الراحل محمد فتحي جنيد
قبل حلول الصيف بأيام، جاء علماء الآثار إلى منطقتنا. جاؤوا بسيارات لاندروفر ورانج روفر، يحملون أدواتهم الاستكشافية في حقائب صنعت من البلاستيك أو الحديد اللامع، ليبحثوا في التلة المشرفة على قريتنا..
تداخلت الحارات السكنية بعضها ببعض، وكانت الطرقات قد شقّت حديثاً، ورصفت بالحصى، وغطيت بالزفت الحار، كانت الأرض لا تعطي رائحة الأرض المميزة. ولكنها كانت تسبب ضجراً مفاجئاً في القلوب. طوال أيام عديدة..
وكنتُ. إذ تمايلت الأغصان، في أصيل الأيام الحارة، وقت أن كانت الطرقات تراباً، أتسلق حائط دارنا سماوية الباحة، عن طريق أزدرخرت قديمة، وأنطلق في ذلك الممر الذي نمت فيه بأعداد كبيرة أشجار الزيتون وأعواد القصب. كان ذلك في طفولتي، ثم انحدر في الممر، على مافي الأرض من أشواق، إلى البئر التي تروي الأراضي ماحولها..
كنتُ أنظر إلى مرآة الماء، إلى الجمع الذي يطلق أغنياته الطويلة المملوءة بالآهات، أما في أيام الشتاء، عندما أكون مختبئاً في تجويف شجرة ميتة، عندما تغلف الغيوم الأرضية الليل الأسود. وينتشر الضباب القادم من الجبال فوق الهضاب، كنت أصغي كالمأخوذ، إلى غناء المطر المنطلق من آلاف الضفادع المنتشرة في الحقول وعلى حواف البئر، كان الغناء متواصلاً، كأنه فرد واحد يجدد صوته آلاف المرات في نفسٍ واحدٍ...
وبعد سنوات، افتتحت مدرسة، وحضر جمع غفير من مناطق مختلفة، من بُصرى وتدمر وأوغاريت وايبلا.. يحملون فؤوسهم، وذات يوم، فتحت عيني مدهوشاً، على تلك الأرض التي استحالت ركاماً لأغصان الزيتون، وأعواد الغار، ولم يبق من الحياة في الحقل، من جهة الممر إلى البئر، وإلى الجنوب، إلا الأعشاب الصفراء التي كانت تعاني سكرات الموت وغصاتها، وعلى الرغم من أن الحشرات والضفادع لم تهاجر كلياً إلى أرض ثانية، إلا أن نشاطها قلَّ، وساد الهواء المثقل بالزفرات.. نشيد المعارك القديم المنطلق من فم المذياع..
وجاورتنا عائلة، كأن رجلها قصيراً ملفوح الوجه، هاجر من الناصرة وطنه الأول. إلى دمشق ومعه كيس نقود كبير. ومع أنه حمل الفأس وحطم أشجار الزيتون، ليبنى بيته، وقضى على أغنيات الشتاء، إلا أنه كان رجلاً مهيباً، رغم اختلافه عنا بالدين، وكانت له ابنة تسمّى سوزان..
وفي الحقيقة، فإن صداقتي بسوزان، لم تقتصر فقط على تبادل القبل خِلْسَةً، وراء صخور وأحجار البناء، بل تعدّت كذلك إلى المشاجرات والضرب المبرّح أحياناً، وإلى تأنيب الضمير، كل ذلك كان في الطفولة.
أما في أيام الشباب، فقد حدثت المعجزة في الصيف. وكان ثمن بيض الدجاج منخفض القيمة، وكل أنفاسنا ملوثة بالطعام، حينما هبط رجلان من عربة لا ندروفر وذهبا إلى أقصى الحي، فتبعهم أطفال الحي الصغار، والشيوخ المسنين، بسط الرجلان متراً من القماش على عرض الشارع، وقاسا مساحة تعادل خمسين متراً مربعاً، إن ماحدث بعد ذلك، لم يكن بحسبان أحد، كما أنه لم تشيّد الأعمدة في مكانها، ولم تُزَل البيوت المحيطة بذلك البناء، حتى الصيف المتأخر الثاني، من ذلك الصيف، حتى ظهر الأفق..
