت والمشقة بتبادل الأحاديث المتنوّعة، وأغلبها كان يدور في فلك معاناة المعلّم، وظروفه ..... ومع مرور الأيّام، أحسّا بقواسم مشتركة تجمع بينهما، بوشائج قويّة تربط بين قلبيهما ... شخصيتّها المريحة، وجهها الوديع، ملامحها المطمئنة، دفعته للارتباط بها.. وبقيت كما هي لم تتبدّل أبداً ... أبداً ...
- ما بك أستاذ.. هل أنت مريض ؟
كلام إحدى المعلّمات نبهّه من شروده ..عاد إلى مباشرة العمل.. بدأت أصابعه بآلية العدّ، وكأنّه لا يلامس شيئاً