-القصة الفائزة بجائزة تشجيعية في مسابقة البعث للقصة القصيره صعد الأخوان مجد وخالد على إحدى أشجار التوت الشامي اليابسة في الحقل المجاور لفناء البيت، أحدهما في الجهة الشرقية، والآخر في الجهة الغربية: ثم بدأ حديثهما: -أترى ما أرى؟!... -أبوك يجلس تحت الشجرة مثل مشلول!.. -وشاهر يتأمل سكينه الصدئة!.. -والسماء ابتلعت غيومها!.. -والأرض تشققت!. -جارنا الجندي يحمل سلاحه!.. -وجارنا صاحب الكتاب يحمل كتابه بحرص!.. -أمك تغسل كعادتها!.. -من أين جلبت الماء؟! -كالعادة، من الساقية قرب البيت المهجور، على أطراف البلدة!... -تحت الشجرة تسكب الماء!. -!!!. الشمس حصان جامح في سماء شاحبة، السكون برعم ينمو، والعيون وميض مترقب... تقول الأم: -انزلا!. قال خالد متعجباً: -سنأكل!. قال مجد: - سنأكل ونشرب!.. لم يتحرك الأب الضخم الجثة، الشائب الشعر، الواسع العينين... تقول الأم بتأفف: -انهض يا رجل.. اتسخت بماء الغسيل!. ينهض الأب بتثاقل. يرفع عينيه نحو السماء. السماء صحراء. والشجرة هيكل عظمي.. -حلَّت علينا اللعنة.. حلَّت علينا اللعنة!.. -اذهب وفتِّش عن حل!. -ألا تكفين عن سكب الماء القذر؟!.. -هذه قذارتك!. قال خالد: - أنصعد ريثما تنتهيان من الشتائم؟!.. -اخرس يا ولد!.. يصيح مجد مثلما كان يفعل أبوه: - توت شامي.. أطفئ عطشك يا عطشان!. ينظر الأب بعينيه الواسعتين. إلى أشجار التوت اليابسة، مصدر رزقه. التي جفّت ليلةَ قسمت صاعقة راعي البلدة إلى نصفين، وهو عائد بغنمه. ومنذ ذلك الوقت، صار أبو مجد يجلس تحت أشجاره ليل نهار. عدَّ النجوم. رأى القمر هلالاً وبدراً. والشمس صفراء وحمراء ومتوهجة، وعلى أغصان أشجار التوت، عدّ ولداه الطيور المهاجرة والقادمة، وأضواء البيوت على سفح قاسيون بيتاً بيتاً. قالت الأم بنزق: - عجّلاً لأغسل الصحون! - ألا تكفين عن الغسيل؟!. - النظافة من الإيمان! - لماذا رائحة ثيابك عفنة؟! - ياعيب الشوم!!. ويرحل خياله.. توت شامي.. توت لخدود الصبايا الوردية... توت للفقراء.. توت للمتعبين.. توت للمحبين.. توت للأطفال.. توت للناس البسطاء.. يتعب تفكيره.. يغفو بعد الطعام.. يرى رجلاً شعره أغصان، عيناه عينا صقر. جلده توتة حمراء، يقوده رجال مسلحون إلى ساحة الإعدام، يسير الرجل بهدوء، بنادق الرجال قصيرة وطويلة، وجوههم صارمة، المقصلة مصنوعة من حديد بارد، شفرتها صدئة، وثمة عليها ندبٌ مليئة بالدم.. - سنقتلك.. تكلم!.. - ستموتون أنتم!.. أوراق التوت لامعة خضراء، الرأس يسقط، يتدحرج التوت الدامي، التوتة الواحدة تنمو، تصبح شجرة، غابة من الأشجار، الأغصان تلتف حول الرجال المسلّحين. وأسلحتهم، ومع المدى، يضيع صوت الرجال وقعقعة السلاح.. ينهض.. يستند إلى جذع إحدى الأشجار خائر القوى... يقول مجد بلهفة: - أبي. هاهو جارنا المهندس صاحب الكتاب يعود إلى بيته!.. ثمة كتاب، غلافه بنفسجي، يحمله جارهم المهندس، حين يذهب صباحاً إلى عمله، ويعود ظهراً، وعادة يزورهم مساءً، يتحدث بصوت منخفض، يسأل باهتمام