لقد استمرت أعمال الحفر طوال الصيف، وطوال الشتاء، ثم حَلّت مواسم الأعياد للطائفتين، وجاء ميخائيل مع سوزان وأنطوانيت لزيارة منزلنا في العيد..
- اسمعي ياسوزان.. أريدك مساء اليوم!
همستُ في أذنها أثناء دخولها، كانت الكهرباء مطفأة، جلسنا أمام المائدة، كانت أمي في المطبخ، تعد شطائر الحلوى والشاي.
قال ميخائيل:
- عيد مبارك، سوف يكون العام القادم، أجمل الأعوام..
قالت أنطوانيت:
- تلك الأعمدة والنقوش التي ظهرت!..
- لا تنسي المعبد الذي سوف يتم نقله إلى المتحف!
يقولون إن القدماء كانوا يقدمون فيه الأضاحي في مواسم القحط التي تحل بالبلاد، كانت النذور من أولاد الفلاحين..
تجشأ أبي الملتف بعباءه صوفية، وراح ينفث الدخان فوق القنديل، نقل بصره بين أمي وأنطوانيت:
قالت أمي:
- كانوا عندنا يقطعون آذان المجرمين في الأعياد، حتى يستطيع الناس العيش بسلام..
قال أبي:
- قصي علينا واقعة من تلك الوقائع!..
تحوّل ميخائيل ببصره نحوي، ثم وضع أصبعيه على ذقنه، قالت أنطوانيت:
- إنكم تحرقون البخور، فالليلة مباركة!..
- عاشت جدتي مائة وعشرين عاماً وشاهدت الملائكة!..
بسطت سوزان ذراعيها وبدأت تضحك، أطلق أبي صفيراً طويلاً، ابتسم ميخائيل، قالت أمي:
- ذات ليلة، نمت إلى جانبها، فشاهدتها تغطي عينيها بكفيها، وتصرخ قائلة: ياملائكة الله، هذا نوركم، ياملائكة الله، هذا ضياؤكم.. فصحوت مفزوعة وأنا أرتعش. وزحفت لصق الجدار مبتعدة عنها، وسمعت تحرك اللعاب داخل بلعومها. كأنها تزدرد الطعام، وبعد قليل، قالت في همس خافت: الشكر لله والحمد لله، شبعت والله...
وزعت أمي قطع الكعك الدسم، وكانت كؤوس الشاي على المائدة، نهضت وسرت خارج الحجرة، وأجلت بصري في السماء السوداء المثقلة بالنجوم، كانت أصوات الأطفال، تتلاشى مع آخر يوم في العيد، ولم يبق من الليل إلا السمر البطيء والضجر والملل..
- تعال وتناول حصتك يابني!.
قلت:
- سأقابل صديقاً في الطريق!.
كانت سوزان تتكلم هي الأخرى، عما حققه علماء الآثار، وعلّق أبي قائلاً بأن الدنيا جميلة، دون الآثار.
صعدت الطريق الترابية التي هشمتها مطارق الرجال، كانت الأرض لينة طرية، مشبعة بالماء، ووصلت الفجوة التي انبعث منها الضياء إلى الأعلى، حيث يأكل الرجال والمهندسون. كان الأطفال يركضون خلال الحفر المظلمة، يلعبون لعبة الاستخفاء، تقدمت من الأطلال التي أعادوها إلى الوجود، في شغف كالأسطورة، ورحت أتكلم مغمض العينين، لم أمنع شعوراً كالجنس بالسيطرة على مشاعري. فالعيد في ذهني، عيد غرائز تحترق..
سرت إلى الجهة المقابلة، وهناك انضممت إلى الرفاق، الذين قدموا لي أسماء الغرباء، وأشعلنا اللفافات، ورحنا نضحك بصوت مرتفع، جلس قاسم على عتبة البيت المهشمة، وقال:
- الجميع يحبون الحصان الأبيض.. مابكم؟!.. إني أتكلم بجد!..
