ضاق الرجل ذرعاً بفشل ابنه المتكرر، فهو شبه أمي.. لم يتم المرحلة الابتدائية.. كان يقضي في الصف الواحد سنتين، ولولا الترفيع الآلي لما بلغ الصف الرابع أو الخامس. وعندما ترك الدراسة لم ينجح في زراعة أرض أو رعي أغنام، ولم يتقن أية صنعة أخرى، فقد كان عابثاً لاهياً، ضيّق الأفق، محدود الذكاء، لا يشعر بمسؤولية وليس لديه طموح. تراه في قريته أو في القرى المجاورة، يتوسط حلقات الدبكة والأعراس، ويصدح مجاناً ودونما دعوة بصوته الذي يعتقد أنه نعمة حباه الله بها دون أقرانه جميعاً. قال له والده: - اسمع ياخلف، والله لقد عجزتُ منكَ ومن أفعالكَ، أنت لا تنفع، لا للصيف ولا للضيف، ولا تميز الألف من عصا الراعي، وأنا أرى أن تحمل نفسك إلى العاصمة، وتذهب إلى (غناش) ابن عمّك، لعلّه بنفوذه وسلطته يجد لك عملاً. قال خلف بجلافة: هو ليس ابن عمي. - افهم ياولد.. غناش ابن قريتك وعشيرتك، فهو ابن عمك، ولا تنس أنك بحاجة إليه... *** عندما مثل خلف -بتفخيم اللام- بين يدي قريبه وابن قريته ووضع أمامه ماحمله إليه من السمن والجبن.. ذهل مما رآه فيه من أبهة ونعيم، فتح فمه دهشة، ووقف مشدوهاً لا يدري ماذا يقول... حاجبٌ على الباب، وسكرتيرة أنيقة جميلة، بثوب قصير وعطّر أخاذ.. أثاث وثير، أجهزة هاتف.. تلفزيون ملون، وأشياء أخرى لايعرف أسماءها. سأله غناش: - ماذا تريد أن تعمل هنا وأنت لا تحمل مؤهلاً ولا شهادة. إذا كنت لم تجد الفرصة في قريتك الصغيرة النائية فكيف تجدها هنا. قال خلف دونما اكتراث: لا أدري.. أبي أرسلني إليك. صمت غناش، نظر إليه وإلى الهدية.. حك رأسه، فكر طويلاً ثم قال مبتسماً: - أتذّكر.. أنك كنت تغني.. - نعم.. ومازلت.. - صوتك جميل؟! - جربني... وهمّ أن يغني، فأشار إليه ألاّ يفعل.. فالمكان غير مناسب. ثم قال: - إذاً.. لا مشكلة، وجدتها. رفع غناش سماعة الهاتف، وبنبرة جادة صارمة قال: - ألو.. الإذاعة والتلفزيون.. أعطني المدير.. أنا غناش، يصلكم بعد قليل، خلف، نعم.. اسمه خلف، يهمني أمره، أريده أن يغني.. -..... - قلت أريده أن يغني.. أنا أزكّيه... لا لجنة موسيقية ولا اختبار صوت... -...... - ياعزيزي، أجهزة الصوت الحديثة تفعل المعجزات.. مثله مثل من يثـقبون آذاننا بزعيقهم، إن لم يكن أفضل. دارت الأيام، وتعاقبت الشهور، ولم يمضِ عام واحد حتى صار خلف -بتخفيف اللام- نجماً لامعاً، في الإذاعة والتلفزيون، له معجبون ومعجبات، صوره تنشر في المجلات وتباع في المكتبات... يلبس الحرير ويوقّع على البطاقات، يقود سيارة، ويلعب بالدينار والدولار. أما غناش، فقد عُزل من منصبه، وفقد امتيازاته، فعاد إلى القرية، يدٌ من الأمام وأخرى من الخلف. يعيش على ذكريات الماضي وأمجاده.. لا يرضى أن يزاول عملاً، بعد الجاه والمنصب، ولا أن يتلقى أمراً من أحد، بعد أن كان آمراً ناهياً. ولما اشتد كربه، وانفض عنه الناس.. الأقرباء والأصدقاء، بعد أن صار مملاً ثـقيل الظل، حمل نفسه إلى العاصمة، واتجه صوب مبنى الإذاعة والتلفزيون... قابل المدير بعد جهد وانتظار وتوســُّلٍ وبطاقة توصية من قريبه خلف.. ذكّره بنفسه ورجاه أن يجد له عملاً، كما فعل مع قريبه الذي صار نجماً. ضحك المدير: الذي لم ينهض من مقعده، ولم يرفع إليه رأسه وقال ساخراً: - خلف يغني، أما أنت... فلا تغني...