كبير عن أشجار التوت، ثم يقترب منها، واحدة واحدة، يتفحّص ترابها، يفركه براحته، يهزُّ رأسه، ثم يلقي تحية المساء ويذهب.. بعد هنيهة، قال مجد: - أبي.. جارنا الجندي يدخل بيته، نصل سلاحه يلمح تحت الشمس، وجهة توتة طازجة، جسده قوي كجذع شجرة... - والشمس!!. -!!.... - الشمس كرة شاحبة، تفكّر بأغصان الأشجار اليابسة، تستحي من لهيب أشعتها، أراها مغمضة عينيها، وتسير متثاقلة.. صراخ ممطوط في الشارع، ينغرز غصن جاف في خاصرة مجد.. الوجع سكين حادة، والصراخ مطاردة في الأزقة.. يسأل الاب: - أما يزال شاهر يطارد ولده المشلول؟! يرد خالد بينما مجد يتوجَّع: - السكين الصدئة في كفه، ابنه المشلول يزحف مسرعاً، شاهر يشتم اليوم الذي رأى ابنه فيه. هاهو يصل إليه، يرفسه، يبصق عليه، السكين الصدئة تسقط من يده، تضيع في التراب، يزحف ابنه نحو البيت، بينما يبحث أبوه عن سكينه.. يقول الأب يتأفف: - اتركنا من سيرته!. أشجار التوت باقات من أغصان جافة، القمر يسقط خلالها، يتشقق مثل الأرض العطشى.. يدخل صاحب الكتاب: - مساء الخير يا أبا محمد!. - أستاذنا الكريم.. تعال إلى جانبي.. انظر إلى القمر المكسور!. - كل شيء سيكون على مايرام!. يتجول بين أشجار التوت الشامي، يقلّب التراب، كعادته، بين يديه، يدخل الجندي، يلقي تحية المساء، تدب القوة في الأب، يتجهان صوب صاحب الكتاب، حربة البندقية يلمع نصلها تحت ضوء القمر، كما لمع نهاراً تحت أشعة الشمس. يقول الجندي، بينما يشد على بندقيته: - تحسُّ أن أشجار العالم تموت حين تموت أشجار أبي مجد!.. يتابع المهندس، صاحب الكتاب في الاتجاه نفسه: - نحس في شراب توت أبي مجد الذي لم نشربه منذ سنوات، أن الأرض تسقينا كما سقيناها في معاركنا الكثيرة... ثم يضيف وكأنه يلفظ كلماته الأخيرة: - إذا لم تخضر أوراق التوت في شهر آذار القادم فلن تخضر أبداً.. يجف ريق أبي محمد، كما جفَّ ترابه. يلمع النصل تحت الضوء الفضي.. - لماذا؟!. - إذا لم تبرعم الأشجار في شهر آذار، فإنها لن تبرعم أبداً.. أبداً.. يقول الجندي: - لن يهددك شاهر مرة أخرى.. ويخرجان... يبقى الأب تائهاً.. يفترش تراب أشجاره، الذي كثيراً ماسقطت قطرات عرقه فوقه. وينام مجد وخالد على الأغصان اليابسة، مثل عصفورين تعبا بعد أن بحثا كثيراً عن عشيهما.. ودون مقدمات.. نساء يركضن، وفي عيونهن خوف.. العرق على جباههن، الشمس فوق رؤوسهن، لحاء شفاههن مشقق، رجال يبرزون من مغائر معتمة، في أيديهم مُدىً صدئة. من بينهم شاهر، عيناه محارتا حقد، فمه مغارة قاتمة، ولسانه شراع صدئ، أنفاس الرجال عاصفة سوداء، وأنفاس النساء رائحة الأرض حين تشرب ماء المطر... في أيدي الرجال أقمشة سوداء سميكة.. تقترب من وجوه النسوة، تغيب الشمس والسماء الزرقاء والهواء.. الشهيق والزفير حياة وموت، الأنف والفم ديك ذبيح، أذرع وأرجل فوق الأنوف والأفواه، وفوق هذا وذاك الهواء والشمس والقمر الشاحب، والطيور المهاجرة والآيبة. يصحو، امرأته تغسل وتسكب الماء تحت أشجار التوت، يقول