مرت فتاتان مضمختان بالعطر، قدموا إليهن السجائر، وانزوينا قربَ الحائط، نرقبهما، قالت إحداهن:
- غريبتان.. ماذا هنالك!؟..
قال عادل:
- إنهما ذاهبتان إلى المعبد، لتساعدا الرجال في أعمالهم الحسابية...
قالت الأخرى:
ويتطلب الأمر إحياء حفلة راقصة!..
قال عوض:
- ومن يكون الموسيقي غيري؟!..
قالت الفتاة ضاحكة:
- لا موسيقى ياعزيزي!.
انطلقنا بعد حين، فانفرط العقد، عدت أدراجي إلى المنزل، كان أبي يسعل في منديل طويل جداً يصل حتى الأرض...
وأنطوانيت منهمكة بالحديث مع أمي: بينما جلست سوزان تقلّب الجرائد على ضوء الكهرباء، حين عاد التيار..
جلستُ في ركن بعيد صامتاً، سألت أنطوانيت:
- كيف حال توفيق؟!.. إنه لا يتجسس مثلك على أخبارنا!..
- ألا تصدقين ماقلته؟!..
قالت أنطوانيت موجهة الحديث إلي:
- سمعتُ رجلاً يقول إن توفيق باع بضاعته، وسوف يعود بين الحين والآخر، تاجر ناجح مجيد.
قالت سوزان:
- تاجر جوّال يسلك كل الطرق ليبيع بضاعته!..
- تجارة مجيدة، أما كلام الكتب فإنه لطيف المعشر، نيء النتيجة، هل حضرت زوجه لزيارتكم؟!..
- لم تزرنا منذ سافر المرة الأخيرة..
ذهب أبو توفيق وأحضر الصبيّ ساعة من الزمن، أثناء انصرافهم، أعدت على أذن سوزان الجملة نفسها، وكنتُ عند الباب فلمست مؤخرتها بإصبعين مرتعشين، مازال ملمس الطراوة أشعر به، ثم انكببت أكتب:
في رنة صدرها قفاز...
جلد يشبه الفضة..
لأن قلبي كان يهوي
في أعماق صدري..
ليس بمقدور أحد أن يرى..
أو يسمع عن حبّي..
أما الحقيقة فإننا نكذب
على أنفسنا..
لأن المرج، عبر الشارع
أوفي المسرح ليس رقصاً،
إنه ألم يشبه الرحيل..
كما هو الحال في الانتقال
من الربيع إلى الصيف
ومن الصيف إلى الخريف...
طوال الليل، كنتُ أعبث بسوزان، ألمس عينيها بالإبهام، تلك العين الكبيرة ذات الحجر الأسود، أشد أسفل ذقنها، أقّبِل شفتيها، صحوت في منتصف الليل، على صوت مزمار، أعقبته سلسلة من الضحكات، ثم اختفى الصوت، نهضت من الفراش مبللاً بالعرق، واندفعت خارج الحجرة، إلى الحمّام، صحا أبي فأيقظ أمي من نومها، حضرت تلمس براحتها وجهي متسائلة:
- ماهذه الرائحة النتنة؟!.
- اذهبي بعيداً!.
صرخت غاضباً أبتلع الماء وأصبه فوق المغسلة، دثرتني بمعطفها الصوفي، وقادتني إلى السرير حيث أوصتني بالجلوس قليلاً قبل النوم، ثم عادت بعد أن غسلت الحمام، تحمل أعواد البعثران. قالت:
- مصها!.
قرأت آيات من القرآن فوق رأسي.. ونفخت أنفاساً باردة قائلة:
- والآن.. كيف حالك؟!..
- بخير حال.. أذهبي للنوم!.
***
تبعث سوزان حتى مشارف السوق، أمسكت ذراعها صاحت:
- أتركني.. ماذا تريد مني؟!.. إنك شرير!
- سوزان.. أنا أريدك.. هذا كل مافي الأمر.!.
- وقح!.