ضاق الرجل ذرعاً بفشل ابنه المتكرر، فهو شبه أمي.. لم يتم المرحلة الابتدائية.. كان يقضي في الصف الواحد سنتين، ولولا الترفيع الآلي لما بلغ الصف الرابع أو الخامس. وعندما ترك الدراسة لم ينجح في زراعة أرض أو رعي أغنام، ولم يتقن أية صنعة أخرى، فقد كان عابثاً لاهياً، ضيّق الأفق، محدود الذكاء، لا يشعر بمسؤولية وليس لديه طموح. تراه في قريته أو في القرى المجاورة، يتوسط حلقات الدبكة والأعراس، ويصدح مجاناً ودونما دعوة بصوته الذي يعتقد أنه نعمة حباه الله بها دون أقرانه جميعاً.
قال له والده:
- اسمع ياخلف، والله لقد عجزتُ منكَ ومن أفعالكَ، أنت لا تنفع، لا للصيف ولا للضيف، ولا تميز الألف من عصا الراعي، وأنا أرى أن تحمل نفسك إلى العاصمة، وتذهب إلى (غناش) ابن عمّك، لعلّه بنفوذه وسلطته يجد لك عملاً.
قال خلف بجلافة: هو ليس ابن عمي.
- افهم ياولد.. غناش ابن قريتك وعشيرتك، فهو ابن عمك، ولا تنس أنك بحاجة إليه...
***
عندما مثل خلف -بتفخيم اللام- بين يدي قريبه وابن قريته ووضع أمامه ماحمله إليه من السمن والجبن.. ذهل مما رآه فيه من أبهة ونعيم، فتح فمه دهشة، ووقف مشدوهاً لا يدري ماذا يقول...
حاجبٌ على الباب، وسكرتيرة أنيقة جميلة، بثوب قصير وعطّر أخاذ.. أثاث وثير، أجهزة هاتف.. تلفزيون ملون، وأشياء أخرى لايعرف أسماءها.
سأله غناش:
- ماذا تريد أن تعمل هنا وأنت لا تحمل مؤهلاً ولا شهادة. إذا كنت لم تجد الفرصة في قريتك الصغيرة النائية فكيف تجدها هنا.
قال خلف دونما اكتراث: لا أدري.. أبي أرسلني إليك.
صمت غناش، نظر إليه وإلى الهدية.. حك رأسه، فكر طويلاً ثم قال مبتسماً:
- أتذّكر.. أنك كنت تغني..
- نعم.. ومازلت..
- صوتك جميل؟!
- جربني...
وهمّ أن يغني، فأشار إليه ألاّ يفعل.. فالمكان غير مناسب. ثم قال:
- إذاً.. لا مشكلة، وجدتها.
رفع غناش سماعة الهاتف، وبنبرة جادة صارمة قال:
- ألو.. الإذاعة والتلفزيون.. أعطني المدير.. أنا غناش، يصلكم بعد قليل، خلف، نعم.. اسمه خلف، يهمني أمره، أريده أن يغني..
-.....
- قلت أريده أن يغني.. أنا أزكّيه... لا لجنة موسيقية ولا اختبار صوت...
-......
- ياعزيزي، أجهزة الصوت الحديثة تفعل المعجزات.. مثله مثل من يثـقبون آذاننا بزعيقهم، إن لم يكن أفضل.
دارت الأيام، وتعاقبت الشهور، ولم يمضِ عام واحد حتى صار خلف -بتخفيف اللام- نجماً لامعاً، في الإذاعة والتلفزيون، له معجبون ومعجبات، صوره تنشر في المجلات وتباع في المكتبات...
يلبس الحرير ويوقّع على البطاقات، يقود سيارة، ويلعب بالدينار والدولار.
أما غناش، فقد عُزل من منصبه، وفقد امتيازاته، فعاد إلى القرية، يدٌ من الأمام وأخرى من الخلف. يعيش على ذكريات الماضي وأمجاده.. لا يرضى أن يزاول عملاً، بعد الجاه والمنصب، ولا أن يتلقى أمراً من أحد، بعد أن كان آمراً ناهياً.
ولما اشتد كربه، وانفض عنه الناس.. الأقرباء والأصدقاء، بعد أن صار مملاً ثـقيل الظل، حمل نفسه إلى العاصمة، واتجه صوب مبنى الإذاعة والتلفزيون... قابل المدير بعد جهد وانتظار وتوســُّلٍ وبطاقة توصية من قريبه خلف.. ذكّره بنفسه ورجاه أن يجد له عملاً، كما فعل مع قريبه الذي صار نجماً.
ضحك المدير: الذي لم ينهض من مقعده، ولم يرفع إليه رأسه وقال ساخراً:
- خلف يغني، أما أنت... فلا تغني...