بتأفف: - أوه... في الليل أيضاً تسكبين الماء الوسخ!. - وسخك!. - وقحة!. - ستوقظ الولدين! - القمر المكسور اختفى!.. تقول امرأته: - انهض ونم في فراشك!. - حين ماتت أشجاري مات نومي.. الفراش وسخ!. - غسلته البارحة!. - اتسخ من يديك!. تغسل يديها المليئتين بالصابون، عيناها تبرقان، في أعلى الشجرة بومة، عيناها مستديرتان.. تقول الزوجة: - كفانا الله شرك!. - أنا!. - بل البومة!. - ألا تكفين عن هذيانك؟!. - ألا تكف عن مصاحبة صاحب الكتاب والجندي؟!. - أفضل من ابن عمك شاهر الخامل!. - الإنسان العاطل عن العمل لابدّ له من أن يصطاد العصافير!. - لم يبحث عن عمل!. - بل بحث!.. - متى؟! والناس نيام!. - أف.. منك!. - لاشيء عندكِ!.. - لماذا تزوجتني؟!. -لأنك امرأة!. - ادخل ونم.. فراشك دافئ! . - منذ زمن لم تبرعم الأغصان!. - مجد.. خالد.. انزلا!. تمتد امرأته غصناً جافاً، ضوءاً خافتاً، بقايا رماد نار اتقدت ثم خمدت فجأة.. - لم تعد تنفع!. - أنت شجرة جافة!. وضم الأب راحة يده وبسطها، أمامه سهول تسيل فيها الدماء، دماء مثل شراب التوت. دم الأرض، شراب الدم، دم الشراب، توت شامي ياتوت. تنهمر دموعه، جدولان يُغرقان الخدين، النساء عجائز كلهن، الأرض صحراء، الأطفال غرقى في الرمال، الأضرحة تلفظ موتاها، التوت مسامير حادة الرؤوس، السماء وجه شاحب، الهواء بلا هواء، يضم راحته ويغفو قبل أن تجف دموعه.. صباحاً.. طرق الباب، الملح في فمه، الجندي وصاحب الكتاب وجهان من ياسمين، ابتدرهما! - لا تؤاخذاني.. كنت نائماً!. الجندي يقف أمام الباب، تعانق أشعة الشمس الصباحية، سبطانة البندقية، تشع السبطانة خطوطاً من نور تذهب في الفضاء، تغوص في الأرض، تلتقي مع بريق العيون.. يقول صاحب الكتاب بحسرة: - رغم أنني مهندس زراعي فما أزال أجلس خلف مكتب، ثم أضاف: - قضية شجرات التوت الشامي هي امتحان لمهنتي وشرفي!. يفرك التراب، زوجة أبي مجد تقف أمام الباب.. في التراب رائحة عفونة، أنا أعرف رائحة التراب.. التراب مطر، شمس، خبز.. - متى؟!.. - قَرُبَ الفَرج، فقط تعاون معنا.. يرى شاهر حين عاد من قريته، بعد أن باع أرضه، أشجار من رمان وجوز وتين وسهل أخضر من قمح، تحولت إلى نقود قليلة في يد شاهر.. يسأله: - لماذا بعت أرضك؟!. - لا دخل لك!. - لا فائدة منك!. ثم طلق امرأته، فأصيب ابنه بشلل الأطفال، وتزوج من فتاة هربت منه في اليوم التالي، بعد أن لحق بها بسكينه الصدئة... قرب الباب فأس مثلومة، ألقى عليها صاحب الكتاب نظرة استغراب، وسأل: - لماذا؟!. - مثلومة.. تركتها منذ زمن!. - اسقها عند الحداد أبي علي.. حيث نسقي سيوف مجاهدينا!. - لم أخرج منذ زمن!. - بل ستخرج من أجل أشجارك وشرابك!.. حين أخذ الفأس بيده، أحسَّ أن ضرباتها قد عادت، والأرض غرّدت، والسماء أمطرت، تحركت شفاه الأرض مبتسمة حين شربت.. تسأله زوجه بتوسل، حين رأته يحمل الفأس، ووجهه متوهج.. - أرجوك لا دخل لك بشاهر.. اتركه.. لا تقتله!.. - أنا لا أقتل أحداً.. سأسقي الفأس لتعيش أشجاري!. الحديد