- لم نبدأ بعد.. سوف نذهب للسينما!..
- أبي يمنعني من صحبتك!..
- لن يعرف أين تذهبين.. وحتى لو عرف فلن يهتم!.
- قل.. ماذا تريد؟!.
- ألم تعرفي بعد؟!.. سوف أعصرك كالإسفنجة!.
-.. ياقليل الحياء!.
انفلتت مبتعدة، خارجة من السوق، فوجدت يدي في الهواء تتعقبها، عدت أدراجي فجلست أعزف المزيكا في باحة الدار، ونظرتُ في المرآة متفرساً في ملامحي، عصر الألم خلجات نفسي، في اليوم نفسه زرت زوج أخي، جلست على المقعد الذي كان يحتلُّه توفيق، منتظراً مجيء دلال، جاء الصبي وراح يلاعبني بالكرات الزجاجية على سجاد الغرفة.
قالت دلال أثناء دخولها:
- كل عيد وأنت سالم!.. كيف حال أمك؟!.
نهضتُ عن السجادة، ورجعتُ إلى مقعدي، وجلستُ دقيقة حائراً، حتى قالت:
- لقد أوصاني توفيق ألا أستقبل أحداً حتى يعود!.
- إنني أخوهُ وأنت زوج أخي وأنا عم هذا الصبي!.
أسبلت جفنيها وقالت:
- هذا قول زوجي لا قولي! .
انطلقتُ عبر الشوارع، ركبتُ "الأتوبيس" إلى الجسر، حدقت إلى النهر الأخضر، ابتعتُ تذكرة سينما، ثم حضرتُ فيلم الحصان الأبيض، عدتُ في ساعة متأخرة، كان الظلام والسكون يلف الشوارع، كانت سوزان في مدخل الحارة تقف في الظلام، تنتظرني.
نهضت قائلة بصوت منخفض:
- انتظرت طويلاً يانوّار!
- سوزان!.
- أعتذر عما بدر مني.. سامحني يانوّار!.
- سوزان.. تعالي هناك..
استسلمت لعناقي، وأنا أجذبها من ساعديها إلى الحفرة، كانت ترتعش هامسة في أذني:
- يجب أن أعود يانُوّار!..
لففت يدي حول سوزان وجذبتها إلى صدري، وخطونا إلى الأمام، إلى الأعمدة الطويلة القديمة، نلمس الكتابات الأبجدية الأولى، على نبضات القلب...
- يكفي الآن!.
- ذهبت لمشاهدة الحصان الأبيض!.
- نعم.. إني أفهمك.. ساعدني بالله عليك!..
- ولكننا لم نذهب بعيداً ياسوزان!.
- انظر.. إنك تأخذني بعيداً.. أنا أرجوك.. لن أذهب معك.. إنك..
- سوزان.. توقفي نتحدث قليلاً.. إنني أحبكِ ياسوزان.. أحبك ياسوزان!..
- أنت تحبني!!.. ماذا؟!.. تحبني!..
وانطلقت هاربة تبكي فوق التراب..
التصقت بالجدار القريب، وأشعلت لفافة، ثم سرت عائداً...
قال صوت رجل:
- إنك لم تزر سوق العبادة حتى الآن!..
كان يتكلم في الظلام، يدخّن غليوناً، لم تُظهر منه غير عينيه اللتين كانتا تلمعان كشهابين في سماء مظلمة:
- بل زرته أثناء النهار.. عندما استخرجوا تابوت الملك الأول!..
نهض الرجل من مقعده وقال:
- إنك لم تزر المعبد أبداً في الليل!
- لا أحد يزور المعابد في الليل!
حك الرجل عكازه في الأرض، وقال:
- تعال معي نزور المعبد!
- إنني متعب، وليس بمقدوري فعل أي شيء إلا النوم!..
- ستشعر بالنشاط في المعبد.. لأن الأرواح التي مارست فيه الموعظة تتكلم عالياً!..