جمر؛ احمراره مثل شراب التوت. ضربات المطرقة نبضات قلب الأرض العطشى، عينا أبي مجد تصوران المشهد بحماسة شديدة.. الفأس الجديدة صديق قديم، عاد بعد غيبة طويلة، فتجددت العلاقة، فأرضت حرارة اللقاء المشاعر، فضحكت السماء.. غيمة بعيدة في الأفق، تشبه وجه شيخ أو فأس أو كتاب أو بندقية، غيمة مُزنة، تستطيع أن تفترش السماء، وأن تبلغ مياهها أعماق الأرض.. يركن الفأس قرب أشجار التوت، يهرول مجد، ويلمس نصلها الحاد، أبو مجد يسمع الأرض تقول.. - "أهلاً بالفأس!!"!. صراخ حاد في الشارع، صراخ المشلول ابن شاهر: - أبي نهر دم.. أبي نهر دم!!.. تهرول الأقدام صوب البيت، السكين الصدئة قطعت شرايين اليد، بركة دماء سوداء تحت شاهر، غرق في الموت، العينان جامدتان، الشفتان تنفرجان عن ابتسامة باهتة، يتوقف الدم، يتجمد، تدخل أشعة الشمس من النافذة المفتوحة، يغيب صوت المشلول في الحارات حين تنقل السيارة جثة شاهر إلى المستشفى.. يعود صاحب الكتاب مبكراً على غير عادته، ينظر إلى السماء تارة، وإلى الأرض تارة أخرى، ثم يقول بلهفة لأبي مجد: - الأرض تنتظر الفأس.. السماء ستمطر!.. - وآذار!. - لن يخذلنا!.. - لم تنهض امرأتي من فراشها اليوم.. مرضت على أخيها شاهر.. هل رأيت الغيمة؟!.. - رأيتها!!.. - انتحر شاهر!.. - كبرت الغيمة!. الفأس تقلّب التراب، سيارة الإسعاف تغيب مثل طاعون، العرق يتصبب من جبهة أبي مجد لأول مرة منذ فترة طويلة، الشمس تلعب مع العصافير، خالد ومجد يقلبان التراب، صاحب الكتاب يقرأ في كتابه. وينظر إلى السماء مرة، وإلى الأرض مرة أخرى.. دود الأرض يتلوى، يموت حين تلمسه أشعة الشمس.. - توت شامي..ياتوت!.. ويضرب الأرض.. تهتز الأغصان، ترقص، أشعة آذار دفء، مطر، عمل، ثقافة، انبعاث.. تنبعث الأرض، تتجدد، تنبعث الغيوم، تتجدد.. والفأس تحرث الأرض يوماً وليلة دون كلل.. تخلّى القمر عن تشققه، وغاب خلف الغيمة، وتعطر الهواء برائحة الأرض التي تنفست.. يوم جاء شاهر ليقتل أبا مجد بسكينه الصدئة، حين شهرّ به بعد أن باع أرضه، لمع نصل سلاح الجندي، فهرب شاهر. وهو يسبّ ويلعن، وبقي ثلاثة أيام يدخّن دون أن يخرج من بيته.. - اغسلي، منذ الآن، في الحمّام.. أفهمت؟!.. أمر أبو مجد زوجه بصوت جديد صارم.. - حاضر!.. - الأرض تعفنت من ماء غسيلك!. - كنت أسقي الأشجار!.. - التوت الشامي لا يشرب سوى الماء النقي!. بعد الغداء ، يغفو أبو مجد.. امرأة جميلة، شعرها أحمر كالتوت، عيناها سوداوان، غيمة من السماء تسقيها، وساقية في الأرض تغسل قدميها.. نظرتها ورقة خضراء، شفتاها دم التوت. وضحكتها سماء زرقاء، في رقبتها سلسلة في نهايتها فأس صغيرة، الغيمة تضحك، المرأة تضحك، الساقية تصبح نهراً وسمكاً.. ينهض أبو مجد على صوت صاحب الكتاب.. - الأشجار برعمت.. صوت كفرح المطر... - آذار برعم!.. - توت شامي.. ياتوت!.. توت للمتعبين، لخدود الصبايا، للعطشانين، للفقراء، توت لكل الناس.. لكل الناس.. توت شامي ياتوت.. وتقترب الغيمة.. ويسقط مطر آذار...