شعرتُ بالخوف يهز بدني هزاً عنيفاً، جذبني الرجل من معطفي، وجرّني خلفه إلى الفجوة مشعلاً بيلاً، وقادني إلى الأدراج التي تنحدر إلى باطن الأرض. كانت رائحة العفونة ممزوجة برواسب الماضي. كانت الأدراج عريضة ملساء تنحدر بلطف إلى الداخل، مبنية من صخور الغرانيت، كانت الأعمدة التي تقيم المكان مستديرة الشكل. وكانت الأبواب من خشب قديم بقوة الحديد، وفي منتصف الأبواب مزالج قوية.
قال الرجل:
- الجو منعش في الداخل.. أشم رائحة بخور!..
- أشعر ببرد قارص!..
- هاك معطفي.. تدثر به!..
- مَنْ أنت؟!.. أظن أنني شاهدتك من قبل!.
خلع نظارته وقال:
- نعم.. ذات مرة في حديقة عامة!.
- إنك المهندس!.
وضع أصبعه على شفتيه:
- الأرواح تسمعنا بوضوح.. أخفض صوتك احتراماً لها!..
نزلنا الدرج قبل أن نصل إلى قاعة كراحة الكف، قام في ركن قصي هيكل الرب، وعلى الجانب الآخر، كانت النسوة يجلس في حلقة مفتوحة، دامعات العيون، ينشدن بصوت خافت، سار بي المهندس إلى ركن منعزل، ثم اعتلينا الحاجز، حتى أشرفنا على الفناء الآخر، حيث يقوم المذبح، تقدمني المهندس حتى صعدنا القمة، وهناك شاهدتُ أطفالاً صغاراً، تنهش الكلاب أوصالهم المقطعة، الكلاب التي كانت تسير في خندق صغير.
استدرت مذعوراً:
- ويلاه.. ماهذه الدماء المراقة والأوصال المقطعة؟!..
جذبني من يدي، حتى وقفنا أمام كاهن أصلع، يرتدي وزرة صغيرة، يساعده رجلان على قتل طفل صغير.
قلت للمهندس:
- لماذا يقتلون الأطفال؟!
قال المهندس:
- تقدم واسأل الكاهن!
وقبل أن أخطو، أتت من ركن بعيد، صيحة غليظة يتفطر لها الفؤاد، من أم يخلّص حراس المعبد طفلها من بين يديها.
- مَنْ تكون المرأة؟!.
- اسأل الكاهن!..
- لماذا يذبحون الطفل أمام عيني أمه؟!..
قال:
قال الكاهن:
- ابتعدوا جميعاً، أيها السادة، إلى الخلف، هذا طعام الجنس تأكله الكلاب، عظوا بقولي، وهذا رأس الطفل، طعام العقل تأكله الكلاب، وهذا ذراع الطفل، زند العمل طعام الكلاب..
- خذني بعيداً..
عدنا أدراجنا، وأثناء اجتيازنا النسوة اللاتي ينشدن تعويذات، قال المهندس:
- إنهن ثكلن أولادهن قبل قليل، وهن ينشدن لعودة الخصب إلى أرحامهن، حتى يقدمن النذور..
- عجيب!..
صعدنا الأدراج من جديد، وسمعنا الأرواح، التي تنادي، عند سطح الأرض. صافحني المهندس، وقال:
- هذا هو المعبد في الليل!..
انطلقت إلى البيت، على ضوء النجوم، وعندما بلغته كنت أنفخ كالثور، وتقطعت أنفاسي، جلست على السرير وأخلدتُ للنوم بعد أرق طويل، صحوت فجأة، وأنرت المصباح، كتبت لسوزان رسالة قلت فيها:
عيناها سوداوان، ملاحظاتها النقية
جعلتني في حيرة!..
لا نستطيع مساندة العقل..
لأن قلوبنا سكرت بالحب..
فلا أحد رأى
ولا أحد سمع..
بمَنْ أحببت...
في الربيع، خطبت سوزان لابن عمها الذي عاد من بلد الهجرة، وفي اليوم التالي رأيتها تسير برفقته، كانت الأرض حول الفجوة تراباً، وأعمدة المعبد، ظهرت على الحوامل الخشبية، من خلال الفجوة، مستديرة مهشمة، وكان رجال كثيرون يهدمون البيوت المحيطة بالمكان، كي يظهروا الآثار القديمة، آثار المعبد، في أوائل الصيف، ظهر الأفق من وراء الأعمدة حيث هدمت المنازل، ظهرت الجبال الزمردية تكسوها الطحالب الخضراء، وعلى قممها تقبع تيجان الثلج الناصعة التي لن تذوب حتى الآن، ويالها من أعمدة سامقة، تضرب طولاً في الجو لتنطح السحاب المرتفع، وذات يوم عشش السنونو على سطح كتلة أثرية، وكان يسقط فوق سطح المطبخ ليلتقط فتات الخبز اليابس.
نصحتني أمي بالسفر إلى البلد، حيث أخي التاجر المتجول، فحزمت أمري إبّان الإجازة، وانطلقت أُنشد عنده السلوان، وهناك عشتُ في نزل صغير، تديره امراة عجوز، لها من العمر سبعون، كفيفة البصر، تحمل قنديلاً، كلما طرق الباب طارق في الليل.
وكانت القرية كبيرة على صغر حجمها، جبالها مليئة بالكهوف، حيث يأوي الرعاة وقت اشتداد الحرارة صيفاً، مخلفين قطعانهم الكسولة ترعى العشب اليابس والشيبيات الملتصقة على صخور الملح، وحين تخف وقدة الشمس، وتلمس النسائم الطرية المعطرة، براعم الأشجار ونهاياتها، يخرج الرعاة،
وذات صباح، صحبني أخي إلى حقل بطيخ، وأسلمني إلى صديقه الذي أعطاني تعليماته حول الكيفية التي يتم فيها جمع البطيخ، وعند منتصف النهار، توقف العمل واتجه العمال إلى عريشة نصبت وسط الحقل، يحملون حقائبهم وزواداتهم، وهناك جلست بين امرأتين. كانتا أثناء العمل تقرصان خدي وتلمسان وجهي وتضحكان، قدمت لي السمراء بيضة مسلوقة، أما الثانية فأعطتني قرص حلوى طيب الطعم، وراحت تراقبني لاهثة الأنفاس.
في المساء، حينما عدت، أخبرت أخي عن المرأتين، فجعل يقهقه حتى انقلب على قفاه، فانفجرت حانقاً أنهره ألا يفعل ذلك أمامي، فجفف دموعه المتناثرة على خديه، واعتدل على السرير قائلاً:
- هل عرفت النساء من قبل؟!
-لا.. لا أريد أن أعرف!.
- هل تحضر معي الليلة؟!.
قال ذلك وحدّق في وجهي، ثم مدَّ أصابعه فلمس ذقني وشدها إليه، أزحت يده وذهبت بعيداً..
- إنك أجمل مَنْ رأيت من الفتيان يانوّار!..
صحبني في المساء إلى منزل صغير، على جانب الوادي، ارتكبتُ فيه الإثم مع امرأة تكبرني بالعمر، وبعد يومين، ودعت أخي توفيق، وعدت إلى الحي من جديد، كان ذلك في أيام الشباب، بعد انحدار شمس الصيف إلى الخريف.
عانقتني أمي طويلاً عند الباب، وقادتني إلى حجرة أبي المريض، جلست عند قدميه، ناظراً إلى وجهه الأصفر، وقد شحب، وجفت الدماء الحارة من وجنتيه. كانت أمي تتحدث عن مرض أبي مبتسمة:
استيقظت الدجاج في السادسة صباحاً، على أصوات قوقوات الدجاج في الحديقة الصغيرة. مرتفعاً من القن المشبَّك بالأسلاك، دفعت يدي وأخرجتُ بيضة حارّة، ولم أسلم من شجار الديك.
قالت أمي ضاحكة:
- كان لابدَّ من شرائه.. فعندنا أربع دجاجات!.
- نعم.. هذا عدل.. ديك مقابل أربع إناث!..