-القصة الفائزة بجائزة تشجيعية في مسابقة البعث للقصة القصيره
صعد الأخوان مجد وخالد على إحدى أشجار التوت الشامي اليابسة في الحقل المجاور لفناء البيت، أحدهما في الجهة الشرقية، والآخر في الجهة الغربية: ثم بدأ حديثهما:
-أترى ما أرى؟!...
-أبوك يجلس تحت الشجرة مثل مشلول!..
-وشاهر يتأمل سكينه الصدئة!..
-والسماء ابتلعت غيومها!..
-والأرض تشققت!.
-جارنا الجندي يحمل سلاحه!..
-وجارنا صاحب الكتاب يحمل كتابه بحرص!..
-أمك تغسل كعادتها!..
-من أين جلبت الماء؟!
-كالعادة، من الساقية قرب البيت المهجور، على أطراف البلدة!...
-تحت الشجرة تسكب الماء!.
-!!!.
الشمس حصان جامح في سماء شاحبة، السكون برعم ينمو، والعيون وميض مترقب... تقول الأم:
-انزلا!.
قال خالد متعجباً:
-سنأكل!.
قال مجد:
- سنأكل ونشرب!..
لم يتحرك الأب الضخم الجثة، الشائب الشعر، الواسع العينين...
تقول الأم بتأفف:
-انهض يا رجل.. اتسخت بماء الغسيل!.
ينهض الأب بتثاقل. يرفع عينيه نحو السماء. السماء صحراء. والشجرة هيكل عظمي..
-حلَّت علينا اللعنة.. حلَّت علينا اللعنة!..
-اذهب وفتِّش عن حل!.
-ألا تكفين عن سكب الماء القذر؟!..
-هذه قذارتك!.
قال خالد:
- أنصعد ريثما تنتهيان من الشتائم؟!..
-اخرس يا ولد!..
يصيح مجد مثلما كان يفعل أبوه:
- توت شامي.. أطفئ عطشك يا عطشان!.
ينظر الأب بعينيه الواسعتين. إلى أشجار التوت اليابسة، مصدر رزقه. التي جفّت ليلةَ قسمت صاعقة راعي البلدة إلى نصفين، وهو عائد بغنمه. ومنذ ذلك الوقت، صار أبو مجد يجلس تحت أشجاره ليل نهار. عدَّ النجوم. رأى القمر هلالاً وبدراً.
والشمس صفراء وحمراء ومتوهجة، وعلى أغصان أشجار التوت، عدّ ولداه الطيور المهاجرة والقادمة، وأضواء البيوت على سفح قاسيون بيتاً بيتاً.
قالت الأم بنزق:
- عجّلاً لأغسل الصحون!
- ألا تكفين عن الغسيل؟!.
- النظافة من الإيمان!
- لماذا رائحة ثيابك عفنة؟!
- ياعيب الشوم!!.
ويرحل خياله..
توت شامي.. توت لخدود الصبايا الوردية... توت للفقراء.. توت للمتعبين.. توت للمحبين.. توت للأطفال.. توت للناس البسطاء..
يتعب تفكيره..
يغفو بعد الطعام..
يرى رجلاً شعره أغصان، عيناه عينا صقر. جلده توتة حمراء، يقوده رجال مسلحون إلى ساحة الإعدام، يسير الرجل بهدوء، بنادق الرجال قصيرة وطويلة، وجوههم صارمة، المقصلة مصنوعة من حديد بارد، شفرتها صدئة، وثمة عليها ندبٌ مليئة بالدم..
- سنقتلك.. تكلم!..
- ستموتون أنتم!..
أوراق التوت لامعة خضراء، الرأس يسقط، يتدحرج التوت الدامي، التوتة الواحدة تنمو، تصبح شجرة، غابة من الأشجار، الأغصان تلتف حول الرجال المسلّحين. وأسلحتهم، ومع المدى، يضيع صوت الرجال وقعقعة السلاح..
ينهض..
يستند إلى جذع إحدى الأشجار خائر القوى...
يقول مجد بلهفة:
- أبي. هاهو جارنا المهندس صاحب الكتاب يعود إلى بيته!..
ثمة كتاب، غلافه بنفسجي، يحمله جارهم المهندس، حين يذهب صباحاً إلى عمله، ويعود ظهراً، وعادة يزورهم مساءً، يتحدث بصوت منخفض، يسأل باهتمام كبير عن أشجار التوت، ثم يقترب منها، واحدة واحدة، يتفحّص ترابها، يفركه براحته، يهزُّ رأسه، ثم يلقي تحية المساء ويذهب..