قالت:
- هيا ياولدي.. لا تحزن!.
ربطت أصبعي بخرقة، وبعد تناول الإفطار، تحسنت حال أبي، استمعت إلى الأخبار من المذياع، نهضت ورحت أسير قاطعاً فناء الدار، مغنياً...
- لمَنْ تغني ياولدي؟!.
- لنفسي!.
- نعم.. شيء لطيف.. آه.. كنت مثلك أغني، هناك عند بحر يافا، وفي الأحراش المظللة بالبرتقال. وتحت عناقيد العنب، كنت أغني طويلاً، وكانت الملائكة تسمع صوتي، فتسبّح بحمد ربها، مثلما أسمعها الآن، وكنتُ آكل من أطباق نظيفة بيضاء.. كما آكل الآن.. وكنتُ..
- دعينا من أخبار الملائكة.. لا نريد ملائكة بعد اليوم!..
- وكيف؟!.
- وكيف ياولدي؟!.. وهم يجيئون كل ليلة من كوى الجدران، ثم يطيرون كالفراش الوديع، ويضيئون الظلام.. يصلّون، يسبحون، ويباركون الحُبلى ويشدون من عزم الرجال ويغردون للأطفال النا.....
- اسكتي يا أمي!.. لا أريد سماع أي شيء عنهم.. إنك لم تذهبي إلى المعابد ليلاً.. ولم تحضري جناز الأطفال الذين يموتون كل يوم على أيدي الكهنة. لم تشاهدي الموتى الذين تأكلهم الكلاب الضالّة المجنونة، لم تشاهدي الدماء الحمراء التي تسيل من أجسادهم، ومن ذقون الكهنة، لم تشاهدي دموع الثكالى اللاتي يصرخن عالياً.. عالياً على أيدي ملائكتك والكهنة..
- ولدي!. ياويلي!.
صرخت أمي وأضافت:
- ولدي نوّار!... لا تقل ذلك.. أبوك شاهد الملائكة!...
- متى؟!. عندما دنا أجله.. عندما.. عندما حان أوان رحيله.. أين شاهدهم؟!.
- اسكت يانوَّار.. أنت مجنون.. أنت لا تعرف ماتقول!..
- اسكتي يا أمي.. فلم يبق سوى ملاكٍ واحد لا يشاهده أحد سواكِ.. أما أنا.. فلم أشاهد إلا أبالسة يوقدون النار.. وشياطين متعطشة أجسادهم وعقولهم للفتك والدمار!..
اسكتي يا أمي.. فلم يبقَ سوى ملاك واحد في الدنيا... هو أنت.. أنت فقط!..
- نوّار.. أنت الشيطان الوحيد في الدنيا.. الذي ورث مملكة الأبالسة المغضوبين!..
- هناك أغنياتك يا أمي.. فما عادت وشوشات الشاطئ تشنّف أذنيك.. ماعادت همسات النجوم المطفأة، تحرّك أوتار بدّنك البدين إلى الرقص.. مضى أوان الفرح وجاءت الأحزان ملقيه أمامها الماضي الساطع والحاضر الأسود!..
- اذهب بعيداً يانوّار.. ياولدي.. واغسل وجهك!.. نظرت في المرآة، وشاهدت سوزان المبتسمة، ثم وضعت كفي على وجهي، وخاطبت سوزان بهمس عن كل ما أحسُّه نحوها.. ثم طبعت قبلة حارة على وجهها، وصحت بيأس:
- آه ياسوزان.. يا مَنْ لا تشعري بي.. آه ياسوزان!..
سأل أبي عما حدث فوق السقف، رحنا نشتم الأغبياء الذين يؤثرون الأنانية على مصلحة الجميع..
- هل تعرف ياولدي ماهو الإثم؟!..
- لا يا أبي.. إنني سعيد ولا أشعر بأي ألم في عذابي!..
- إن عظامي تسحق سحقاً من شدة الألم!.