بعد هنيهة، قال مجد:
- أبي.. جارنا الجندي يدخل بيته، نصل سلاحه يلمح تحت الشمس، وجهة توتة طازجة، جسده قوي كجذع شجرة...
- والشمس!!.
-!!....
- الشمس كرة شاحبة، تفكّر بأغصان الأشجار اليابسة، تستحي من لهيب أشعتها، أراها مغمضة عينيها، وتسير متثاقلة..
صراخ ممطوط في الشارع، ينغرز غصن جاف في خاصرة مجد..
الوجع سكين حادة، والصراخ مطاردة في الأزقة..
يسأل الاب:
- أما يزال شاهر يطارد ولده المشلول؟!
يرد خالد بينما مجد يتوجَّع:
- السكين الصدئة في كفه، ابنه المشلول يزحف مسرعاً، شاهر يشتم اليوم الذي رأى ابنه فيه. هاهو يصل إليه، يرفسه، يبصق عليه، السكين الصدئة تسقط من يده، تضيع في التراب، يزحف ابنه نحو البيت، بينما يبحث أبوه عن سكينه..
يقول الأب يتأفف:
- اتركنا من سيرته!.
أشجار التوت باقات من أغصان جافة، القمر يسقط خلالها، يتشقق مثل الأرض العطشى.. يدخل صاحب الكتاب:
- مساء الخير يا أبا محمد!.
- أستاذنا الكريم.. تعال إلى جانبي.. انظر إلى القمر المكسور!.
- كل شيء سيكون على مايرام!.
يتجول بين أشجار التوت الشامي، يقلّب التراب، كعادته، بين يديه، يدخل الجندي، يلقي تحية المساء، تدب القوة في الأب، يتجهان صوب صاحب الكتاب، حربة البندقية يلمع نصلها تحت ضوء القمر، كما لمع نهاراً تحت أشعة الشمس.
يقول الجندي، بينما يشد على بندقيته:
- تحسُّ أن أشجار العالم تموت حين تموت أشجار أبي مجد!..
يتابع المهندس، صاحب الكتاب في الاتجاه نفسه:
- نحس في شراب توت أبي مجد الذي لم نشربه منذ سنوات، أن الأرض تسقينا كما سقيناها في معاركنا الكثيرة...
ثم يضيف وكأنه يلفظ كلماته الأخيرة:
- إذا لم تخضر أوراق التوت في شهر آذار القادم فلن تخضر أبداً..
يجف ريق أبي محمد، كما جفَّ ترابه. يلمع النصل تحت الضوء الفضي..
- لماذا؟!.
- إذا لم تبرعم الأشجار في شهر آذار، فإنها لن تبرعم أبداً.. أبداً..
يقول الجندي:
- لن يهددك شاهر مرة أخرى..
ويخرجان...
يبقى الأب تائهاً.. يفترش تراب أشجاره، الذي كثيراً ماسقطت قطرات عرقه فوقه. وينام مجد وخالد على الأغصان اليابسة، مثل عصفورين تعبا بعد أن بحثا كثيراً عن عشيهما..
ودون مقدمات..
نساء يركضن، وفي عيونهن خوف.. العرق على جباههن، الشمس فوق رؤوسهن، لحاء شفاههن مشقق، رجال يبرزون من مغائر معتمة، في أيديهم مُدىً صدئة. من بينهم شاهر، عيناه محارتا حقد، فمه مغارة قاتمة، ولسانه شراع صدئ، أنفاس الرجال عاصفة سوداء، وأنفاس النساء رائحة الأرض حين تشرب ماء المطر...
في أيدي الرجال أقمشة سوداء سميكة.. تقترب من وجوه النسوة، تغيب الشمس والسماء الزرقاء والهواء..
الشهيق والزفير حياة وموت، الأنف والفم ديك ذبيح، أذرع وأرجل فوق الأنوف والأفواه، وفوق هذا وذاك الهواء والشمس والقمر الشاحب، والطيور المهاجرة والآيبة.
يصحو،
امرأته تغسل وتسكب الماء تحت أشجار التوت، يقول بتأفف:
- أوه... في الليل أيضاً تسكبين الماء الوسخ!.
- وسخك!.
- وقحة!.
- ستوقظ الولدين!
- القمر المكسور اختفى!..
تقول امرأته:
- انهض ونم في فراشك!.
- حين ماتت أشجاري مات نومي.. الفراش وسخ!.
- غسلته البارحة!.
- اتسخ من يديك!.
تغسل يديها المليئتين بالصابون، عيناها تبرقان، في أعلى الشجرة بومة، عيناها مستديرتان.. تقول الزوجة:
- كفانا الله شرك!.
- أنا!.
- بل البومة!.
- ألا تكفين عن هذيانك؟!.
- ألا تكف عن مصاحبة صاحب الكتاب والجندي؟!.
- أفضل من ابن عمك شاهر الخامل!.
- الإنسان العاطل عن العمل لابدّ له من أن يصطاد العصافير!.
- لم يبحث عن عمل!.
- بل بحث!..
- متى؟! والناس نيام!.
- أف.. منك!.
- لاشيء عندكِ!..
- لماذا تزوجتني؟!.
-لأنك امرأة!.
- ادخل ونم.. فراشك دافئ! .
- منذ زمن لم تبرعم الأغصان!.
- مجد.. خالد.. انزلا!.
تمتد امرأته غصناً جافاً، ضوءاً خافتاً، بقايا رماد نار اتقدت ثم خمدت فجأة..
- لم تعد تنفع!.
- أنت شجرة جافة!.
وضم الأب راحة يده وبسطها، أمامه سهول تسيل فيها الدماء، دماء مثل شراب التوت. دم الأرض، شراب الدم، دم الشراب، توت شامي ياتوت. تنهمر دموعه، جدولان يُغرقان الخدين، النساء عجائز كلهن، الأرض صحراء، الأطفال غرقى في الرمال، الأضرحة تلفظ موتاها، التوت مسامير حادة الرؤوس، السماء وجه شاحب، الهواء بلا هواء، يضم راحته ويغفو قبل أن تجف دموعه..
صباحاً.. طرق الباب، الملح في فمه، الجندي وصاحب الكتاب وجهان من ياسمين، ابتدرهما!
- لا تؤاخذاني.. كنت نائماً!.
الجندي يقف أمام الباب، تعانق أشعة الشمس الصباحية، سبطانة البندقية، تشع السبطانة خطوطاً من نور تذهب في الفضاء، تغوص في الأرض، تلتقي مع بريق العيون..
يقول صاحب الكتاب بحسرة:
- رغم أنني مهندس زراعي فما أزال أجلس خلف مكتب، ثم أضاف:
- قضية شجرات التوت الشامي هي امتحان لمهنتي وشرفي!.
يفرك التراب، زوجة أبي مجد تقف أمام الباب.. في التراب رائحة عفونة، أنا أعرف رائحة التراب.. التراب مطر، شمس، خبز..
- متى؟!..
- قَرُبَ الفَرج، فقط تعاون معنا..
يرى شاهر حين عاد من قريته، بعد أن باع أرضه، أشجار من رمان وجوز وتين وسهل أخضر من قمح، تحولت إلى نقود قليلة في يد شاهر..
يسأله:
- لماذا بعت أرضك؟!.
- لا دخل لك!.
- لا فائدة منك!.
ثم طلق امرأته، فأصيب ابنه بشلل الأطفال، وتزوج من فتاة هربت منه في اليوم التالي، بعد أن لحق بها بسكينه الصدئة...
قرب الباب فأس مثلومة، ألقى عليها صاحب الكتاب نظرة استغراب، وسأل:
- مثلومة.. تركتها منذ زمن!.
- اسقها عند الحداد أبي علي.. حيث نسقي سيوف مجاهدينا!.
- لم أخرج منذ زمن!.
- بل ستخرج من أجل أشجارك وشرابك!..
حين أخذ الفأس بيده، أحسَّ أن ضرباتها قد عادت، والأرض غرّدت، والسماء أمطرت، تحركت شفاه الأرض مبتسمة حين شربت..
تسأله زوجه بتوسل، حين رأته يحمل الفأس، ووجهه متوهج..
- أرجوك لا دخل لك بشاهر.. اتركه.. لا تقتله!..
- أنا لا أقتل أحداً.. سأسقي الفأس لتعيش أشجاري!.