- إنك متوعك الصحة... وسيزول الألم قريباً.. أمرتني أمي أن أهتم بشؤوني، وأترك أبي لهذيانه، ارتديت ثيابي وخرجت إلى الشارع، والتفتَّ إلى الأعمدة السامقة نحو السماء، مهيبة، مجللة بالاحترام، وعند أطراف الفجوة، قام الخبراء بترميم بعض القطع الأثرية، ولم يخف ذلك عن عين الشرطة الذين يجوبون المنطقة خوفاً من حدوث السرقات.
كان التراب يغطي الشاعر المرصوف، لقد عاد التراب، عادت الطفولة، عادت الأغنيات، عادت الأناشيد، أشجار الزيتون، وأعواد القصب، عادت أنفاس البعوض وأغنيات الضفادع.. ياله من أمر جميل..
ياله من أفق متّسع، وراءه الحقل المجدب، والسماء البعيدة والجبال، لا منازل، لا نساء، لا أعمال، لا ضجة، سكون رائع جميل، مشيت حتى تجاوزتُ الأعمدة، ونظرت في الفجوة، فلم أجد إلا حفرة صغيرة يعمل فيها الرجال، سألت عمّا حدث، قيل بأن انهياراً أدى إلى قتل بعض العمال وأحد المهندسين، وطمر الآثار التي كانت قد ظهرت.
تراجعت ضاحكاً، ورحت أركض إلى الهضاب التي ظهرت من جديد، ركام المنازل، جثث الناس، الأطفال الذين تمزقت أوصالهم الدقيقة، أطفال الموت، شيوخ أموات، نساء أموات، رحت أختبئ خلف التلال البعيدة وأضحك عالياً، عالياً، عالياً، عالياً... عالياً.. كنت أضحك عالياً حتى تركتُ طيور الحجل، حيلتها وفرّت طائرة إلى أعالي الجو، حتى تنادت الجنادب وقالت كلمة السر، ووصلت الهضاب البعيدة، حيث الجبال تليها، حيث الجبال الشاهقة العظيمة، الجبال الخالدة..
عدت أدراجي في الواحدة ظهراً، لأنال قسطاً من الراحة، وأثناء مروري بالرفاق، شاهدت زنودهم القوية مكشوفة، وأفواههم الواسعة، وأصابعهم القوية، خلعت الحذاء عند المدخل، كان الدجاج يبقبق خلف أسلاكه، نظرت إلى الداخل، إلى التي كانت تجلس، ثم سألت أمي:
- أليست تلك سوزان؟!.
- إنها دلال ياولدي!.
أضافت ضاحكة:
- أم تراك نسيت أن سوزان قد رحلت منذ أيام مع زوجها؟..
- هل رحلت سوزان حقاً مع زوجها؟!..
- لقد تزوجت سوزان ياولدي.. ولك عندي كيس حلوى من أنطوانيت.. نسيته في المطبخ!..
- ألم تترك سوزان شيئاً.. رسالة صغيرة مثلاً؟!..
سألت أمي مندهشة:
- لماذا ياولدي؟!..
- إنني صديقها كماتعرفين!.
تبعتني أمي ضاحكة، وأمسكت رقبتي،ونظرت إلى عيني قائلة:
- الملائكة تبتسم ياولدي.. الملائكة لا تبكي ياولدي.. الملائكة تبتسم!.
جلستُ تحت شجرة الأزدرخت، وقدمت في خطوط كفي، ثلاثة خطوط طويلة، خطان يلتقيان في خط واحد، ليخرج إلى الجهة الخارجية، وخط مفرد يتجه إلى الأصابع..
لا..
كنت وحيداً الآن.. تحت الشجرة العقيمة الوارفة الظلال..
لم أفكّر بأي شيء إلا بابتسامة سوزان، سعادتها الكبرى، بعدما فارقت الحي، إلى بعيد.. بعيد.. بعيداً عن الأشباح التي كانت تصرخ في الفجوة، وتتكلم وتغني..
ولكن.
هل كنتُ أستطيع نسيانها؟!..
كنت أستطيع إسقاط إي شيء في هاوية النسيان، إلا العواطف القوية التي تغلغلت في أعماق صدري..