الحديد جمر؛ احمراره مثل شراب التوت. ضربات المطرقة نبضات قلب الأرض العطشى، عينا أبي مجد تصوران المشهد بحماسة شديدة..
الفأس الجديدة صديق قديم، عاد بعد غيبة طويلة، فتجددت العلاقة، فأرضت حرارة اللقاء المشاعر، فضحكت السماء..
غيمة بعيدة في الأفق، تشبه وجه شيخ أو فأس أو كتاب أو بندقية، غيمة مُزنة، تستطيع أن تفترش السماء، وأن تبلغ مياهها أعماق الأرض.. يركن الفأس قرب أشجار التوت، يهرول مجد، ويلمس نصلها الحاد، أبو مجد يسمع الأرض تقول..
- "أهلاً بالفأس!!"!.
صراخ حاد في الشارع، صراخ المشلول ابن شاهر:
- أبي نهر دم.. أبي نهر دم!!..
تهرول الأقدام صوب البيت، السكين الصدئة قطعت شرايين اليد، بركة دماء سوداء تحت شاهر، غرق في الموت، العينان جامدتان، الشفتان تنفرجان عن ابتسامة باهتة، يتوقف الدم، يتجمد، تدخل أشعة الشمس من النافذة المفتوحة، يغيب صوت المشلول في الحارات حين تنقل السيارة جثة شاهر إلى المستشفى..
يعود صاحب الكتاب مبكراً على غير عادته، ينظر إلى السماء تارة، وإلى الأرض تارة أخرى، ثم يقول بلهفة لأبي مجد:
- الأرض تنتظر الفأس.. السماء ستمطر!..
- وآذار!.
- لن يخذلنا!..
- لم تنهض امرأتي من فراشها اليوم.. مرضت على أخيها شاهر.. هل رأيت الغيمة؟!..
- رأيتها!!..
- انتحر شاهر!..
- كبرت الغيمة!.
الفأس تقلّب التراب، سيارة الإسعاف تغيب مثل طاعون، العرق يتصبب من جبهة أبي مجد لأول مرة منذ فترة طويلة، الشمس تلعب مع العصافير، خالد ومجد يقلبان التراب، صاحب الكتاب يقرأ في كتابه. وينظر إلى السماء مرة، وإلى الأرض مرة أخرى..
دود الأرض يتلوى، يموت حين تلمسه أشعة الشمس..
- توت شامي..ياتوت!..
ويضرب الأرض.. تهتز الأغصان، ترقص، أشعة آذار دفء، مطر، عمل، ثقافة، انبعاث..
تنبعث الأرض، تتجدد،
تنبعث الغيوم، تتجدد..
والفأس تحرث الأرض يوماً وليلة دون كلل..
تخلّى القمر عن تشققه، وغاب خلف الغيمة، وتعطر الهواء برائحة الأرض التي تنفست..
يوم جاء شاهر ليقتل أبا مجد بسكينه الصدئة، حين شهرّ به بعد أن باع أرضه، لمع نصل سلاح الجندي، فهرب شاهر. وهو يسبّ ويلعن، وبقي ثلاثة أيام يدخّن دون أن يخرج من بيته..
- اغسلي، منذ الآن، في الحمّام.. أفهمت؟!..
أمر أبو مجد زوجه بصوت جديد صارم..
- حاضر!..
- الأرض تعفنت من ماء غسيلك!.
- كنت أسقي الأشجار!..
- التوت الشامي لا يشرب سوى الماء النقي!.
بعد الغداء ، يغفو أبو مجد..
امرأة جميلة، شعرها أحمر كالتوت، عيناها سوداوان، غيمة من السماء تسقيها، وساقية في الأرض تغسل قدميها..
نظرتها ورقة خضراء، شفتاها دم التوت. وضحكتها سماء زرقاء، في رقبتها سلسلة في نهايتها فأس صغيرة، الغيمة تضحك، المرأة تضحك، الساقية تصبح نهراً وسمكاً..
ينهض أبو مجد على صوت صاحب الكتاب..
- الأشجار برعمت..
صوت كفرح المطر...
- آذار برعم!..
- توت شامي.. ياتوت!..
توت للمتعبين، لخدود الصبايا، للعطشانين، للفقراء، توت لكل الناس.. لكل الناس.. توت شامي ياتوت..
وتقترب الغيمة..
ويسقط مطر آذار...